<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";} </style> <![endif]-->
البحث العلمي في الوطن العربي... إلى أين؟
إعداد: د.صلاح الدين عبد الرحمن الصفتي
تُظهر الشواهد والدلائل حولنا أن استراتيجية البحث العلمي في وطننا العربي غير واضحة ولا تسير في الاتجاه السليم نحو مَنهجية مَدروسة ومُخططة؟ كما أنه ليس صحيحاً أن تتحمل الجامعة والمراكز البحثية مسؤولية إخفاق البحث العلمي وضآلة النتاج العلمي بشكل عام، فالإبداع العلمي هو حصيلة العمل المؤسسي في بيئة علمية صحيحة وهذه البيئة لا تنحصر في الجامعة أو مراكز البحث فقط، بل تشمل النظام الثقافي والمعرفي والاجتماعي بل والسياسي أيضاً. فعلى سبيل المثال فإن إنتاج الكتب في العالم العربي لا توجد بشأنه أرقام مؤكدة، إلا أن هناك شواهد تؤكد النقص الشديد في التأليف، كما أن الكتب المترجمة محدودة للغاية. فالعالم العربي كله يترجم سنويا ما يقرب من 330 كتابا وهو اقل ما تترجمه اليونان بمفردها. وللقاريء أن يتخيل أن الإجمالي التراكمي للكتب المترجمة منذ عصر المأمون حتى الآن بحدود مائة ألف كتاب، وهو يوازي تقريبا ما تترجمه أوروبا في عقد واحد.
ما هي مؤشرات الوجود لأمتنا العربية على خريطة العالم العلمية ؟
هناك عدد من المؤشرات يستطيع الخبراء من خلالها معرفة الحالة العلمية والتكنولوجية لدولة ما، وتتمثل هذه المؤشرات فيما يلي:
1- متوسط الإنفاق على البحث العلمي والتكنولوجي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
2- عدد العلماء والباحثين لكل ألف من السكان.
3- عدد الأبحاث العلمية السنوية المنشورة في المجلات العلمية وخصوصاً العالمية.
4- عدد الحاسبات الالكترونية لكل ألف من السكان.
5- عدد المجلات العلمية التي تصدر في البلد المعين.
6- عدد مراكز البحث العلمي والتكنولوجي في ذلك البلد.
7- متوسط الإنفاق على الكتب والمجلات لكل فرد من السكان.
8- عدد الاختراعات وبراءات الاختراعات المسجلة سنويًا لكل ألف من السكان.
9- نسبة مساهمة مُدخلات العلم والتكنولوجيا في الناتج المحلي الإجمالي.
ولتوضيح المؤشرات السابقة بصورة رقمية والتي لعل أن يكون فيها الإجابة عن الموقع الحقيقي لنا على خريطة العالم العلمية.. إليكم الصورة عن قرب:
ففي عام 2002، أصدرت منظمة العمل العربية تقريرًا بعنوان البحث العلمي بين العرب والكيان الصهيوني وهجرة الكفاءات العربية، كشفت فيه عن حقيقة الفجوة التكنولوجية والعلمية بين العرب وهذا الكيان والتي تجسد تفوقًا علميًا وتكنولوجيًا ساحقًا له أتضح فيه أن معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يزيد عن اثنين في الألف سنويًا من الدخل القومي (0.002%)، في حين أنه يبلغ في الكيان الصهيوني 8.1%، وأن نصيب المواطن العربي من الإنفاق على التعليم لا يتجاوز 340 دولارًا سنويًا، في حين يصل لديهم إلى 2500 دولار سنويًا، وأنه في حين يأتي الكيان الصهيوني في المرتبة رقم 23 في دليل التنمية البشرية على مستوى العالم، والذي يقيس مستويات الدخل والتعليم والصحة، فإننا نرى مثلاً مصر تحتل المرتبة رقم 199، وسوريا تحتل المرتبة 111 والأردن المرتبة 92 ولبنان المرتبة 82 وهي الدول العربية المحيطة جغرافياً بالصهاينة، أما عن استخدام الكمبيوتر فإنه في الكيان الصهيوني يوجد 217 جهاز كمبيوتر لكل ألف شخص، ويوجد في مصر 9 أجهزة فقط لكل ألف شخص، وفي الأردن 52 جهازاً و39 جهازاً في لبنان.
