رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم, من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة, ولم يتمكن هو ولا أصحابه من أداء العمرة ، غير أنه عقد مع قريش صلحاً أهم بنوده: وضع الحرب عن الناس عشر سنين , يأمن فيهن الناس , ويكف بعضهم عن بعض , وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه , ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه .
لقد جعل الله هذا الصلح فتحاً لما فيه من المصلحة التى أظهرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وغابت عن بعض أصحابه :’’ إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً ’’ ، وعلمها الأخرون ومنهم ابن مسعود رضى الله عنه حين كان يخاطب أصحابه : ( إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ) , نعم .. كان فتحاً جديداً فى مجال الدعوة إلى الإسلام ؛ إذ فرغ الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليتفرغ ليهود خيبر من جهة ، ولمراسلة الملوك والأمراء لدعوتهم لدخول دين الله طواعية واختياراً ، فأرسل إلى كسرى ملك فارس ، والنجاشى ملك الحبشة ، وهرقل ملك الروم ، وإلى المقوقس عظيم مصر .
كانت سفارة مصر من نصيب حاطب بن أبى بلتعة أحد فرسان قريش وشعرائها فى الجاهلية ، ومن الذين أسلموا مبكراً ، ولذا فقد شهد بدراً وأحد والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كات من الرماة الموصوفين ، وممن اتصفوا بالعلم والحكمة ، وحسن السمت ، وهكذا كان خلق وصفات كل من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم سفراء ، فلما قدم حاطباً مصر ونزل الأسكندرية حاضرة الملك ، ومقر إقامة المقوقس جُرَيْج بـن مَتَّي ، وسلمه الرسالة التى حمله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأخذها وهو يخاطب حاطباً: ما يمنع محمدا إن كان نبياً أن يدعو علىَّ فيهلكني؟ ، فأجابه حاطب : مامنع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبي عليه أن يفعل به كذا وكذا؟.
دار بين الرجلين حديث وسجال إنتهى بأن تأثر المقوقس بما فى الرسالة، كما تأثر بمنطق حاطب ، فوضع الكتاب في حق من عاج وختم عليه، واستدعي كاتباً يكتب العربية فأملي عليه: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك.. أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو اليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج من الشام. وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام).
أخذ حاطب طريق العودة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ركب يضم مارية بنت شمعون، وأختها سيرين، وعبد خصيٌّ يُدْعَى مأبور، وأَلْف مثقال ذهب، وعشرون ثوبًا لينًا من نسيج مصر، وبغلة شهباء تُسمَّى دلدل، وبعض من عسل، وبعض المسك، وبعض أعواد البخور.
لم تكن مصر الفرعونية التى خرج منها موسى شاباً ، ودخلها عيسى رضيعاً ، ودانت مؤخراً بالمسيحية ، وكانت تحت الولاية الرومانية ، لا تعرف ما معنى النبوة ، أو الدين السماوى ، أو أخبار نبى آخر الزمان ، بل أن مارية التى ولدت بقرية تدعى حَفن تقع على شرق النيل في صعيد مصر، وقضت فيها طفولتها، ثم انتقلت مع أختها سيرين إلى قصر المقوقس بالإسكندرية، كانت تعلم ذلك من البشارات المبثوثة بكتب ديانتها ، مثلما علمت أنها تسير فى ركب المصريات السابقات عليها وتزوجن بأنبياء وتأتى فى مقدمتهن السيدة هاجر وكانت مثلها سليلة ملوك .
كما لم تكن أخبار ظهور نبى بمكة بالحدث الذى يخفى على المصريين ، فقد ساهمت الطرق البرية عبر جزيرة سيناء في إقامة علاقات تجارية وثيقة بين غرب الجزيرة العربية و شمالها الغربي و بين وادي النيل (مصر) ، كما كان تجار قريش يأتون إلي مصر حاملين بضائع الشرق من اللبان والبخور والتوابل والفضة والحرير، فيبيعون بضائعهم، ويشترون منها الثياب الغالية، أو ما يعرف بالقباطي والمشغولات والزجاج، بالإضافة إلى أنواع الطعام المختلفة وخصوصًا القمح والذرة ، وكان أشهر الطرق البرية طريق القوافل، من مصر إلى الجزيرة والعكس، وبخلاف الطرق البرية ، كان هناك طريق بحري يربط الجزيرة بمصر مباشرة حيث ترسو المراكب البسيطة الصنع في ميناء القلزم (السويس اليوم) على شاطئ البحر الأحمر .
كان الطريق طويلاً ويكفى لأن يسرد حاطباً على الأختين قصة الإسلام ، ونبيه الكريم ، وذلك حتى يزيل أسباب الوحشة من نفوسهن خاصة وأنهما قادمتان على بلد لا يعلمن عن جغرافيتها ـ ربما ـ إلا أنها حارة ، فلما أحس منهما حاطباً ارتياحاً وانشراحاً عرض عليهما الإسلام فأسلمتا لتوهما .
