دكتور السيد إبراهيم أحمد

 

 

   أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عودته من الحديبية نحو الشهر وبعض الشهر ، بعد أن وقع مع قريش صلحاً أحد أهم بنوده أن لاتقوم الحرب بين الطرفين عشر سنين ، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب فكره أن هذه الهدنة مناسبة تماماً لكى يهاجم القوى التي ماتزال تشكل خطراً على الإسلام، متمثّلة بيهود خيبر والقبائل الضاربة حولهم كبني غطفان.
 
 لم يكن هذا التفكير من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تفكيراً شريراً ، وحباً فى سفك الدماء ، وقتال المسالمين من الناس ، أو لأنه أراد قتال يهود خيبر لكونهم يهود وحسب مخالفين له فى العقيدة ، أو أنه تأديباً لمشركى غطفان لأنهم لم يتبعوا الدين الجديد ، كلا .. فقد تآمر يهود خيبر بالإشتراك مع بعض زعماء بنى النضيرلجمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فيما عُرف بغزوة الأحزاب، باذلين المال لهم لاجتثاث جذور المسلمين ،مع تدبير المحاولة تلو الأخرى مع المنافقين لإغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يطفئوا بذلك نور الإسلام إلى الأبد.

إذن فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مبيتاً النية لغزو خيبر لأنه علم أن بينهم بنت سيد القوم امرأة جميلة تدعى صفية هوأحق بها من زوجها ، فالرسول حتى بعد أن نصره الله بفضله على خيبر لم يكن يعرف من هى صفية ، بدلالة إنه لما أُسِرَت السيدة صفية بنت حُيي، وجُمِعَ السبي جاء دِحْيَةُ بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي. فقال: “اذهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً”. فأخذ صفيَّة بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي  فقال: يا نبي الله، أعطيتَ دِحْيَةَ صفية بنت حيي سيِّدَةَ قريظة وبني النضير، لا تصلح إلاَّ لك. قال: “ادْعُوهُ بِهَا”. فجاء بها، فلمَّا نظر إليها النبي  قال: “خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا”. وكانت -رضي الله عنها- عروسًا حديثة عهد بالدخول، فأمر النبي  بلالاً أن يذهب بها إلى رحلة، فمرَّ بها بلال وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله ، وقال: “أَذَهَبَتِ الرَّحْمَةُ مِنْكَ يَا بِلالُ؟”. وعرض عليها رسول الله  الإسلام فأسلمتْ، فاصطفاها لنفسه، وأعتقها وجعل عتقها صداقها ..

لم تكن صفية بعيدة عن الأحداث التى تمر بها قبيلتها ولا تلك التى تدور حولها ، ولما لا فهى صفيَّة بنت حُيَيِّ بن أخطب بن شعبة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن تحوم من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران ،وأُمُّها بَرَّة بنت سموءل، سيدة بني قريظة والنضير، أبوها حيي بن أخطب زعيم اليهود، وعالم من علمائهم، كان على عِلْمٍ بأن محمدًا  نبيٌّ مرسل من قِبَلِ الله منذ قدومه إلى المدينة، لكن أخذته الأنفة والعصبية لكون محمداً من العرب ،وقد علمت صفية بيقين أن هذا الذى ظهر ببلاد العرب هو النبى الحق الذى بشرت به الكتب السماوية ،وذلك فيما ترويه قائلةً : (لم يكن أحد من ولد أبي وعمِّي أحبَّ إليهما منِّي، لم ألقهما في ولد لهما قطُّ أهشّ إليهما إلاَّ أخذاني دونه، فلمَّا قدم رسول الله  قُباء -قرية بني عمرو بن عوف- غدا إليه أبي وعمِّي أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين، فوالله ما جاءانا إلاَّ مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحدٌ منهما، فسمعت عمِّي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال: تعرفه بنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بَقِيتُ).

