دكتور السيد إبراهيم أحمد

  أتعب المستشرقون أنفسهم كثيراً فى بحوث مضنية حول قصة زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة ، فتارة يدهشهم هذا الوفاء منه لها والذى تمثل فى إحجامه من الزواج عليها فى حياتها ، وقد كان هذا بين المكيين أمراً مألوفاً ، ثم أن فارق السن بينهما وكفته الراجحة نحو الرسول صلى الله عليه وسلم يدفعه دفعاً إلى ينحو هذا المنحى ، ثم هالهم أن هذا الشاب بنسبه الشريف، وماله من مجد تليد ، ومالً شحيح ، كان يدفعه أيضاً بعد أن أناخ راحلته ببيت وقلب ومال خديجة أن يزاحم فى منتديات قريش سادتها ، ويسلك مسلكهم ، ولا تثريب عليه ولا لوم ، فإذا به يدفع توهمهم بعيداً مفضلاً الاعتزال .
 
    أما أنه حب .. فهو كذلك ، وشكر.. فلا شك فى ذلك ، فلا يخفى على أحد عظمة قدر السيدة خديجة فى نفس زوجها صلى الله عليه وسلم ، يضيق عن سرده تفصيلاً ضيق المقام ، ويشهد على هذا حزنه البالغ صلى الله عليه وسلم على فراقها الأليم  .

     أما عن الوفاء .. فيشهد له بها صلى الله عليه وسلم مواقف ليست فى حياتها فحسب وإنما بعد وفاتها ، تقطع الطريق على تخرصات من ظن أن هذا الوفاء لم يكن مبعثه الإخلاص فقط ، بل التهيب من مقامها المالى والإجتماعى خشية مطالبتها إياه بالطلاق، ليأتى يوم فتح مكة بقمة الوفاء حين لم يغب عنه صلى الله عليه وسلم فى يوم فرحه أن يكون موقع قيادته الذى يشرف فيه على فتح مكة هو الحجون بجانب المعلاة حيث ترقد خديجة الزوجة ، والحبيبة ، ومن قاسمته مشاق ومصاعب بدايات درب الدعوة ، ولم يطل بها العمر لتشهد هذا النصر المؤزر، فاليوم هى أحق من يَهدى إليها هذا النصر ، وأن ترفرف فوق جبينها راياته ، فهى اليوم السيدة الأولى فى استعراض جيش الفتح .

     كما تشهد بوفائه قلادة خديجة رضى الله عنها التى كانت قد أهدتها لابنتها زينب عند زواجها ، وأرسلتها من مكة إلى المدينة فداءً لزوجها الأسيرأبى العاص بن الربيع فى غزوة بدر، فلا يكاد يلمحها صلى الله عليه وسلم حتى يعرفها فيطير قلبه بالحنين والشجو الحزين لبيتها وقبرها بمكة ، فقال صلى الله عليه وسلم مستسمحاً أصحابه :’’ إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا ، وَتَرُدّوا عَلَيْهَا مَالَهَا ، فَافْعَلُوا ’’  فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ . ففعلوا .

     لقد كان بيتها رضى الله عنها يحوط الرسول صلى الله عليه وسلم بالهدوء والراحة والسكينة ، من وقت ما زملته ودثرته عند نزوله من الغار، لحين مسحت عنه  ما علق به من صخب ونصب ممن لاحقوه بالتكذيب والتهوين والتشويش بعد النذارة والبشارة برسالة السماء ، فأفاء الله سبحانه وتعالى عليها ببيت أحسن منه تظلله السكينة والسلام ، فعنْ أَبِي زُرْعَةَ أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ : أَتَى جِبْرِيْلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذِهِ خَدِيْجَةُ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيْهِ إدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيْهِ وَلاَ نَصَبَ. كما صارت لها منزلة فوق منزلة نساء النبيين والعالمين كما جاء فى الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ’’ سيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ بَعْدَ مَرِيْمَ: فَاطِمَةُ، وَخَدِيْجَةُ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ؛ آسِيَةُ ’’.

