دكتور السيد إبراهيم أحمد

authentication required

 

   أوصى عبد المطلب ابنه أبا طالب بكفالة ابن أخيه الذى شارف الثامنة من عمره  لما أحس بمسير الموت إليه ، ولم يتململ أبو طالب أو يتردد أو يتعلل بفقره وكثرة عياله ، لأنه كان يعلم سر اختيار عبد المطلب له ؛ فهو الأخ الشقيق لوالد الطفل من جهة الأم فاطمة بنت عمرو بن عائذ ، وأنه أيضاً الوارث لمقام أبيه من قريش ، وربما لسبب خفى أراد عبد المطلب أن يؤثر أبا طالب بهذا اليتيم لما له من بركة لمسها الجد بنفسه من حال حفيده ، فعلم فى قرارة نفسه أنه لم يحمل ابنه فوق ما يطيق بل إنه ليهديه من سيكون سبب خير له ولأولاده وبيته ، كما كان أبو طالب نفسه حاضراً حين قال قوم من بني مدلج لعبد المطلب : احفظ به ـ يقصدون حفيده صلى الله عليه وسلم ـ فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم التي في المقام منه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: أسمع ما يقول هؤلاء . فكان أبو طالب يحتفظ به .
    
    والحق أن زوج عمه أيضاً لم تتبرم بمقدمه لدارهم بل فرحت به أيما فرح ولما لا فهى القرشية الهاشمية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، التى نشأت فى بيت من أشرف بيوت قريش وأعزها نسباً ومجداً، فقد كانت رضي الله عنها تلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده هاشم ، ولهذا فقد كان صلى الله عبيه وسلم لها مثل أولادها : طالبًا وعقيلاً وجعفرًا. ولهذا فقد تركت معاملتها فى نفس النبي صلى الله عليه و سلم - وهو طفل- أبلغ الأثر الذى ظل باقياً فى قلبه حتى مماتها رضى الله عنها وأرضاها.

  والحديث عن بركة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينتهى فحيث انتقل أو رحل ، أو حط أو استقر فى سفر أو حضر صلى الله عليه وسلم ، يحثها من حوله ويتحدثون عنها ويحدثون بها إلا هو صلى الله عليه وسلم ، أحستها بنت أسد وكذلك زوجها فقد تغير حال أولادهم بعد حضور ابن أخيه عما قبل ؛ فالأولاد يأكلون ويشبعون ويفضل من طعامهم إذا أكل معهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن هذا حالهم قبله ، أو حالهم إذا أكلوا بدونه لم يشبعوا ولم يرتووا ، بينما إذا شربوا اللبن من إنائه بعد أن يشرب منه بفمه الشريف صلى الله عليه وسلم يدور الإناء عليهم جميعاً فيروون عن آخرهم .

      لم تكن فاطمة بنت أسد تدرى أن بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة فقط على الإحساس بالشبع والارتواء ، بل ستشمل حياتها كلها وحياة أبنائها فيما بعد .

    كما لم تكن تدرى أيضاً أن هذا اليتيم الناشىء فى بيتها الذى استسق زوجها بوجهه الغمام أن ينزل مطراً على قريتهم مكة فاستجاب الله له، حتى أقبل السحاب وأغدق واغْدَوْدَق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، والذى سافر مع عمه لما بلغ صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة فى أول رحلة تجارية له خارج حدود مكة حيث الشام ، ولما أتم العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم حضر حرب الفجار التى انتهكت عهدهم واستمساكهم بالسلام فى الأشهر الحرم ، وكانت بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان ، وميدانها سوق عكاظ ، ثم حضر على إثرها توقيع حلف الفضول فى دارعبدالله بن جدعان الذى تعاهدت فيه القبائل من قريش على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، ذلك اليتيم الذى بدأ من بيتها رحلة الكدح والكفاح من أجل الرزق برعى الغنم ، والتجارة بالمشاركة مع السائب بن أبي السائب المخزومي ، حتى خرج متاجراً بمال خديجة لما كان فى الخامسة والعشرين ، لم تكن تدرى فاطمة أن يبعث الله هذا اليتيم نبياً يملأ آفاق الأرض نوراً ورحمة وهداية ، وتحل بركته على كل من آمن به واتبع هديه صلى الله عليه وسلم .