وصل الركب إلى المدينة ونزلت منه مارية شابة اجتمع في وجهها الجمال الشرقى الفطرى الناضر فقد كان أبوها مصرياً ، والجمال الرومى المشرب بالحمرة والبياض فقد ولدت لأم رومية ، سارت مارية أولى خطواتها تأخذ العين طلتها ، فقد كانت بحق جميلة جعدة ـ أى جَعْدةُ الشعرِ ومرادُهُ أنه ليس بِالسَبِطٍ وهو المنبسطُ المسترسل الذي لا تَكسُّرَ فيه ولا بِجعدٍ ـ فنزلت من الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة طيبة ، فأمر بإنزالها وأختها سيرين على أم سليم الغميصاء بنت ملحان فى أول الأمر ، ثم مالبث أن وهب إلى شاعره حسان بن ثابت سيرين ، ليحتفظ بمارية فى بيتٍ لحارثة بن النعمان الأنصارى ، لتسكن بالقرب من بيت عائشة .
والذين يبحثون عن الحكمة النبوية فى تسرى نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بمارية ، بحثوا ربما عن جمالها وربما آنس من نفسه صلى الله عليه وسلم أن يحذو حذو جده خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام عندما تسرى بمصرية هى السيدة هاجر أم اسماعيل وجدة العرب العدنانيين ، وقد كان أشبه الناس صلى الله عليه وسلم بسيدنا إبراهيم عليه السلام وكأن التاريخ يحدثنا أن سنة إبراهيم سنة جارية استقرت في نهاية المطاف عند النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، أو كأنه يقول أن حركة المقدمة تستقيم مع حركة الخاتمة ، وليس أدل على ذلك من تسميته وليده من مارية فيما بعد باسم إبراهيم جده تيمناً به ، كما سيأتى ..
كانت حياة مارية قواسم مشتركة مع سيدات بيت النبوة ، فقد أنجبت الولد لرسول صلى الله عليه وسلم ، كما أنجبت له السيدة خديجة رضى الله عنهما ، وقاست معه مرارة فقد الولد كما قاستها خديجة من قبل ، بل كانت قسوة مرارة الفقد عليها أشد ، فقد كان ابنها ، وحيدها ، وكانت غريبة ، فكان أنيسها ، وعاشت معه صلى الله عليه وسلم السنوات القليلات المتبقيات من عمره كما عاشتها السيدة ميمونة بنت الحارث رضوان الله عليهما ، وعاشت مرارة الإفك كما عاشتها السيدة عائشة رضوان الله عليهما ، فاتهموها فى ابن عمها مأبور وقد كان رفيقها فى رحلة الخروج من مصر ، وكان يجلب لها الماء بالعالية إحدى ضواحى المدينة ، وكان مجبوباً ( مقطوع الذكر ) ، وكأن الطبيعة البشرية من قبل عهد النبوة وأثناءها وبعدها طبيعة لاتعرف الاعتبار ؛ فلم يكن زمن خوضهم فى عرض عائشة ، وآيات براءتها ليس ببعيد ، وكما غارت سارة من هاجر فأبعد نبى الله إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها إسماعيل أميالاً طوالاً ، أبعد رسول الله مارية أميالاً أقل تصل إلى الثلاثة وذلك لغيرة عائشة من مارية ، ليرزقها الله الولد بعد عام من رحيلها .
يقولون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التردد عليها ، والبقاء عندها ، وربما كان هذا منه دفعاً للوحشة عنها ، وإحساسها بالغربة عن الأهل والديار ، وربما يقينه بأن العمر لن يمتد به لتأنس إليه ، وتشبع منه .
لم تكد تضحك الأيام لمارية إذ أصبحت أم الولد ، فصارت حرة ،حتى أقبلت الأحزان تترى عليها إذ تُوُفِّيَ وحيدها إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ابْنَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ’’ادْفِنُوهُ بِالْبَقِيعِ ، فَإِنَّ لَهُ مُرْضِعًا تُتِمُّ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ" ،وكأن وفاة إبراهيم قد جلبت كل أيام الحزن البعيدة على كل أولاده وبناته صلى الله عليه وسلم ، وكأن القلب الكبير قد أنهكته سنوات الدعوة والأحزان فتاق إلى الرفيق الأعلى ليتوفي صلى الله عليه وسلم بعد سنة واحدة من وفاة ابنه ؛ فقد كان المصاب الجلل الذى هز المدينة بمن فيها ، ويهد مارية ، ويهدم الدنيا فوق رأسها ، لتقضى السنوات الخمس المتبقيات من رحلة الحياة بين رؤية أختها سيرين ـ وهى كل ما تبقى لها من أهل ـ وزيارتها لتأنس برفيق العمر صلى الله عليه وسلم تارة ، والاسترواح بالقرب من ابنها بالبقيع تارة أخرى.
ولم تعمِّر السيدة مارية طويلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث توفيت مرضياً عنها من الله ورسوله سنة ست عشرة من الهجرة، وصلى عليها عمر بن الخطاب ودفنت بالبقيع بجانب ابنها وأمهات المؤمنين.
رحم الله خاتمة المصريات فى الطور الأخير من ختم النبوات ، ماتت ولها فى كل عنق مصرى ومصرية دين إلى أن يبعث الله الأرض ومن عليها ، فبسببها أوصى رسوله المسلمين فى نبوءة ستتحقق فى عهد عمر بن الخطاب ، بقيادة عمرو بن العاص سنة 21هـ ، حين قال صلى الله عليه وسلم :’’ إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِىَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ». أَوْ قَالَ « ذِمَّةً وَصِهْرًا فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِيهَا فِى مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا » مسلم (6658) .
ساحة النقاش