بينما كانت مكة الواقعة فى منتصف طريق القوافل العابرة بين الشام واليمن لا تنعم بالزروع والثمار حيث جوها شديد الحرارة قليل الأمطار ؛ فالجبال الصخرية من كل جانب تعاونت على حصارها ، كانت غير بعيدة منها فى جنوبها الشرقى تنعم الطائف بطيب الهواء ، والأرض الخصبة الخضراء حيث الحدائق الغناء ، والأشجار والزروع ، ولهذا فقد كانت بالنسبة لأهل مكة ريفهم وبستانهم ، ومربى أولادهم حتى أصبحت عادة في أشرافهم كلما رزقهم الله أولاداً أرسلوا بهم إلى مراضع البادية ، صوناً لهم من الحرارة القائظة ، وخوفاً من التهام المرض لهم ، فتصح أبدانهم ، ويستقيم لسانهم بنطق اللغة العربية الصحيحة فى مهادهم ؛ فقد أشتهر أهل البادية بالبيان والفصاحة لا سيما بنى هوازن فهم من أفصح العرب ، كما كانت بادية بني سعد مقتصرة على الجنس العربي فقط ، فلم تكن مثل مكة يسكنها ويأتيها الهجين من الأعاجم تجاراً وزوارً وعبيداً بقصد التجارة أو العمل أو زيارة البيت الحرام ، لذلك كان أبناؤها يتكلمون العربية بسليقتهم وطبيعتهم وفطرتهم ، ولما لا .. ألم ينشأ الشعر الجاهلي في البوادي من نجد والحجاز وما إليهما من شمالي الجزيرة العربية ، ولهذا فقد كانت البادية المدرسة التي يتعلم فيها الشعراء النابهون .. ومن سار على دربهم من شعراء العصر الإسلامى كالمتنبى الذى أقام فى بادية بنى كلب بالشام لمدة سنتين يتعلم اللغة ويقوم لسانه ، وكذلك فعل أبو نواس عندما ترك والبة بن الحباب ليقيم بالبادية سنة لنفس الغرض .
ولهذا كله حظيت نساء بنى سعد بامتهان الرضاعة وأشهرهن حليمة بنت أبى ذؤيب عبدالله بن الحارث التى سلكت مع زوجها الحارث بن عبد العزى الطريق الشمالى المؤدى إلى مكة فى صحبة عشر نسوة ليفزن بمن يطلبهن لرضاع صغارهن .
تكالبت كل الظروف السيئة على حليمة وزوجها وعبدالله طفلهما الرضيع ، فالسنة التى مرت بهم كانت مجدبة لم يرسل الله فيها مطراً ، ولم تنبت الأرض زرعاً ، وحتى الناقة التى صحبتهم كانت هى الأخرى لا تدر إلا القليل من اللبن كحال ثدييها، والطفل يأكله الجوع فلا يجد عند أمه ولا ناقتهم ما يقيم أوده ، وأكملت حمارتهم العجفاء البيضاء منظومة التعاسة فأبطأت فى مسيرها لتصل النسوة قبل حليمة .
كانت آمنة تعرف عادات نساء الأشراف من قومها وطبقتها ، وإعراضهن عن رضاع صغارهن والدفع بهم إلى مراضع البادية ، غير أنها كانت تستطيع أن تحارب هذه العادة من أجل الاحتفاظ برضيعها معها لتأنس به خاصةً بعد رحيل أبيه عنها فى رحلة اللاعودة ، فباتت تخشى أكثر من بُعد البقية الباقية منه حيث السفر أميالاً دون المائة إلى الطائف ، غير أن عدم كفاية لبنها لتغذية الرضيع إلى الحد الذى دفع ثويبة أمة أبى لهب عمه لتتولى مهمة إرضاعه ، وما كانت تعرفه أيضاً عن الفوائد التى ستعود على رضيعها حين يكبر ، جعلها تضحى بأحلى أوقاتها حين كانت تتشممه وتتحسسه ، لتتجشم من جديد عناء الحزن على فقد أبيه ، وعناء الشوق الذى سيبدأ رحلته عندما يغيب الطريق فلذة كبدها عنها .
