كأن قطار الموت أبى الرحيل دون أن يستقل مبدعاً آخر.. فبعد أربعة أيام فقط من رحيل الشاعر أشرف عامر، رحل المترجم الكبير شوقى جلال، عن عمر ناهز 92 عامًا.. بعد مسيرة حافلة بالعطاء الإبداعى تعامل خلالها مع الترجمة باعتبارها مشروعًا قوميًا، وقدم دورًا تنويريًا كبيرًا بعشرات الأعمال القيمة التى ترجمها وأضيفت للمكتبة العربية، إضافة إلى عدد كبير من المؤلفات، من بينها «الشك الخلاق: فى حوار مع السلف»، و«الترجمة فى العالم العربي: الواقع والتحدى»، و«المجتمع المدنى وثقافة الإصلاح»، و«نهاية الماركسية».
وُلد شوقى جلال فى القاهرة يوم 30 أكتوبر 1931، وظل طوال حياته مدينًا للكتب لأنها منحته حياة بديلة عن حياة الناس، فالكتب أغنته عن الجميع وأمتعته.. وعن حبه للكتب قال فى أحد الحوارات: عودنى أبى قراءة القصص القصيرة، وحرضنى على قراءة «أصل الأنواع» لداروين»وأنا لا أزال فى المدرسة الأولية قبل الابتدائى، وكان يناقشنى فيها، وأعتبر أن دنيا الكتب هى حياتى، عندما أقرأ أنسى كل ما حولى، وأعيش عالم الكتاب، وعندما أنتهى من القراءة، أستمر فى التفكير فى موضوع الكتاب فترة طويلة. الكتب عندى هى الحياة. وبطبيعتى عندى نزوع صوفى ورثتُه عن أمى التى كانت عائلتها مرتبطة بطريقة صوفية.. أذكر أننى قرأت فى المرحلة الابتدائية كتاب عبدالسلام الكردانى «النجوم فى مسالكها» وقرأت «العدل الإلهى فى السماء»، فضلاً عن كتب الفلسفة، قرأت فى المرحلة الثانوية لمحمد عبده كتبه عن التوحيد وغيرها.
عندما حصل على التوجيهية، كان هناك احتمال بسبب الفقر ألا يتمكن من دخول الجامعة، فدخل مسابقة وتفوق فيها بما يؤهله لدخول الجامعة، وكانت رغبة أبيه فى ذلك الوقت أن يلتحق بالكلية الحربية، لكن الفلسفة كانت هى هدفه وأداة لفهم مشكلاته الفكرية والعقيدية، وأدرك بفضلها دور الفكر فى التنوير الاجتماعى وحاجة الإنسان المصرى إلى إنقاذه من التخلف والفقر التى امتدت قرونًا وأصابته فى مقتل، لهذا كان اختياره يتركز على العناوين التى يفيد موضوعها لتغيير نظرة المجتمع إلى حاله ويعزز ثقته بنفسه وبإرادته فى التغيير والمشاركة فى التحدى الحضارى.
كان شوقى جلال يحلم طوال حياته بأن يصبح مثل عميد الأدب العربى طه حسين وعباس العقاد والمازني، حتى تخرج وحصل على ليسانس كلية الآداب، قسم فلسفة وعلم نفس، جامعة القاهرة، وعمل سنة 1956 مدرسًا للفلسفة فى معهد المعلمين، إلى أن اُعتقل وتم فصله عن العمل، ففكر بعدها فى العمل المستقل بعيدًا عن المؤسسات الحكومية.
بدأ جلال مشروعه الفكرى الخاص بالترجمة، وكان يرى ضرورة أن يشارك الناس فيما يعرفه ويقرأه، فكان أول كتاب فكر فى نشره فى الصف الثانى الجامعى هو مذكرات «شارلس داروين» تلخيص تحت عنوان مذكرات الولد الشقى، وقدم التلخيص لمكتب الأستاذ حلمى مراد الذى كان يصدر سلسلة شهرية بعنوان «كتابي» ولكنه اُعتقل سنتين ونسى الموضوع والكتاب. وبعد التخرج صدر له عام 1957 كتابين مترجمين عن طريق دار النديم للنشر لصاحبها الأستاذ لطف الله سليمان الأول بعنوان «بافلوف حياته وأعماله» وهو أول كتاب بالعربية عن أعمال وفكر هذا العالم، والثانى كتاب بعنوان «السفر بين الكواكب» وهو أول كتاب علمى عن رحلات الفضاء وصدر بمناسبة رحلة الكلبة لايكا إلى الفضاء وترجمه فى أسبوع.
وعن أكثر الأعمال التى ترجمها وأحدثت حالة من الجدل المنشود، يقول إن كل الأعمال التى ترجمها وتقارب المائة هى فى نظره مهمة للغاية وهى بعض من فكره الذى يؤمن به ومناسبة لزمان صدورها، لكنه أشار إلى كتاب «التراث المسروق» للمفكر الأمريكى جورج جيمس وأيضًا كتاب «بلاك أثينا» تأليف مارتن برنال الذى تمت ترجمته تحت عنوان أثينا السوداء، بينما الترجمة الصحيحة «الربة أثينا إفريقية» كما أكد له مارتن برنال شخصيًا وهما من الكتب الأكثر جدلاً.
وأوضح فى كتابه «الترجمة فى العالم العربى الواقع والتحدى» بؤس واقع الترجمة العربية، وكذلك فى تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2003. وكان يرى أنه رغم أن المجتمعات العربية بدأت فى تأسيس مراكز ترجمة مع رصد ميزانيات كبيرة وبدا فى الظاهر أن هناك حركة ترجمة نشيطة، ولكن تلك المراكز تعمل كأنها ناشر خاص هدفه إصدار كتب من منطلق «الصيت والا الغنى»، وتفتقر جميع البلدان العربية-حسبما قال- لأى دراسة تمثل مراجعة نقدية لأثر الترجمة داخل المجتمع أو دراسة لتحليل محتوى الإصدارات المترجمة وتجليات ذلك فى تطوير المجتمع والإنسان.
ومن مؤلفاته: نهاية الماركسية، والتراث والتاريخ: نظرة ثانية، والعقل الأمريكى يفكر، على طريق توماس كون، والفكر العربى وسيسيولوجية الفشل، والحضارة المصرية: صراع الحضارة والتاريخ، وثقافتنا والدائرة المفرغة، الصين: التجربة والتحدي،الشك الخلاق: فى حوار مع السلف، وغيرها.
ومن «شوقى» الأعمال المترجمة: المسيح يصلب من جديد، والسفر بين الكويكبات، العولمة والمجتمع المدني، الثورة الخفية قى العالم الثالث، والإسلام والغرب، والتراث المسروق، وإفريقيا قى عصر التحرر الاجتماعي.. وغيرها الكثير من المؤلفات.
كان عضوًا بالعديد من الهيئات الثقافية مثل المجلس الأعلى للثقافة بلجنة الترجمة، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وإفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالى للترجمة- جامعة الدول العربية.. كما نال العديد من الجوائز أهمها: «جائزة رفاعة الطهطاوى للترجمة» فى العام 2018 عن ترجمته لكتاب «موجات جديدة فى فلسفة التكنولوجيا» والصادر عن المركز القومى للترجمة، و»جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمى».