أهلَّ ذو القعدة من العام السابع الهجرى على المسلمين وهم فى شوق لقدومه السعيد ، ولما لا فقد جاء بعد عام مضى على توقيع صلح الحديبية بين المسلمين ومشركى مكة ، وفيه نص بأن يعود المسلمون فى عام قابل ويدخلوا مكة ليمكثوا بها ثلاثة أيام لايزيدون عليها ، فهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالاعتمار ممن شهد معه الحديبية فكان تعدادهم ألفين رجل بدون النساء والصبيان وممن استشهدوا ، وساق ستين بدنة ، كما تقلد سلاحه مخافة الغدر من قريش.
كان هذا المشهد فى المدينة أما فى مكة فقد خرج المشركون إلى جبل قُعَيقْعَان يرقبون دخول المسلمين يتقدم موكبهم المهيب الرسول صلى الله عليه وسلم راكباً ناقته القصواء وعبدالله بن رواحة بين يديه يقول الشعرمتوشحاً سيفه :
خَلُّوا بنى الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير فى رسوله
أخذ الانبهار بمرأى ومسمع ولب وقلب برة بنت الحارث بن حَزْن الهلالية ، وهى تشاهد عن قرب الرجل الذى سبقتها أختها لأمها زينب بنت خزيمة بالزواج منه ، فتتردد فى جنبات فؤادها أمنية الاقتران به صلى الله عليه وسلم ، ينقلها لسانها دعوات دامعات صادقات تمر فوق رأس ذلك الطاهر الطائف بالكعبة ملبياً ثم تصعد إلى رب السماء حارة ساخنة أسخن وأحر من حر مكة .
تهرع عجلى لبيت أختها لأبويها أم الفضل لبابة الكبرى لتحكى لها جلال ما شهدت ، ثم تسر إليها على استحياء برغبتها العارمة ، فتشفق عليها أختها التى هرعت هى الأخرى إلى زوجها وعم الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب الذى خف للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فالتقاه بالجحفة ودار بينهما مادار من حديث عنها وعن سنوات عمرها السادسة والعشرين، وعن فراقها من زوجها الأول مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي الذى تزوجها في الجاهلية ، ثم ترملها من أبى رهم بن عبد العزى العامرى .
لم تكن برة بالغريبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهيَّ وثلاث من أخواتها من قال فيهن( الأخوات المؤمنات) ، وذلك فيما رواه ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ :’’ الأَخَوَاتُ مُؤْمِنَاتٌ : مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ ، وَأُخْتُهَا أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ ، وَأُخْتُهَا سَلْمَى بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ حَمْزَةِ ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أُخْتُهُنَّ لأُمِّهِنَّ’’، كما أن أختها لأمها السيدة زينب بنت خزيمة رضى الله عنها ضمها بيت النبوة زوجاً كريماً لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، فوافق على زواجه منها، وأصدقها ، وكان قد بعث ابن عمه جعفرًا - زوج أختها لأمها أسماء بنت عميس- يخطبها، فلما جاءها الخاطب بالبشرى - وكانت على بعير- قالت: البعير وماعليه لرسول اللَّه، وجعلت العباس وليها في أمر الزواج.
كان بعيرها هدية منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذى حقق أمنيتها ، وهىَّ التى تعلم أنه إنما أنعم عليها بمثل هذه الزيجة رغم نصيبها الفقير من الجمال ، وعمرها الذى شارف على الدخول فى مدار العقد الثلاثينى ، من دواعى البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها الذين آزروه ونصروه ،غير أنها لم تكن من الواهبات أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالواهبة لا تقبض مهراً ، بينما أمهرها صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم ، وقيل بخمسمائة درهم ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات، وإنما هىَّ فقد دخل بها صلى الله عليه وسلم.
شارفت الأيام الثلاثة على الانتهاء ولم تكد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه يشبعان من مكة موطنه خير أرض الله و أحب بلاد الله إلى الله الذى شهد ميلاده ، وشب فيه صبياً ، وتزوج فيه وأنجب ، ونزلت عليه الرسالة فى قمة من قمم جباله الشوامخ ، وضم ترابه رفات زوجه الأولى وبعض بنيه ، فكيف بالله تكفى سويعات من عمر الزمن هى بمثابة قطرات لتروى ظمأ ذلك المهاجر عن دياره قرابة السبعة أعوام ، ولم يكن هذا حاله وحده بل حال أصحابه ، وهو الذى يدرك مدى حبهم أيضاً لمكة ، فلم يجد إلا مناسبة زواجه من برة ليعرس بها بين أهلها ، عسى أن تطول مدة الإقامة ويلتقى القرشيون والمسلمون فتكون مدعاة لكسر الحاجز النفسى بين الجانبين ، ومحاولة للتقارب ، وفرصة للمهاجرين فى رى ظمأ شوقهم للوطن والأهل ، غير أن حُوَيْطِباً بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى أتى النبى فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، فَقَالُوا لَهُ : إِنَّهُ قَدِ انْقَضَى أَجَلُكَ فَاخْرُجْ عَنَّا ، فقَال َلهم صلى الله عليه وسلم فى مودة :’’ وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي ، فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، فَصَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ ؟’’، ولكنهم ردوا فى غلظة وجفوة : لاَ حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِكَ ، فَاخْرُجْ عَنَّا .