      خرج من بيت عمه إلى بيت زوجه خديجة وانتقلت معه بركة حاضنته ومرباه ، فلم يأخذه الغنى والجاه وينسى يوماً من آواه واحتضنه وكفله ورباه ، يشهد بهذا أنه لما أصابت قريشاً أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثيرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس عمه و كان من أيسر بني هاشم : ’’يا عباس ،إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله : آخذ من بنيه رجلاً و تأخذ أنت رجلاً فتكفلهما عنه ’’ ، فقال العباس : نعم . فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما عقيلاً فاصنعا ما شئتما .فأخذ رسول الله عليا فضمه إليه و أخذ العباس جعفراً فضمه إليه .

    وفى صبح يوم جديد أظل مكة خبر نبوة محمد ، ورب محمد الذى يدعو الناس لنبذ الأصنام ، وتوحيد الواحد الديان ، آمن مع الرسول من آمن ، ومنهم أبناء عمومته يسبقهم علياً ويأتى بعده جعفر الذى عقد العزم للهجرة إلى الحبشة هو وزوجه ، فتودعه أمه فاطمة ملتاعة عليه ولم تحمل فى نفسها شيئاً تجاه ولدها محمداً لأنه أتى بدين فرق بين المرء وأهله ، يشهد لها بهذا يوم أن علقت مكة صحيفتها وأوكلت إلى بَغِيض بن عامر بن هاشم مهمة كتابة ما اتفقوا عليه ‏(‏ألا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا محمداً للقتل) فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم ـ إلا أبا لهب ـ وحبسوا في شعب أبي طالب، من السنة السابعة من البعثة الشريفة ، فتدخل مع زوجها وأولادها لتعانى مع من عانى من الجوع والعطش وأكل أوراق الشجر لثلاثة أعوام بين قلب سافر نصفه حيث أرض النجاشى ، ونصفه الآخر مع ما يعانيه أهلها فى هذا الحصار القاسى ، كما إنها لم تجزع ولم تعترض حين كان أبو طالب يقدم أولادها فداءً للرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتى بعض فرشهم ، وهذا لأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان لها كأولادها ، بل كان الأثير عندها .

     لم تكد ستة أشهر من الخروج من الشعب تمضى حتى أعلن الناعى خبر وفاة أبى طالب في رجب سنة عشر من النبوة ، ثم لحقته خديجة .
والراجح من الروايات التاريخية أن فاطمة بنت أسد أسلمت وهاجرت إلى المدينة المنورة ، فقد قال ابن سعد: أسلمت فاطمة بنت أسد وكانت امرأة صالحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويقيل في بيتها . 
   وفى المدينة تزوج ابنها علي رضي الله عنه فاطمة إبنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكانت تقيم معهما بدليل قوله لها : قُلْتُ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ : اكْفِي فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِقَايَةَ الْمَاءِ وَالذَّهَابَ فِي الْحَاجَةِ ، وَتَكْفِيكِ خِدْمَةَ الدَّاخِلِ الطَّحْنَ وَالْعَجْنَ .

