لم تكن بنت أبي سفيان؛ صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويَّة ، بعيدة عن أحداث مكة وما يدور فيها عن ظهور نبى يدعو لدين جديد ، بيد أنها كانت مهيأة تماماً لهذا وكيف لا وزوجها عبيد الله بن جحش الأسدى كان من الذين ينكرون وثنية قومه ، وخرج عليهم من قبل حين اعتنق المسيحية ديناً يعتنقه ،وكيف لا تعلم عن أمر نبى الإسلام شيئاً وهو ابن عمة زوجها ، وكيف تكون بعيدة ووالدها نفسه هو رأس الكفر الذى يشن على محمد بن عبدالله حرباً شرسة من أجل اثناءه عن دعوته التى فرقت قومهم ، وجرأت عليهم العبيد ، وتهدد مكة كلها وما حولها ؛ بتجارتها وآلهتها ومكانتها .
هاجرتْ رملة التى أصبحت كنيتها(أمُّ حبيبة) مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية وهى حامل فتلد له حبيبة هناك ، تاركة وراءها رغد العيش ، والعزة والمنعة ، لتخرج إلى بلاد لم تعرف عنها شيئاً ، يفصل البحر بينها وبين موطنها وهىَّ التى لم تعتد ركوبه ، راضية بكل هذا فى سبيل دينها ، الذى رأت كل تضحياتها فى سبيله تهون .
لم تصفو الأيام لها فى غربتها .. وكيف ؟! ..وزوجها تتبدل أحواله أمامها ، وتحذره ،وينهرها مكذباً صدق إحساسها فيما ترى ، إلى أن خلدت للنوم ذات ليلة فتهاجمها رؤيا أفزعتها رأت فيها كأن عبيد الله بن جحش بأسوأ صورةٍ وأشوهه، ففزعت ، وقالت تحدث نفسها : (تغيَّرَتْ والله حالهُ).
ما كاد الصبح يعلن عن دخول الحبشة فى يوم جديد من أيام الله حتى فاجأها عبيد الله بما لم تتوقعه ، فكل ما حسبته من أمره فقط هو تغير فى أخلاقه لايمكن أن يقوده أبداً إلى ترك عقيدته ، فقال يخاطبها: يا أمَّ حبيبة، إني نظرت في الدين فلم أَرَ دينًا خيرًا من النصرانيَّة، وكنتُ قد دِنْتُ بها ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت في النصرانيَّة، فقالت الله وهىَّ تنتفض من هول ماسمعت :( والله ما خِيرَ لكَ )، ولكى تثنيه عن عزمه أخبرته برؤياها التى رأتها ، فلم يحفلْ بها، حتى مات أخيراً بعد أن انصرف فى أيامه التى سبقت حتفه مقيماً على الخمر يملأ بها جوفه ليل نهار .
تركت وطنها لوطن جديد عليها ، وفارقت دين آبائها لدين جديد عليها ، وهاهى عليها أن تواجه الدنيا وحيدة بلا زوج ، وأهل تدرك تماماً مدى ما ستلاقى منهم من شماتة وسخرية إذا ما عادت وتلاقت الوجوه ، وكيف لها أن تعود ، إنها فى موقف صعب .. صعب جدداً ، فقد أصبحت فى المنطقة الخطر لا تستطيع أن تتقدم خطوة أو تتأخر مثلها ، من ينقذها من تلك المحنة القاسية التى لم تحسب لها حساباً .
ما كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بعيداً عنها آنذاك ،فقد كان وهو يهاجر إلى المدينة التى أراد أن يتخذها موطناً جديداً للمسلمين ، يتحسس أخبار أتباعه بمكة وأيضاً بالحبشة ،فما كادت تنقضى عدتها حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن أمية الضمرى بكتاب إلى النجاشى فى المحرم سنة 7 هجرية ليخطب عليه أم حبيبة .
رأت أمُّ حبيبة في منامها كأنَّ آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين. ففزِعْتُ فأوَّلتها أن رسول الله يتزوَّجها، ولم تشعر إلاَّ برسول النجاشي على بابها يستأذن، فإذا جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فدخلَتْ علَيها، قائلةً: إن المَلِكَ يقول لكِ: إن رسول الله كتب إلَيَّ أن أُزَوِّجَكه،فقالت لها أم حبيبة: بشَّركِ الله بخير، فقالت لها أبرهة: يقول لك الملك وكِّلي مَنْ يُزَوِّجك.
أرسلتْ أم حبيبة من فورها إلى خالدَ بن سعيد بن العاص، فوكَّلَتْه ، وأعطتْ أبرهة سواريْن من فضة وخَدَمتَين( خلخالين) كانتا في رجليها، وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها؛ سرورًا بما بشَّرتها به .
فلمَّا كان العشيّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومَنْ هناك مِن المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنه الذي بشَّر به عيسى بن مريم؛ أمَّا بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلَيَّ أن أزوجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقْتُها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. ثم قام خالد بن سعيد متكلماً ، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستنصره، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ؛ ليُظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. أمَّا بعد، فقد أجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوَّجته أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها باعتبار وكيل الزوجة، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا؛ فإن سُنَّة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يُؤكل طعامٌ على التزويج. فدعا بطعام وأكلوا، ثم تفرَّقوا.
لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا المحسنات من النساء المحبات للتصدق ، وهكذا كانت أم حبيبة فما أن وصل إليها المال حتى أرسلت إلى أبرهة التي بشرتها ، فقالت لها: (إنِّي كنتُ أعطيتُك ما أعطيتُك يومئذٍ ولا مال بيدي، فهذه خمسون مثقالاً، فخُذيها فاستعيني بها). فأبتْ أبرهة وأخرجتْ حُقًّا فيه كل ما كانت أعطته لها أم حبيبة فردته لها، وقالت: عزم عليَّ الملك أن لا أَرْزَأَكِ شيئًا( أى لا أنقص من مالك شيئاً)، وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعتُ دين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسلمت لله عزوجل، فحاجتي إليك أن تقرئي على رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام ،وتُعلميه أنِّي قد اتَّبعتُ دينه. قالت: ثم لطفتْ بي وكانت التي جَهَّزتني، وكانت كلَّما دخلت علَيَّ تقول: لا تنسَيْ حاجتي إليك .
عادت أم المؤمنين مع الذين عادوا مع جعفر بن أبي طالب ، عقب فتح النبي لخيبر ، ومعها هدايا زوجات النجاشى من العُودٍ، ووَرَسٍ، وعنبر وزبَّادٍ الكثير، فقَدِمْتُ بذلك كلِّه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأخبرته بأمر خطبتها وما فعلَتْ بها أبرهة، فتبسَّم، وأقرأْته منها السلام، فقال: "وَعَلَيْهَا السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ،ثم أنزلها صلى الله عليه وسلم إحدى حجراته بجوار زوجاته الأخريات، واحتفل نساء المدينة بدخول أم حبيبة بنت سفيان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أولَم خالها عثمان بن عفان وليمة حافلة نحر فيها الذبائح، وأطعم الناس اللحم.
وصل نبأ زواج النبى صلى الله عليه وسلم إلى بطائح مكة وديارها ، فخرج أبو سفيان مبتهجاً معجباً بصنيع محمد قائلاً : هذا الفحل لا يجدع أنفه .. فهو زواج أضفى على محمد كل إكبار وإجلال بعد أن كان معرضاً للسخرية لما فعله ابن عمته من الارتداد . وكان أكبر اإجلال ما شعرت به هذه الزوجة الأبية .. فقد كان زواج نخوة .. وزواج كياسة .. وزواج حماية لسمعة الدعوة ، زواج تم ’’على بياض ’’ فى ارض بعيدة ، ولا أحد يدرى هل يكتب للغائب العودة مع سائر الغائبين ، أم يكون اللقاء فى رحاب الله يوم يبعثون ، زواج يمكن أن يقال فى بواعثه أى شىء إلا أنه زواج شهوة ، أو قضاء نزوة .. هذا مجمل ما حكم به الدكتور نظمى لوقا ، المسيحى العقيدة ، فى كتابه : (محمد فى حياته الخاصة)، وهىَّ فى مجملها شهادة لايحتاجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يحتاجها كل من يرجفون حول سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم .
وبعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلَّتْ مخلصةً له ولدينه ولبيته؛ فيُروى أنَّ أبا سفيان بن حرب والدها قد جاء من مكة إلى المدينة طالبًا أن يَمُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم هدنة الحرب التي عُقدت في الحديبية، فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى ابنته أمِّ حبيبة ، فأراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته دونه، فقال: يا بُنَيَّة، أرغبت بهذا الفراش عني، أو بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت امرؤ مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بُنَيَّة، لقد أصابك بعدي شرٌّ. فقالت: بل هداني الله للإسلام، وأنت -يا أبتِ- سيِّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟! فقام من عندها .. غير أنها فرحت أيما فرح بعد ذلك فى فتح مكة حين أعلن أبو سفيان اسلامه ، وجعل النبى صلى الله عليه وسلم بيته أماناً لمن دخله ..
وتبقى سيرة أمنا أم حبيبة رضوان الله عليها سيرة مجدولة بكل عناصر التضحية ، والجهاد ، والايثار ، والغدر ، والوفاء ، والحب ، والذى يفرح من النصار بارتداد عبيد الله بن جحش ، عليه أن يتعظ ويغتم بسيرة إيمان ملك من ملوك الحبشة بالاسلام ، ومن يفرح بكره وحرب بعض قريش له وفيهم بعض أهله ، عليه أن يتأمل حب جارية النجاشى له صلى الله عليه وسلم .. وتمضى الحياة بنا وما أسرع الأيام كما يقولون .. وتوفى الرسول صلى الله عليه وسلم ، لتعيش بعده بسنوات أم حبيبة التى تحس ببوادر الرحيل للحاق به ، فارسلت إلى عائشة -رضي الله عنها-لتستسمحها قائلة: (قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك) ، لتجاوبها عائشة بنفس الأخلاق المحمدية التى ورثاها: (غفر الله لكِ ذلك كله، وتجاوز وحلَّلَكِ من ذلك)، فقالت أم حبيبة: (سررتني سرَّك الله). ثم أرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثل ذلك .. ثم غادرت الحياة مرضياً عنها وعن سائر أزواج النبى الطاهرات .. أمهات المؤمنين ، فى سنة 44 هجرياً فى خلافة معاوية بن أبى سفيان ، على أصح الأقوال ..
ساحة النقاش