تقرير يكتبه: أشرف التعلبى
ظلت أيام السادات فى «دار الهلال»علامة فارقة فى ذاكرة الرئيس الراحل ، ولم تنقطع علاقته بها، بل استمرت خالدة حتى بعد موته، فقرينته السيدة جيهان السادات لم تنس يوما أن الرجل الذى أحبته وتقدم لخطبتها كان يعمل وقتها محررا فى هذه المؤسسة العريقة.
وهذا ما جعلها تداوم على تواصلها مع القراء من خلال إصدارات «دار الهلال»، فلم تبخل يوما بتواجدها فى حوارات وندوات تستضيفها الدار، حتى إنها رحبت بشدة عندما قررت الدار طباعة كتب زوجها بطل الحرب والسلام، وباركت الخطوة من أجل توعية الأجيال المقبلة بتاريخ ونضال الرئيس الراحل أنور السادات.
منذ بضع سنوات وتحديدا فى حوارها مع مجلة المصور سبتمبر 2015، قالت جيهان السادات: «إن مؤسسة الرئاسة فى ظل حكم الرئيس السيسى مختلفة تماما عن غيره، لأنه رد لى الاعتبار، ورد الاعتبار لأنور السادات، ومنذ اللحظة الأولى والرئاسة دعتنى لحضور المناسبات الهامة التى كان يتم تجاهلى فيها، وأشعر أن السادات أخذ حقه فى وجود الرئيس السيسى، حتى التليفزيون واحتفالات أكتوبر تغيرت كثيرا، والحقيقة كل هذا التغير لم أكن أراه قبل الرئيس السيسى».
وكما رد الرئيس عبدالفتاح السيسى الاعتبار للسيدة جيهان السادات وهى بيننا رد إليها الاعتبار بعد موتها، وتم تشييع جثمانها فى جنازة عسكرية صباح الجمعة الماضى 9 يوليو، لتعد الأولى من نوعها لسيدة مصرية، تقديرا من القيادة السياسية لدور السيدة الراحلة، حيث ساندت الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى أحلك الظروف وأدقها، حتى قاد البلاد لتحقيق النصر التاريخى فى حرب أكتوبر المجيدة، والذى مثّل علامة فارقة فى تاريخ مصر الحديث، وأعاد لها العزة والكرامة.
ليس هذا فقط بل أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي، قرارا بمنحها وسام الكمال، وأطلق اسم الراحلة على محور الفردوس.
دار الهلال والبحث عن الذات
حملت الراحلة ذكريات طيبة مع «دار الهلال»، بسبب الفترة التى عمل فيها زوجها الرئيس الراحل أنور السادات، وعبرت عن مكانة مؤسسة «دار الهلال»، لديها بكلمات كتبتها بخط يدها على إحدى صورها قائلة: «بسم الله الرحمن الرحيم.. لى ذكريات جميلة أعتز بها مع دار الهلال.. وإننى فخورة أن زوجى كان كاتبا أو صحفيا فى هذه الدار.. التى أتمنى لها دوام التوفيق والنجاح.. جيهان أنور السادات».
وبمناسبة صدور الطبعة الجديدة من كتابى الرئيس الراحل أنور السادات «أسرار الثورة المصرية» «يا ولدى هذا عمك جمال»، الصادرين من دار الهلال عامى 1957، 1958 قالت: «إن طباعة هذه الكتب مهمة للغاية من أجل الشباب الذين ليس لديهم فكرة عن أنور السادات، وفرصة جيدة أن يتعرفوا على حياة بطل الحرب والسلام، من خلال قراءتهم لهذه الكتب، فلقد انتصر السادات فكانت حياته سلسلة من الانتصارات، واستطاع أن يحول الإحباطات لانتصارات، فهو ابن هذه الأرض وستظل ذكراه حية فى القلب والوجدان، فهو لم يكن قائدا فقط إنما كان كاتبا قديرا يشهد على ذلك كتبه التى نعيد طباعتها»، وسعيدة للغاية لقيام مؤسسة دار الهلال بطباعتها مرة ثانية لما لدار الهلال مكانة ومعزة كبيرة، لأن أنور السادات عندما خرج من السجن وكان ذلك قبل زواجنا، أول وظيفة عمل بها كانت فى دار الهلال بعد إخراجه من الجيش كضابط لاتهامه فى قضية اغتيال أمين عثمان، وزير المالية، وصديق الإنجليز الحميم صاحب المقولة الشهيرة «بين مصر وبريطانيا زواج كاثوليكى».