  ويؤكد هذا إجابتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألها بعد دخوله عليها لما رأى بأعلى عينها خضرة فقال: ’’ما هذه الخضرة؟ ’’ قالت: كان رأسي في حجر بن أبي الحقيق ـ تعني زوجها، أي وهي عروس ـ وأنا نائمة، فرأيت كأن القمر وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تتمني ملك العرب،تماماً مثلما رأت جويرية بنت الحارث: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه و سلم بثلاث ليال كأن القمر أقبل يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر بها أحدا من الناس حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فلما أعتقني وتزوجني والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر فحمدت الله عز وجل. وصفية فى قصتها تتشابه فى بعض تفاصيلها مع قصة جويرية.
 
 هل تستطيع العروس الشابة ذات السبعة عشر ربيعاً أن تنسى ما حل بأبيها وزوجها وقومها سريعاً ، وهل يقبل المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم أن يتمم زواجه منها وهى على هذه الحال من الحزن ، والنفسية المتداعية ، وكونها مازالت على يهوديتها ، ويقبل أن يساكنها دون أن تعتد من زوجها السابق .. وعن صفية  أنها قالت :(انتهيت إلى رسول الله  وما من الناس أحد أكره إليّ منه قتل أبي وزوجي وقومي، فقال: يا صفية أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وكذا، وقالوا فيّ كذا وكذا، وفي رواية: إن قومك صنعوا كذا وكذا، وما زال يعتذر إليّ حتى ذهب ذلك من نفسي، فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إليّ منه).

 وأعرس بها رسول الله  بعد أن طهرت من الحيض في قبة وذلك إعمالاً لقوله صلى الله عليه وسلم :’’ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها ’’ ، ولهذا فقد دفعها لأم سليم لتصلح من شأنها، وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى متوشحاً سيفه يحرسه ويطوف بتلك القبة حتى أصبح رسول الله، فرأى مكان أبي أيوب، فقال: ’’مالك يا أبا أيوب؟’’، قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بكفر، فبت أحفظك، فقال: ’’اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ’’.

 لم يُكرِه الرسول صلى الله عليه وسلم أحداً على دخول الإسلام كما علمه وأمره ربه عز وجل ،إلا أن يكون منه عن قناعة ، ولذلك سأل صلى الله عليه وسلم صفية عن ذلك، قائلاً لها: ’’اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي – أي: تزوّجتك ــ ، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك’’، فقالت: ( يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إليّ من العتق وأن أرجع إلى قومي)..

  ماذا أحكى عن أمنا صفية رضى الله عنها وأرضاها ، التى اختارت الاسلام والرسول قبل أن ترى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما دلل على رجحان عقلها .. أم أحكى عن صدقها ، وحلمها ، أم عن كرمها ، وشجاعتها ..أما إذا بدأت بصدقها فقد شهد لها به رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حين سأل عائشة التى دخلت متنقبة على صفية لتراها بعد أن قدمت المدينة ونزلت فى بيت الحارثة بن النعمان وتحدث نساء الأنصار عن جمالها ، فلما خرجت خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أثرها ، فقال : ’’ كيف رأيت يا عائشة ’’ ،قالت : رأيتُ يهودية ، فقال :’’ لا تقولي ذلك.. فإنها أسلمت وحسن إسلامها’’، كما شهد لها ًصلى الله عليه وسلم بصدقها ثانية وهو فى مرضه الأخير ، وذلك حين قالت: والله يا نبي الله لوددت أن الذي بكَ بي. فغمزها أزواجه فأبصرهنَّ ، فقال:’’ مَضْمَضْنَ ’’ ، قلن: من أى شىء؟ ، قال: ’’ من تغامزكن بها ، والله إنها لصادقة ’’ ..