وبالنسبة لعدد الباحثين العلميين لكل مليون شخص من السكان فإن العالم العربي يملك 136 باحثًا لكل مليون مواطن مقابل 1395 عالمًا في الكيان الصهيوني لكل مليون من سكانها، بينما يصل الرقم في تركيا إلى 300 عالم، ويصل في جنوب إفريقيا إلى 192 عالمًا، أما في المكسيك فالعدد هو 217، وفي البرازيل 315 باحثًا وضعف هذا العدد في الأرجنتين، أما في اليابان فالرقم هو 5000 باحث، وفي روسيا 3415، وفي الاتحاد الأوروبي 2439، أما أمريكا فتملك 4374 عالمًا لكل مليون مواطن.
وحسب إحصائيات منظمة اليونسكو لسنة 2004، فقد خصصت الدول العربية مجتمعة للبحث العلمي ما يناهز 1.7 مليار دولار أي ما نسبته 0.3% من الناتج القومي الإجمالي، بينما خصصت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي 21.3 مليار دولار أي ما نسبته 0.6% من الناتج القومي الإجمالي، وخصصت دول جنوب شرق آسيا 48.2 مليار دولار أي ما نسبته 2.7%.
أما على مستوى العالم في سنة 2002، فقد خصصت السويد ما يفوق 10 مليارات دولار أي ما نسبته 4.27% من ناتجها القومي الإجمالي، وخصصت فنلندا حوالي 5 مليارات دولار، أي ما نسبته حوالي 3.5% من ناتجها القومي الإجمالي، وخصصت اليابان حوالي 107 مليارات دولار أي ما نسبته حوالي 3% من ناتجها القومي الإجمالي، وخصصت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 275 مليار دولار أي ما نسبته حوالي 2.7% من ناتجها القومي الإجمالي. وفي تقدير أخر عن المارد الصيني فإن الحكومة الصينية رفعت من مُخصصات البحث العلمي والتي كانت 30 مليار دولار عام 2005 إلى 136 مليار دولار عام 2006 وهذا يوضح بشكل جلي الفكر الصيني تجاه البحث العلمي وأهميته، وهذا بدوره انعكس على ما نراه الآن وهو إغراق العالم بأثره بالسلع والمُنتجات الصينية. وأما في الكيان الصهيوني، فإنه قد خُصص 6.1 مليارات دولار أي ما نسبته 4.7% من ناتجها القومي الإجمالي، وهو مبلغ يفوق ما تخصصه كل الدول العربية مجتمعة بنحو ثلاث مرات ونصف، ممثلة بذلك أعلى نسبة في العالم. أما عن تسجيل براءات الاختراع وحسب مكتب العلامات التجارية الأمريكي فان العرب سجلوا في عام 1997، 24 اختراعا بما يقابل اختراع واحد لكل 10 ملايين نسمة، أما في الكيان الصهيوني فقد سجل 577 اختراعا بواقع 1020 اختراعا لكل 10 ملايين نسمة، وهو ما يزيد عن الألف ضعف في العالم العربي.
وبشكل عام فإنه لم يعد الكثيرون في العالم العربي يتساءلون عن سر التفوق الصهيوني الكاسح على الدول العربية مجتمعة في أي حرب تنشأ بين الطرفين، لأنهم أصبحوا يعرفون جيداً أسباب هذا التفوق. فباستثناء حرب أكتوبر 1973، خسر العرب كل الحروب التي خاضوها ضد هذا الكيان الصهيوني الغاصب. والحمد لله أننا انتصرنا في حرب أكتوبر حتى يتأكد للمواطن العربي أننا يمكن أن ننتصر إذا استحضرنا إرادة النصر، وتحلينا بمقومات النصر، وأجدنا التحضير والاستعداد.
