عمرها يقارب عمر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ ولدت مثلها قبل البعثة المحمدية بخمس سنوات أى فى العام الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة إنها حفصة بنت عمر بن الخطاب ، من زوجه زينب بنت مظعون رضي الله عنهم أجمعين .
ما كادت تبلغ سن الشباب حتى تقدّم إليها خُنيس بن حُذافة بن قيس بن سعد بن سهم القرشي السهمي، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع فهاجر بحفصة زوجه إلى المدينة .
شهد خنيس غزوتا بدر وأحد، التى أصيب فيها بجراحات ثخينات لم يلبث بعدها إلا قليلا حتى فاضت روحه سنة ثلاث للهجرة ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دفن بالبقيع بجوار قبر عثمان بن مظعون رضى الله عنهما، مخلّفاً وراءه حفصة رضي الله عنها وحيدة فلم تنجب له .
رق قلب عمر الأب لحال ابنته الشابة ذات العشرين ربيعاً أو دونها بقليل وهى تعود إلى داره حزينة ، كسيرة القلب ، وحيدة ، يجول بخاطره أسى على حالها ، يتردد صداه فى صمت كبركان يوشك أن ينفجر به لسانه أنها ليست مطمعاً للرجال فلم يكن نصيبها من الجمال كبيراً ، كما أن المسلمين بالمدينة آنذاك مازالوا يشكلون مجتمعاً صغيراً ، إذن فماذا عليه لو ذهب يلتمس لها زوجاً من أصحابه من المهاجرين ، و ماذا عليه لو بدأ بصنو روحه ، وحبيبه بعد حبيبه صلى الله عليه وسلم ، فليذهب إلى أبى بكر.. نعم يكبرها ، ولكن متى كان لفارق السن اعتبار فى المجتمع العربى ، فالرجال يظلون أقوياء حتى قبيل موتهم ، كما أن غالبيتهم من الذين يعمرون السنين الطوال .
خرج عمر من عند الصديق والغضب يتطاير من عينيه ، فلم يكن يظن أن جواب أبو بكر عليه سيكون السكوت ، ولو تكلم بالرفض متعللاً حتى بأسباب واهية لربما خفف هذا على الفاروق ، وهون عليه ، غير أن عمر القوى الشديد عز عليه أن يعود لابنته وحبيبته والحزن يعلو قسمات وجهه ، ومن المؤكد أن حفصة كانت ستلاحظ هذا وربما سألته السبب وألحت فذكر لها السبب ، فيضاعف هذا حزنها .
اتخذ عمر قراره بالمضى إلى عثمان ، غير أن جواب عثمان زاد من غيظه ، وحنقه ، ومرارة الرفض إذ قال له : (بدا لي اليوم ألا أتزوج )
فطار صواب عمر ، واشتد غضبه أكثر وأكثر ، وأصابه الحزن على ابنته أكثر وأكثر ، ولم يجد غير باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحابه ، فحط عنده رحاله ، والضيق والكرب ، والغضب يعلوه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرفه ، فسأله ، فأجابه الفاروق دون مواربة ، فعاجله الرسول صلى الله عليه وسلم بالدواء الشافى الذى يستل به السخيمة من قلبه ، و يطفىء نار الغضب من نفسه ، ويذهب الحزن على ما أصاب ابنته حفصة ، و يطرد ما يلاقيه من فزع على مصيرها ، فيقول له صلى الله عليه وسلم ’’ يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ، ويتزوج عثمان من هى خير من حفصة ’’.
لم يترك أبو بكر صديقه الصدوق عمر وقد وجد عليه ، وربما أغلق باب قلبه على ضيق منه ، وأشد الطعنات إيلاماً هىَّ التى تأتيك من أكثر الناس قرباً ومودة ، وما كان هذا ليخفى على الصديق الخبير بنفوس الناس وبعمر أخبر ، فما أن تم زواج حفصة من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وافى الصديق الفاروق بادئاً معه الكلام بمودة وحنو : (لعله كان في نفسك شيءٌ عليّ حين لم أُرجع إليك جواباً في حفصة ؟ ، فإنه لم يمنعني من ذلك إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لقبلتها) .