وتستحق الكتب التى أصدرها القائمقام محمد أنور السادات فى سنوات 1955 و1956 و1957 و1958 الطباعة مرات ومرات، حتى إن الرئيس جمال عبدالناصر عندما قرأ مسودة كتاب «أسرار الثورة المصرية» قبل طبعه، كتب مقدمة خاصة قال فيها بالنص: «هذا الكتاب ولا شك خلاصة البواعث الخفية والأسباب السيكولوجية لثورتنا السلمية»، وعند صدوره تلهف عليه العالم العربى كله، لمعرفة أسرار ثورة 23 يوليو، وقادة هذه الثورة من هم وأين كانوا وكيف نجحوا.
السادات وجيهان ودار الهلال
فى كتابه البحث عن الذات الذى يعد بمثابة مذكرات الرئيس الراحل أنور السادات يروى قصة تعرفه بجيهان وأيضاً بداية عمله بدار الهلال.. يقول السادات إن «فى الساعة الخامسة مساء بعد خروجى من السجن مباشرة توجهت إلى حلوان فى محاولة للتخلص من آثار السجن والرغبة فى شفاء معدتى بمياهها المعدنية، إلى أن جاء يوم فوجئت فيه بزيارة صديقى القديم حسن عزت الذى بحث عنى فى كل مكان حتى اهتدى إلى إقامتي، وكانت نقودى قد نفدت تقريبا ولم أكن أعرف ماذا أفعل، فقال ما الذى يقعدك هنا، قم معي.. قالها حسن عزت وهو يتأمل أثاث وجدران حجرتى البالية.. فقلت له إلى أين؟ فأجابنى إلى بيتى فى السويس.
وارتديت ملابسى.. الجاكتة البيضاء والبنطلون الرمادي- نفس الملابس التى خرجت بها من السجن وكانت كل ما أملك، ولاحظ حسن عزت أن البنطلون قد بلى من الخلف، فقلت له ليس عندى غيره وحتى لو ذهبنا إلى بيت والدى ما وجدت بديلا عنه.
قبل أن نتوجه إلى السويس ذهبت مع حسن عزت إلى القاهرة، حيث اشترينا قمصاناً وفصلت بدلتين وكانت هذه أول مرة أرى فيها الجوارب «السوكيت» التى يبدو أنها ظهرت وانتشرت فى الأسواق عندما كنت فى السجن- فأعجبتنى واشترى لى حسن عزت ثلاثة أزواج أو أربعة منها، ثم ذهبنا إلى السويس.
فى بيته هناك التقيت لأول مرة بجيهان- زوجتي- حيث كانت فى زيارة لابنة عمتها زوجة حسن عزت- قضيت معهم بعض الأيام، تبينت خلالها أن حسن عزت لم يبحث عنى ويأتى إلى السويس لوجه الله- فقد كان على خلاف مع شركائه فى عمليات تجارية بين مصر والسعودية عن طريق السويس- فأراد أن يخيفهم ببطل قضية أمين عثمان حديث كل المجلات والصحف- الذى هو أنا طبعا، واشتركت معهم فعلا فى بعض الصفقات وكان نصيبى منها كما علمت بعد ذلك 180 جنيها من الذهب، أعطانى منها حسن 60 جنيها، وأخذ الباقى لنفسه وكان الجنيه الذهب فى ذلك الوقت يساوى ستة جنيهات مصرية.
ولذلك عندما عدت إلى حلوان لأستأنف علاج معدتى، وضعت المبلغ فى خزينة «اللوكاندة» حتى لا يسرق، وطبعا لم يحدث هذا، الذى حدث أن المبلغ صرف عن آخره على إقامتى بحلوان.
انتقلت بعد ذلك إلى «بنسيون» فى وسط البلد بالقاهرة عاطلا دون عمل بينما تتراكم الديون علىّ يوما بعد يوم، فذهبت إلى إحسان عبدالقدوس وهو صديق قديم لى، ليبحث لى عن عمل، فقصدنا جريدة الأهرام ولكن لم تكن بها مجالات للعمل، فاقترحت روزاليوسف ولكن إحسان قال إن روزا لا تتحملنا نحن الاثنين- وكان إحسان وقتها يعمل بروزاليوسف، وبدار الهلال كمعيد للصياغة وفى جريدة الزمان، فى ثلاثة أماكن فى وقت واحد.
ولكن حدث أن استغنى إحسان عن عمله بدار الهلال، فأخذنى وقدمنى لأصحاب الدار، الذين اشتروا منى مذكراتى التى كتبتها فى السجن وبدأوا نشرها، ويبدو أنهم أرادوا اختبارى للتأكد من أن المذكرات بقلمي- فأتانى شكرى زيدان أحد أصحاب دار الهلال- وأشار إلى جزء من المذكرات وقال إنه بحاجة إلى تطويل بما يساوى عمودا ونصف، فقلت بكل سرور، وقال إليك المكتب ولكن عليك أن تنتهى من الكتابة العمود فى خلال ساعة ونصف الساعة وهو الزمن الباقى على إغلاق المطبعة.