لماذا تفوق الكيان الصهيوني؟
التركيب البنيوي للعلم والتكنولوجيا للكيان الصهيوني قبل وبعد قيام الدولة، ينطلق على أساس إيجاد استراتيجية مؤداها التقدم على جبهة واسعة تهدف إلى تحقيق قفزة صناعية جديدة، سواء في الصناعات ذات التكنولوجيا المتقدمة، أو الصناعات كثيفة العمالة. وقد أعطت الأيديولوجية الصهيونية دفعة قوية لإيجاد مفاهيم علمية، وتأسيس لبِنات جديدة للبحث العلمي الحديث، والتحديث التكنولوجي، وتدريب أجيال حديثة من العلماء.
ومن أجل تأصل المنهجية العلمية في الفكر الصهيوني ومراحله، لذلك تم الاهتمام بشكل خاص منذ بداية إنشاء هذا الكيان بالعلوم الفيزيائية والكيميائية والطبيعية والاجتماعية، مُدركين بأن العلوم الفيزيائية والكيميائية والطبيعية تُتيح الهيمنة على العالم وتحويل مساره، وأن العلوم الاجتماعية تُخضع الحياة الاجتماعية لوعي وفعل الإنسان، من خلال تسلحه بوسائل ثقافية لتحقيق وحدة الفكر والفعل. ومنذ عام 1949 تأسس معهد الجيولوجيا، ومعمل الفيزياء الوطني في 1950 ومعهد تيلة القطن ومعهد النقب لبحوث المناطق الصحراوية وجامعة بار إيلان. واحتلت البحوث الخاصة بقوات الدفاع أهمية عُظمى فتم إنشاء القسم العلمي في الهاجاناة، وشعبة الأبحاث والتخطيط في وزارة الدفاع لمسح صحراء النقب، وكشف ما تحتويه من يورانيوم كأحد المكونات الأساسية للقنبلة الذرية. وفي فترة التسعينيات بدأت موجة جديدة من الهجرة إلى الكيان الصهيوني والتي أعادت إلى الأذهان موجات الهجرة التي سبقت تأسيس الدولة، وتشير التقديرات إلى أنه من بين كل مائة ألف مُهاجر سوفيتي وجد نحو 11 ألف مهندس، و2500 طبيب، و1700 عالم في مجال الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والليزر والمعدات الإلكترونية.
وتضم السياسة الحكومية لبرامج البحث والتطوير العلمي اللجنة الوزارية للعلوم والتكنولوجيا، ووزارة العلوم والتكنولوجيا، كما تعزز في اللحظة نفسها مجالات النشر العلمي، ولو قدرنا عدد العلماء الذين ينشرون بحوثًا، مقارنة بعدد السكان، لتبوء الصهاينة المكانة الأولى بنسبة 11.7 لكل عشرة آلاف نسمة وتسبق كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية ومعدلها 10، وإنجلترا ومعدلها 8.4. والقدرات المؤسسية لبرامج البحث والتطوير الوطنية الصهيونية متعددة، مثل هيئة الطاقة الذرية ومؤسساتها التي تدير المعهد الصهيوني للإشعاع والنظائر الذي تأسس عام 1952، ويقوم بتحضير المحاليل المُشعة التي تستخدم في التجارب المائية والطبية والزراعية والهندسية، كما يضم مُختبرات فيها أحدث الأجهزة الخاصة بالأبحاث والتجارب النووية.
ولم يفوت الكيان الصهيوني إقامة علاقات بحثية مع الدول المتقدمة علمياً، بهدف الاندماج معها مثل برامج التطوير الصهيونية الأمريكية، والألمانية، والبريطانية، والفرنسية، والروسية، واليابانية، والصينية، والكورية الجنوبية، والتركية. وينتسب الكيان الصهيوني اليوم لنحو 21 اتحاداً علمياً دولياً، ولا تنقطع الزيارات المتبادلة بين علمائهم وعلماء العالم منذ قيام هذا الكيان حتى الوقت الراهن.
وأدركت المؤسسات االصهيونية أهمية الإطلاع على ما يجري من أبحاث في البلدان الأخرى، وأنها ضرورة لابد منها، وقادها ذلك إلى وضع برنامج خاص بالترجمات العلمية كما اهتمت بترجمة الأدب العبري وتاريخ العبرية، بهدف إحيائها واستعمالها لغة موحدة للحديث داخل الدولة، ثم لاحتياج هذا الكيان إلى وظائف تكنولوجية علمية جديدة، وما يتطلب زيادة المدارك المعرفية لكل صهيوني، وأخيراً تطوير بحوث الدول المتقدمة، وتطبيق تجاربهم العلمية للإسهام في وتيرة الابتكار والإبداع الداخلية.