دخل ركب حليمة وزوجها متأخراً إلى مكة وقد فازت كل مرضعة من صويحباتها برضيع ، وأخبرنها بأنه لا يوجد خلفهن سوى طفل يتيم آثرن ألا يأخذنه ، فالوالد الذى يجزل العطاء قد مات ، وماذا تصنع أمه وجده؟! ، والمرضعات هنا يتحدثن بخبرة مهنية حياتية متراكمة استقرت فى وعيهن مما تعرضن له من قلة البذل من الأم أو الجد ، ولم يتحدثن عن فقر ولا غنى ، فالرضيع شريف من أشراف مكة ، وجده سيد مكة ، و ما أدرى المرضعات بما ورثه عن أبيه ، وأنه لم يخلف له مالاً ـ كما يذهب أكثر من كتب السيرة العطرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكلام النسوة واضح : ( وذلك أنا أنما كنا نرجو المعروف من أبى الصيب ، فكنا نقول : يتيم ؟ .. وما عسى أن تصنع أمه وجده ؟ ) .
كيف يكون اليتيم فقيراً وهو في كفالة جده عبد المطلب سيد مكة وكبيرها الذى أغتصب جيش أبرهه في حملته على الكعبة منه مائتين من الإبل، والذى افتدى ابنه عبد الله بمائة من الإبل ، كما ذبح مجموعة كبيرة منها في زواجه لا يصد عنها إنسان ولا حيوان ، ويذكر اليعقوبى فى كتاب البلدان: أن عبد المطلب عند موته لُف في حُلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال من الذهب،وقد كانت هدية من سيف بن ذي يزن الحميري لما ظفر بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم فأتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جُدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غُمدان - بضم الغين - فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئاً. ولما فرغ أدناه وقربه ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبراً، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، أكان اليتيم صلى الله عليه وسلم بعد كل هذا فقيراً ، ونسينا أهل آمنة من بنى زهرة ويسارهم ، أكانوا يتركوا حفيدهم ترفضه المرضعات لفقره ؟!.
أخذت حليمة بنصيحتهن فى بادىء الأمر ، فماذا عساها أن تفعل هى الأخرى بـ ( طفل يتيم ) ، ربما غلبها الإحساس البشرى بالعزة والأنفة ـ وهى صفة بشرية أشد ما تكون عند العربى الأصيل ـ إذ كيف تقبل ما رفضته صويحباتها ولداتها ، فردت اليتيم وانصرفت قافلة من حيث جاءت ، ولكنها حين قلبت الأمور وجدت أن أسوأ من رفضها لهذا اليتيم هو العودة بلا رضيع البتة ، واحترم زوجها الحارث رغبتها فى العودة فصمت ، غير أنها بادرته هذه المرة وقد غلبتها طبيعتها البشرية كأنثى ـ والغيرة أشد ما تكون فى النساء ـ : والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأشار عليها الحارث ناصحاً : لا بأس عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة .
الظروف التى قد نظنها سيئة فى ظاهرها وهى قدرية فى باطنها ، قد تقودنا من حيث لا ندرى إلى خير كثير نجهله ، إنها يد الله الرحيمة التى ترتب لنا مسيرنا ومصائرنا ، وغالباً ما يضحك الإنسان ساخراً من غبائه عندما يتذكر كم كان ساخطاً على ما ظنه سيئاً فى بداية الأمر ، فلما استعرض ما انتهى به المآل تنهد قائلاً بارتياح : الحمد لله .
فبمثل ما تكالبت الظروف السيئة بحليمة وعائلتها ، تضافرت الظروف الجيدة والجديدة التى أحاطتها وتلبثتها منذ اللحظة الأولى التى هرولت ساعية إلى طفل قريش اليتيم وسليل البيت الهاشمى فاستلمته من أمه على مضض : (وما حملني على أخذه إلا إني لم أجد غيره ) ، لتكون رحلة العودة صورة مغايرة تماما ًلرحلة الذهاب ، فإذا كل ما هو سىء قد تبدل ؛ فثدييها قد أقبلا على اليتيم كنهر لا يتوقف جريانه حتى شبع اليتيم وابنها وناما كما نامت حليمة وزوجها ، فلم يكن بكاء طفلهما يدع النوم يتسلل إليهما ساعة من ليل ، والناقة البخيلة بلبنها امتلأت لبناً ، فشربا منها حتى شبعا وارتويا ، أما الحمارة العجفاء ما كادت تركبها ورضيعها اليتيم حتى لحقت بالركب الذى تقدمها فسبقتهم إلى الحد الذى كانوا يستمهلونها ليلحقوا بها وزوجها .