  إذن فقد شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بصدق إيمانها ، وصدق عاطفتها نحوه ، أما ما يشهد بصدق صفية وحلمها معاً فهو موقفها مع جاريتها التى أتت أمير المؤمنين عمر لتشى بها عنده فقالت : إن صفية تحب السبت وتصل اليهود ، فبعث إليها فسألها عن ذلك ، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها . ثم قالت للجارية ما حملك على هذا ؟، قالت: الشيطان، قالت: إذهبى فأنت حرة.
  أما تلك العاطفة الجميلة النبيلة الصادقة التى نشأت بين صفية وزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكاد المرء يخطىء حين يتلمسها فى أكثر من موضع ، بل يكاد يجزم أنه يحس بدفء تلك المشاعر حين يقرأها ، وذلك حين دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا : نحن أكرم على رسول الله منها نحن أزواجه وبنات عمه ، فذكرت له ذلك ،فقال:’’ ألا قلت وكيف تكونان خيراً مني وزوجي محمد ، وأبي هارون ، وعمي موسى’’ .. أى أن الرسول لا يهدأ خاطرها وحسب بل ينصرها على بنات أحب الناس إليه الصديق والفاروق ، بل و يلقنها ما تقوله لهما إذا ما كررا قوليهما .. بل تشهد بسمو تلك العاطفة الحارة فى نصرته لصفية على زينب بنت جحش بنت عمته إلى الحد الذى يصل إلى مقاطعتها حوالى الثلاثة أشهر وذلك حين حج الرسول صلى الله عليه وسلم بنسائه، فبرك بصفية جملها؛ فبكت و جاء رسول الله لما أخبروه، فجعل يمسح دموعها بيده ، و هى تبكى ، و هو ينهاها فنزل رسول الله بالناس؛ فلما كان عند الرَّوَاحِ ، قال لزينب بنت جحش: ’’أَفْقِرِي ـ أى أعطى ـ  أُخْتَكِ صفية جَمَلاً’’ – و كانت من أكثرهن ظهراً ـ فقالت: أَنَا أُفْقِرُ يَهُوْدِيَّتَكَ . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منها، فهجرها، فلم يُكلِّمْها حتى قدم مكة وأيام منى من سفره حتى رجع إلى المدينة والمحرَّم وصفر ، فلم يأتها ولم يقسم لها، فأَيِسَتْ منه، فلمَّا كان شهر ربيع الأول دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأت ظلَّه، فقالت: إن هذا الظلَّ ظلُّ رجل، وما يدخل علَيَّ النبي صلى الله  وسلم ، فلما رأته قالت : رسول الله ، ما أدري ما أصنع حين دخلتَ علَيَّ. وكانت لها جارية تخبِّئها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: فلانة لكَ .
 
   وفى حديث متصل بنفس الواقعة السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخذ يكفكف دمع صفية لما برك جملها ولم تنتهِ ، فزجرها وانتهرها وأمر الناس بالنزول فنزلوا ولم يكن ينوى نزولاً ، وخشيت على رسول الله أن يكون قد غضب عليها ، وقد كان هذا يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير أنها تركته لعائشة راجية منها أن تجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضى عنها .. وذلك لمحبتها له ، وخوفها من غضبه عليها ..

   وتحكى الأيام شجاعتها وشهامتها حين وقفت ترد بنفسها الثوار عن عثمان بن عفان أمير المؤمنين إلى أن أصابوا بغلتها ، ولم تكف برغم هذا عن مؤازرته حين وضعتْ خشبًا من منزلها إلى منزله لتنقل عليه الماء والطعام إليه بعد أن حاصروه ومنعوه عنه ..
كما تحكى كتب السيرة عن كرمها وسخاوة نفسها حين أهدت الزهراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعض أخواتها من أمهات المؤمنين حلقات من ذهب كانت لها ، وما أرادت أن تترك الدنيا ولها فيها أو منها شىء فتصدقت بثمن دارها قبيل وفاتها ، فهكذا تعلمت من زهده صلى الله عليه وسلم الزاهد القادر .

    أما الحكمة الكامنة فى زواجه صلى الله عليه وسلم غير زواجه من صفية لجمالها ، أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسى فينا مبادىء الرحمة ، والتسامح ، وأن صفية التى أتت من بيت نبوة ، وعلم ، ودين سماوى سابق ، لما تكشفت لها الحقائق عفت ، وصفحت ، وتسامت عن الأحقاد ، فسهل التواصل بينها وبين نبى آخر الزمان ، كما أن الأصل فى الإسلام أن يتزوج الرجل المرأة لدينها، فإذا كانت ذات جمال وخلق كان ذلك نعمة كبيرة، ولا يعد هذا مطعناً  في شخص وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

     توفيت رضي الله عنها  في رمضان سنة خمسين من الهجرة - في خلافة معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما- ودفنت بالبقيع بجوار أمهات المؤمنين، رضوان اللَّه عليهن أجمعين.

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 143 مشاهدة
نشرت فى 3 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,080