كان صلى الله عليه وسلم كريم الأخلاق ، وفياً لعهوده ومواثيقه ، فلم يشأ أن يخالفهم ، فَخَرَجَ بمن معه ، ولم يشأ أيضاً أن يجعل العروس تنتظر حتى يصل إلى دياره بالمدينة ، فأمر أصحابه فنزلوا بِسَرِفٍ على بعد عشرة أميال من مكة أو أقل، فأعرس بميمونة وهو الاسم الذى اختاره لها صلى الله عليه وسلم تيمناً بدخوله مكة معتمراً بعد غيبة سنوات عنها.
عاشت ميمونة فى بيت النبوة أجمل أيام عمرها فى عبادة ، وعلم ، وتقى ، وجهاد ؛ فقد نقلت رضى الله عنها في غزوة تبوك الماء والزاد، وشاركت فى إسعاف الجرحى، وتضميد جراحهم، حتى أصابها يومئذٍ سهم من سهام الكفار، أما العلم فيشهد لها أنها كانت من الحافظات المكثرات لرواية الحديث النبوى الشريف فقد روت ستاً وسبعين حديثًا ولم يسبقها فى ذلك من أمهات المؤمنين سوى عائشة وأم سلمة مما أهلها أن تنقل سنة النبى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته للصحابة والتابعين ، أما التقى فتشهد لها به السيدة عائشة رضى الله عنها حين قالت : (أَمَا إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَتْقَانَا للهِ، وَأَوْصَلِنَا لِلرَّحِمِ ).
أحبت النبى صلى الله عليه وسلم ، وكانت كأختها زينب بنت خزيمة ، لم تسبب له عنتاً ولا مشقة ، ولم تفتعل الخصومات مع لداتها من أمهات المؤمنين ، بل كانت تحب له ما يحبه هو ، ويبدو هذا بجلاء حين اشتد به المرض وهو في بيتها ، فاستأذنت منها عائشة فى أن تنقله إلى بيتها ليُمرّض ، فأذنت لها لعلمها بموقعها عنده ، ولرغبته فى ذلك ، كما أنها كانت لاتحب مالا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأطعمة ، وذلك فى أنه كان لا يحب أكل الضب لأنه لم يكن بأرض قومه ، ومع أنه لم يحرمه صلى الله عليه وسلم إلا أنها قالت: (لا آكل من طعام لم يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يبادلها حباً بحب حتى أنه كان يغير عليها غيرة شديدة ، وذلك أنه قدم في وفد بني هلال شاباً يدعى زياد فدخل منزلها لأنها كانت خالته من أختها غُرَّة بنت الحارث، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فرآه عندها فغضب ورجع ، فقالت: يا رسول الله! هذا ابن أختي ، فدعاه فوضع يده على رأسه ثم حدرها على طرف أنفه ، فكان بنو هلال يقولون ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد.
مرت الأيام سراعاً على ميمونة في البيت النبوي وإن كانت ثلاث سنوات، غير أنها كانت أحسن حظا من أختها زينب التى لم تعش سوى ثلاثة أشهر ، كما أنها عاشت بعد الرسول زمناً نفعت فيه الإسلام والمسلمين ، وما أن أظلها العام الواحد والخمسين للهجرة حتى أحست بحنين جارف إلى مكة موطنها ، وموطن البيت المعمور ، وموطن زواجها من الرسول صلى الله عليه وسلم ، فشدت الرحال للحج وهى فى العقد الثامن من عمرها ، وشعرت بعدها بدنو الأجل فقالت لمن حولها : أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن لا أموت بمكة، فحملوها حتى أتوا بها سرف إلى الشجرة التي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها في موضع القبة فماتت، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها هو ويزيد بن الأصم وعبد الله بن شداد وهم بنو أخواتها، وعبيد الله الخولاني وكان يتيما في حجرها .
رحم الله أمنا ميمونة بنت الحارث ، آخرأزواجه صلى الله عليه وسلم ، وأول من ماتت منهن فى نفس موضع عرسها ، حنيناً ووفاءً ونبؤة من زوجها صلى الله عليه وسلم ، و ثانية الراحلات خارج بقيع المدينة لتلحق بالسيدة خديجة قريباً منها بمكة لتكون إحداهما بالحجون والأخرى بسرف ، فتكون مكة بهذا قد ضمت إلى مكانتها مكانةً أخرى وشرف ، حيث ضم ترابها رفات أول أزواجه صلى الله عليه وسلم وآخرهن .. رضوان الله عليهن جميعاً .
ساحة النقاش