منذ تلك اللحظة التى ارتويا وشبعا الحارث وزوجته وكأن الله قد صدق للحارث ظنه فى اليتيم (عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ) حتى يحادث زوجه فى هذا : تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة ، أحس الحارث ببركة هذا الرضيع ، وصفة البركة هذه ستظل ملاصقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ كان جنيناً فرضيعاً وطفلاً ثم نبياً رسولاً فى حياته كلها وبعد مماته ، وهى صفة كثيراً ما سنقابلها فى كل أطوار حياته فيما بعد ، ليكون حديثنا التالى عنها فى بيت عمه أبى طالب بعد وفاة جده . نعم لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بركة على من حوله حياً وميتاً ، فمن أول من أصاب من بركته وهو جنين بعد لم يكد يدخل حياتنا الدنيا سوى دقائق يسيرة حتى أعتق عمه جاريته ثويبة لما أخبرته بقدومه ، لتتوالى البركات الطيبات على المسلمين حتى صارت معجزات ، كما كانت بركاته ينعم بها من غير المسلمين وإن لم يؤمنوا به أو يتبعونه ، وليس أدل على ذلك ما أثبتته البحوث العلمية فى العواصم العالمية من تأثير النطق بالبسملة على الميكروبات والفيروسات بالحيوانات والطيور عند ذبحها.
وليس أدل على حلول البركات ، وحدوث التغييرات أن يقر بها ويذيعها من عاينها وشاهدها وأصاب منها ، ومن غير حليمة يصلح لرصد هذا ؛ فقد عاش الرضيع حتى أصبح طفلاً معها سنوات ، والبركة التى أحستها وأسرتها وجيرانها ببادية بنى سعد لم تكن طفرة حدثت مرة ثم ذهبت بل كان لتكرار شواهدها ما وقر فى صدرها إنما كان بسبب حلول هذا الطفل اليتيم المبارك عليهم وبينهم ، حتى قالت : قدمنا منازلنا في بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح عليّ حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً وما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعاً لبناً فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير .
وما يؤكد هذا أن الطفل ما كاد يبلغ العامين حتى قدمت به حليمة ومن معها إلى أمه آمنة لترده إليها بحسب العرف المتبع فيهم بينما نفسها لا تطاوعها إلا أن تصحبه معها ثانيةً(ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته )، و يبدو أن آمنة أبدت اعتراضاً شديداً على الحاح حليمة غير أن حليمة لم تيأس حتى ذكرتها بوباء مكة ومخافة أن يصيب ابنهما ، فلم تزل بها حتى ردته معها إلى بادية بنى سعد مرة أخرى .
وعاد الطفل ثانيةً يلعب ويرعى الغنم فى مراعى البادية ، مع أخوته وأقرانه ، ولم يعكر صفو تلك السعادة الصافية على حليمة وزوجها غير
ماوقع للطفل من حادثة شق الصدر فخافت عليه وبناءً على نصيحة من زوجها أعاده لأمه كى تقر عينها .
وللوفاء مواضع كثيرة فى حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لا يتسع المقام لسردها ، لكن قارىء سيرته العطرة سيقع عليها دون عناء ، فمثلما كان وفياً حفياً بثويبة مرضعته بعد أمه ، وكذلك أم أيمن حاضنته ، كان لحليمة نصيب كبير من بساتين وفائه الرحبة صلى الله عليه وسلم وذلك حين قدمت عليه بمكة بعد زواجه من خديجة ، تشكو له من جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلم صلى الله عليه وسلم خديجة فيها فأعطتها أربعين شاة وبعيراً موقعاً للظعينة ، ولما رأها يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه.
ساحة النقاش