فعلت ما طلبه وسلمته إليه قبل الزمن المحدد، فقرأه وشكرنى وانصرف، لم يخامرنى أى شك فى أن هذا كان نوعا من الاختبار، إلى أن أرسل فى طلبى صباح اليوم التالى وطلب منى أن أعمل معهم فى دار الهلال بصفة مستديمة وأن أحدد المرتب الذى أريده، كان هذا أمرا مذهلا لي، فقد كنت أعرف أن كبار المحررين عندهم يعملون جميعا بالقطعة.. قبلت العمل على الفور وأخذت مكان إحسان كمعيد للصياغة.
واستمر عملى هذا إلى نهاية ديسمبر 1948، كنت أثناءها وعلى وجه التحديد فى 29 سبتمبر 1948 قد تقدمت لخطبة جيهان من أبيها وتمت الخطبة.
كنت راضيا عن عملى بدار الهلال بل وسعيد به، ولكن حدث أن اختلف حسن عزت مع شركائه فى السويس فانتقل إلى مصر، وطلب منى أن أشاركه فى الأعمال الحرة، لم يكن من السهل أن أرفض طلبه فهو زميل كفاح، ثم إنه هو الذى خلصنى من الأزمة المالية التى كنت أعانى منها عندما نفدت نقودى فى حلوان، وقبل هذا وذاك كانت عندى نقطة ضعف نحو حسن عزت كصديق يحبنى ولا يخفى عنى شيئا ويعتبرنى ضميره.
طبعا لم يكن خروجى من دار الهلال أمرا سهلا، فقد تصوروا أنى أريد أجرا أكبر وعلى هذا الأساس بدءوا يساوموننى ولكن فشلت كل محاولاتهم وبدأت العمل مع حسن عزت بعمليات مياه صغرى فى 52 قرية من قرى محافظة الشرقية باسم حسن عزت طبعا وأنا شريكه ولكن دون تسجيل.
انتقلت إلى الزقازيق وكنت قد تزوجت جيهان فى 29 مايو1949، فأخذتها معى حيث قضينا شهر العسل وما بعده فى لوكاندة متوسطة الحال من «لوكاندات» الأقاليم هنا... فقد كنت أخرج من الصباح الباكر لأعمل 15 أو 17 ساعة فى اليوم، ثم أعود فى المساء إلى زوجتى فى «اللوكاندة».. واستمر عملى مع حسن عزت فترة.. حتى عادت ذاتى إلىّ وقررت أن أعود إلى الجيش، الوسيلة الوحيدة لتحقيق الرسالة- تحرير الأرض- التى كانت بالنسبة إلىّ كل شىء».
أم الأبطال
ولدت جيهان صفوت رؤوف فى 29 أغسطس1933 فى جزيرة الروضة بالقاهرة، وهى ابنة الطبيب المصرى صفوت رؤوف والبريطانية «غلاديس تشارلز كوتريل»، اللذان التقيا فى إنجلترا بينما كان صفوت فى جامعة «شيفيلد» يدرس الطب، وكانت الثالثة من بين أربعة أبناء.
والتحقت بمدرسة حكومية حتى حصلت على ليسانس الآداب جامعة القاهرة عام 1977، ثم حصلت على الماجستير فى الأدب المقارن، ثم نالت درجة الدكتوراه فى جامعة القاهرة عام 1986، وأصبحت إقامتها بين مصر والولايات المتحدة، وكانت أستاذا زائرًا فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة جنوب كارولينا، وجامعة رادفورد فى الولايات المتحدة، أستاذ الدراسات الدولية بجامعة ماريلاند منذ عام 1993، حتى استقرت إقامتها بشكل دائم فى القاهرة.
لقبتها أسر شهداء حرب أكتوبر، ومصابو العمليات الحربية بـ «أم الأبطال»، نظرا لجهدها الكبير، وما قدمته لرعايتهم، وتعويضهم من خلال مشروعات، من أبرزها تأسيس جمعية الوفاء والأمل، بالإضافة إلى العديد من المبادرات الاجتماعية، التى تخدم المجتمع المصرى بمختلف فئاته فى ذلك الوقت، حيث ترأست عددا كبيرا من الجمعيات والمؤسسات الأهلية، من أهمها جمعية الهلال الأحمر، جمعية بنك الدم، الجمعية المصرية لمرضى السرطان.