    ثم إن الواقع يشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان واقعياً حين بلغ سن الزواج ولم يفكر فيه لضيق ذات اليد كما أخبر بذلك نَفِيسَة بنت مُنْيَة مبعوث السيدة خديجة إليه ، على الرغم مما كان عليه صلى الله عليه وسلم من جمال الخِلقة ، ودماثة الخلق ، ومحمود السيرة ، و النسب الرفيع المشهود ، فكيف يفكرإذن فى الزواج من خديجة مع علمه أنها أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، ويتبارى أشراف مكة فى الاقتران بها ؟!

    كما أن الواقع يشهد بأن السيدة خديجة  لم تُرِدْ إلا محمد الهاشمى الصادق الأمين ، خاصة بعدما حدثها غلامها ميسرة عن قول الراهب فيه أنه نبى هذه الأمة ، وعما رأى من إظلال الملائكة إياه ، فبادرت وهى الحازمة ، العاقلة بأن بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعرض عليه الزواج منها .
   
     ويحل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيت خديجة زوجاً ، فإذا به لا يركن للدعة والراحة بل يتجه من صوبه إلى غار حراء شهراً كل عام ، معتزلاً الناس ، تاركاً ليل مكة ونواديها وسمارها وحكاياتها ، غارقاً فى تأملاته ، عازفاً عن كهان البيت الحرام وأصنامهم ، تناديه قوة علوية لا يدرى ما كنهها أو وصفها ، ترعاه عينٌ عطوف من زوجة حانية ، فى أعماقها يتردد يقين فى قلبها أن هذا الرجل الكريم لا بد أن يكون هو النبى الذى تتحدث عنه البشارات ، ولما لا فقد اقترب زمن ظهوره .

   يا من لا تعلم قدر السيدة خديجة .. هل كان فى طاقة سيدة غير خديجة ، غنية مترفة مُنعَّمة ،أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة ، لتقف إلى جوار رجلها فى أحلك أوقات المحنة ، وتعينه على أفدح ألوان الأذى وصنوف الاضطهاد ، فى سبيل ما تؤمن أنه الحق ..؟! ..كلا .. بل هى وحدها التى أعدتها الأقدارلتملأ حياة الرجل الموعود بالنبوة ، وتكون لليتيم أماً وللبطل ملهمة ، وللمناضل ملاذاً وسكناً ، وللنبى المبعوث نبع ثقة وطمأنينة سلام ، كما تقول بنت الشاطىء.

    إنها خديجة أمنا .. امرأة محمد التى أعلت شأن النساء قاطبة ، فكانت الزوج الملهمة المواسية ، الودود العطوف الولود ، يلقى قريش وصدودها ، وعداوتها وجفوتها ، فاذا آوى إلى بيته  وجد برداً وسلاماً .. وإذا كان قد فقد عطف الأم الرؤوم فى صدر حياته فى وقت الحاجة ،  فقد عوضه الله  فى خديجة زوجاً وأماً ورفيقة الحياة ، كما قال الشيخ محمد أبو زهرة .

 إنها خديجة .. الزوجة التى أحسنت التجارة مع الله حين استسلمت لموعود الله بإختيارها ، فجذبت بنفسها سفينة محمد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم  لترسو بميناء حياتها لتكون أول ركب المؤمنين العاملين المجاهدين معه عندما يشرع  ربه سبحانه وتعالى فى الإذن بإطلاق أشرعتها ، لتحمل معه وتتحمل عبء تلاطم أمواج الشرك الهادرة وهى تحاول أن تطفىء نور الحق ، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون .
 
     إنها خديجة .. أم المؤمنين .. و أول المسلمين .. وسيدة الصابرين .. والقلب المصدق بيقين .. والمنفقة كل ما ملكت اليمين .. فى سبيل نصرة هذا الدين .. ومؤازرة سيد المرسلين .. فكيف لا تكون سيدة العالمين .. والسيدة الأولى للمسلمين ؟!

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 86 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,078