كان صلى الله عليه وسلم إذن غير بعيد عما يشغل أصحابه ، يدرى ما الذى يدخل السرور على قلوبهم ، وما الذى يكدر صفو أحوالهم ، ولهذا كان يعلم بما يئن منه ابن الخطاب ، وفاتح فيه أبا بكر ، وربما لو تمهل عمر فى عرض حفصة على الصحابيين الجليلين لبادر الرسول صلى الله عليه وسلم بخطبتها ، غير أن قلب الرسول أيضاً لم يبرأ بعد من حزنه على وفاة رقية ، ويهتم أيضاً ويحزن من بقاء أم كلثوم ابنته بدون زواج هىَّ الأخرى ، فكأنما أراد الله بسعى عمر أن يذهب الكدر عن صفوه وصفو رسول الله معاً بزواج كريمتيهما متتابعتين .
ويسجل التاريخ دخول حفصة البيت النبوى ثالثة الزوجات فى شعبان من السنة الثالثة من الهجرة ، فأحسنت سودة كما أحسنت عائشة استقبالها ، ولم لا ؟! .. فهىَّ مثلهما قرشية ، مكية ، مهاجرة ، غير غريبة عليهما فى هذا المجتمع المدنى الصغير ؛ فكانت سودة لعائشة وحفصة بمثابة الأم الرؤوم ، كما كانت حفصة الأخت الكبرى لعائشة ، وتظل عائشة فى قلب الرسول لها الحظوة فهى أصغرهما ، وأجملهما،
ولذلك لم يشهد بيت النبوة فى تلك الأثناء ما يكدر صفو الزوجات ولا صفو حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، بل تبارين فى إدخال السرور على قلبه ، وهو المهموم بتثبيت دعائم الدولة الإسلامية فى المدينة، غير بعيد من كيد اليهود ، وتدبير المنافقين ، وعداء رؤوس الشرك فى مكة غير البعيدة من المدينة.
غير أن هذا الصفو العام لم يكدره إلا نزغات النفس البشرية ، وما كان المجتمع ولا البيت النبوى مثالياً بل هو بيت يسكنه نساء من البشر وإن كن تزوجن من نبى فهو أيضاً من البشر ، أرسله الله ليقتدى به البشر فيما يفعل أو يقول ، والغيرة من أخص الطبائع البشرية وأكثر مظاهرها وتجلياتها عند النساء ، وبالتالى لم تنج منها حفصة ، فغارت من سودة كما غارت من عائشة ، كما غارت من نساء الرسول صلى الله عليه وسلم اللواتى قدمن بعدها ، وكان فى طبع حفصة حدة طالما حذرها منها والدها عمر من مخاطبة الرسول بها مخافة أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، مذكراً إياها أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تزوجها إلا إكراماً له ، ولولاه لطلقها .
خالفت حفصة يوماً ما أمرها به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فطلقها فما أن علم عمر بذلك الخطب الجلل الذى طالما حذر ابنته من الوقوع فيه حتى حثى التراب على رأسه ، قائلاً: (ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد اليوم)، غير أن رحمة الله أدركت عمر ، فأرسل جِبْرِيلُ للنبى صلى الله عليه وسلم : (رَاجِعْ حَفْصَةَ؛ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ ).
أى شرفٍ هذا الذى ناله عمر وابنته فى تلك الليلة ، حين شهد الله لابنته من فوق سبع سماوات بحسن عبادتها ، بل أن مكانها فى الجنة بنفس درجتها فى الدنيا (زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن أزواجه من بعده سيحملن مهمة شاقة فى تعليم المسلمين ما فاتهم من أمورهم فى بيت النبوة ، فحرص على تعليمهن ، أو إكمال تعليمهن ، فقد كانت حفصة مثل عائشة ممن يجدن الكتابة والقراءة ،يؤكد هذا ماروته الشفاء بنت عبد الله حين قالت : دخل علَيَّ رسول الله وأنا عند حفصة ، فقال لي : ’’ ألا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ؟’’.
عاشت حفصة رضى الله عنها فى كنف النبى صلى الله عليه وسلم ، ترتوى من النبع النبوى الصافى ، وتشهد نزول الآى الكريمات من السماء ، وتسمع القرآن بكراً طازجاً بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتتلمذت فى المدرسة المحمدية مثلها مثل باقى أزواجه رضوان الله عليهن ، تسأله عندما تجهل ، فيخبرها فتعلم .
توفيت الصوامة القوامة ، الأمينة على صحائف القرآن الكريم ، في شعبان سنة خمس وأربعين فى خلافة معاوية فرضى الله عنها وأرضاها.
ساحة النقاش