جيهان السادات «سيدة من مصر»:
يوم زفافى 29 مايو 1949 صحوت فى الفجر أستمتع بالشىء الهادئ الوحيد الذى سيتحقق، وبدأت أقرأ سورة «يس» وأنا أراقب الشمس وهى تمزق الضباب فوق نهر النيل، ولم أتذكر أنى شعرت بمثل هذه السعادة من قلبى، كم كان حظى سعيدا بأن أزف إلى رجل أعرف أنى أحبه، وهذا شىء لا يعرفه إلا القليلات من صديقاتى، وقد شعرت زميلاتى فى المدرسة بالدهشة حين أخبرتهن، وعرضت عليهن صورة أنور وبدأن يسألننى: هل هو غنى؟ فنفيت ذلك، فقلن هل يتولى منصبا كبيرا؟ فكان الرد ليس عنده وظيفة، ثم قلن وهن يتضاحكن: إذن لماذا تزوجته وهو أكبر منك سنا؟.. «لكن شخصيته هى التى جذبتنى» هكذا كان ردى.
ونظرت إلى أصابعى لأرى خاتمى الخطوبة الذهبيين، وكان أبى قد عاوننا على شرائهما، وكان أحدهما على شكل فراشة، وتقضى التقاليد أن يعطى العريس خطيبته دبلة الخطوبة وقطعة أخرى من المجوهرات: مثل أسورة أو حلق ولكن لم يكن ذلك فى مقدرة أنور.
«ماذا سنفعل» وجهت هذا السؤال لأبى وأنا أعرف أن أنور لن يستطيع من خجله الشديد أن يخبرنى أنه لن يقدر على مجاراة هذه التقاليد، كما كنت أعرف أن أمى وعماتى لابد أن يتأكدن أنى أعامل معاملة حسنة مثل بقية بنات الأسرة.
وقال أبي: دعيه يأت إلى القاهرة لنشترى لك الخاتم. ولكن أنور لم يكن راغبا فى ذلك وقال: ألا نستطيع أن ننتظر حتى أتمكن من شراء شىء لك، وكان فى ذلك الوقت يعمل فى دار الهلال، وهى دار النشر التى أصدرت مذكراته وهو فى السجن، ولكن لم تكن لديه أى نقود متوفرة من مرتبه إذ كان يرسل جزءا منه إلى أسرته الأولى والباقى لمصاريفه الشخصية، ولكن كان من الضرورى أن أعرض على الجميع دليل حبه لى، فلم تكن أمى قد اكتشفت مدى فقر أنور.
ورجوت أنور قائلة: أرجوك يا أنور اذهب مع أبى لتختار شيئا غير غالى الثمن وفى استطاعتك أن ترد ثمنه فيما بعد لأبي.
وذهب الاثنان إلى «بايوكي» الجواهرجى واختارا الخاتمين، ومن المعتاد فى مصر أن تساهم الزوجة فى تأثيث المنزل، فتحضر بعض الأثاث وبعض احتياجات المنزل وملاءات سرير والمفروشات....
ولم يكن فى استطاعة أنور أن يواجه تقاليد الزواج، وكانت قيمة الصداق المدونة مائة وخمسين جنيها، وحتى هذا الصداق المتواضع لم يكن فى قدرة أنور أن يدفعه، وكنت أداعبه وأقول له فى احتجاج وغضب مصطنع «لقد أخذتنى بلا ثمن».
قالت جيهان عن حياتها مع الرئيس السادات: «حياة بسيطة قدر المستطاع، لكن حبى للسادات وثقتى فيه جعلانى أتحمل كل شيء من أجله، أذكر أنى أحيانا كنت أقضى يومى على «ساندوتش» فول أو جبن وأحمد ربى عليه، ولم أشك لأبى أو أمى ضيق العيش أبدا.
شخصية السادات كانت مجموعة من التناقضات حرب وسلام، نصر واستشهاد حتى على المستوى الشخصى كان مقاتلا ومناضلا قويا وشجاعا، وفى نفس الوقت كان رومانسيا ضعيفا أمام كلمة وأمام وردة جميلة، وقد تندهش لو علمت أنه كان لا يطيق رؤية ابنه جمال وهو يأخذ حقنة أثناء مرضه.
وعن شياكة زوجها تقول طول عمره شيك وعنده ذوق لطيف، وأذكر أنه كان يخدم فى الجيش قبل الثورة برفح والعريش فكنا ندخر مبلغا ونسافر إلى مدينة غزة وبها سوق به أقمشة مستوردة فكنا نشترى قماش بدلة له وفستاناً لى وعندما نرجع للقاهرة نذهب لأحسن ترزى يفصل لنا هذه الأقمشة، وكنا نفصل حاجتين فقط فى السنة لكن المهم الشياكة قصة السادات وجيهان قوامها الحب والوفاء حتى آخر العمر، وأن تكون «دار الهلال» جزءاً من هذه القصة فهذا دليل على أن دارنا فى ديوان الحياة المعاصرة وستظل دائماً شاهدة على اعظم الأحداث فى تاريخ مصر.