    ومع دخول السنة الخامسة من الهجرة كانت أنفاس الهاشمية القرشية الحانية قد فارقت الحية الفانية راضيةً مرضية ، ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالنبأ ألبسها قميصه الطاهر ، كما جاء فى أقوى الروايات ـ حيث ورد في وفاتها عدة روايات لا تخلو من ضعف ـ وهي رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ أُمُّ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا ، فَقَالَ : " رَحِمَكِ اللَّهُ يَا أُمِّي ، كُنْتِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي ، تَجُوعِينَ وَتُشْبِعِينِي ، وَتَعْرَيْنَ وَتَكْسِينِي ، وَتَمْنَعِينَ نَفْسَكِ طَيِّبًا وَتُطْعِمِينِي ، تُرِيدِينَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ " . ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُغَسَّلَ ثَلَاثًا ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءَ الَّذِي فِيهِ الْكَافُورُ سَكَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ ، ثُمَّ خَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَمِيصَهُ فَأَلْبَسُهَا إِيَّاهُ ، وَكَفَّنَهَا بِبُرْدٍ فَوْقَهُ ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ  عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، وَأَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَغُلَامًا أَسْوَدَ يَحْفِرُونَ ، فَحَفَرُوا قَبْرَهَا ، فَلَمَّا بَلَغُوا اللَّحْدَ حَفْرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ ، وَأَخْرَجَ تُرَابَهُ بِيَدِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضْطَجَعَ فِيهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ ، وَلَقِّنْهَا حُجَّتَهَا ، وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي ; فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " . وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا ، وَأَدْخَلُوهَا اللَّحْدَ هُوَ ، وَالْعَبَّاسُ ، وَأَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ..وهي أقوى الروايات مع ضعفها جميعًا.

   اضطجع صلى الله عليه وسلم فى اللحد أى الحفرة التى لا تتسع إلا لواحد بالكاد ، قبل دخول زوج عمه فيه ، على مرأى ومسمع ، والاضطجاع غير المضاجعة ، ولو ضممنا حديث ابن عباس ـ على مافيه من جهالة ـ إلى الحديث السابق لعلمنا المقصد والغاية من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أَلْبَسْتُهَا قَمِيصِي ؛ لِتَلْبَسَ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ ، وَاضْطَّجَعْتُ مَعَهَا فِي قَبْرِهَا ،خُفِّفَ عَنْهَا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ ؛ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ صَنِيعًا بَعْدَ أَبِي طَالِبٍ ’’.

  وبالجمع بين الروايتين يكون معنى اضطجعت معها يعني : معها في نفس المكان، وليس في نفس الوقت . 
   
      وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خَلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَمِيصَهُ وَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ ، وَاضْطَجَعَ فِي قَبْرِهَا ، فَلَمَّا سُوِّيَ عَلَيْهَا التُّرَابُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، رَأَيْنَاكَ صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَصْنَعْهُ بِأَحَدٍ ! فَقَالَ : " أَلْبَسْتُهَا قَمِيصِي ; لِتَلْبَسَ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ ، وَاضْطَّجَعْتُ مَعَهَا فِي قَبْرِهَا ; خُفِّفَ عَنْهَا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ ؛ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ صَنِيعًا بَعْدَ أَبِي طَالِبٍ " .
 

    إن  فاطمة بنت أسد هى المرأة الثانية بعد زوجه خديجة رضى الله عنهما التى نزل قبرها صلى الله عليه وسلم لا سواهما خلافاً لما قيل من أنه نزل قبر أم رومان فقد ماتت بعده رضى الله عنها ، وهذا إن دل فإنما يدل على فضيلة لم تفته صلى الله عليه وسلم فيمن أحسن إليه أن يحسن إليه بأعظم مما أحسن ، إنه الوفاء أعظم قيمة يقابلها وسيقابلها من تفضل الله عليه بقراءة سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم ، تجدها فى أعظمها حين تطالع وفاؤه لخديجة رضى الله عنها ، وتجدها بعد هذا فى مستويات متفاوتة عند غيرها ، عندما يبذل المال ، أو الحرية ، أو العفو ، وأعظمها عندما ينزل بجسده الشريف فى قبر زوجه وأمه خديجة وفاطمة رضى الله عنهما ولما لا ..؟ فهما أطول من عايش من النساء عمراً وزمناً فى بيت واحد ، وهما أكثر من منحاه الحب والمودة والإيثار عن رضا ودون انتظار المكافأة والثواب .

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 88 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,099