ما هي معوقات البحث العلمي في الوطن العربي؟
ولكي نرصد معوقات البحث العلمي في العالم العربي يمكن الإشارة إلى نوعين من المعوقات:
أولاً المعوقات العلمية ومنها: عدم وجود استراتيجيات أو سياسات لمعظم الدول العربية في مجال البحث العلمي، وكذلك ضعف المُخصصات المرصودة في موازنات معظم الدول العربية، وأيضاً هروب العنصر البشري من بعض الدول العربية واعتمادها على العناصر غير المدربة، ثم ضعف قاعدة المعلومات في المراكز والمختبرات والمؤسسات الإنتاجية لبعض الدول، ناهيك عن عدم معرفة أهمية المراكز البحثية في بعض الدول العربية.
ثانياًً المعوقات العملية وأهمها: ضعف الإنفاق على البحث العلمي.
وقد نتج عن ذلك ظاهرتان خطيرتان هما: ضعف مستوى البحث العلمي، وقلته، وعدم إسهامه في التنمية، ومن ثم هجرة العلماء إلى الدول المتقدمة.
ومن أهم معوقات بناء القدرات التكنولوجية للأمة العربية هو غياب الإرادة السياسية لبناء هذه القدرات، وعدم إدراك الترابط الوثيق بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من جهة والتقدم العلمي من جهة أخرى، وعدم تخصيص موارد مالية وطنية مستقرة وكافية للإنفاق على البحث العلمي والتكنولوجي، ومن ثم غياب استراتيجية وطنية لبناء القدرات العلمية والتكنولوجية، وكذلك ضآلة حجم العاملين في مجال العلم والتكنولوجيا، وأيضاً غياب المؤسسية وحرية المؤسسات الأكاديمية واستقلالها المالي والإداري، وضعف ثقافة العلم لدى المجتمع.
كما أن الوطن العربي ليست فيه قاعدة بيانات عربية عن النشاط العلمي الجاري، وليست هناك قاعدة بيانات عن هذه المعاهد أو المراكز والهيئات التي تجري البحث العلمي، وليست هناك وسائل مناسبة أو متوفرة بيسر لنشر النتائج التي يتوصل إليها العلماء أو نشر خبراتهم. وليست هناك وسائل مباشرة وفعالة لنقل الخبرة إلى المؤسّسات الصناعية العربية، أو مكاتب الاستشارات، أو شركات المقاولات العربية.
وبشكل عام سوف أسرد بشكل من التفصيل أهم مُعوقات الأداء البحثي والعلمي في وطننا العربي أملاً بكل إخلاص أن أضع هذه العقبات بين يدي صانعي القرار لنعمل سوياً على القيام بنهضة علمية عربية هدفها الوحيد هو استقلال أمتنا العربية بشكل كامل عن الهيمنة الغربية المحيطة بنا في كافة المجالات وهذا لا يتأتى إلا بنهضة العلم والبحث العلمي في أمتنا العربية الحبيبة.
1- هجرة العقول العربية:
ظاهرة هجرة العقول العربية إلى الخارج أو نزيف الأدمغة هي ظاهرة في ازدياد واطراد وليست في تراجع أو تقلص. وتكشف دراسات للجامعة العربية أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، وقد أصبح الأطباء العرب يمثلون نحو 34% من الأطباء في بريطانيا، كما أصبح الوطن العربي يساهم بـ31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية ككل، ونحو 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا بوجه خاص، وبات نحو 75% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة إلى ثلاث دول غربية بالتحديد وهي: بريطانيا وأمريكا وكندا. فالدول الغربية هي الرابح الأكبر من هجرة ما لا يقل عن 450 ألفًا من العقول العربية، وتقدر خسائر الدول العربية من هذه الظاهرة بما لا يقل عن 200 مليار دولار.
وتؤكد هذه الدراسات أن مصر والتي تعتبر أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان وحدها قد فقدت 450 ألف عالم وباحث ومُتخصص من أفضل الكفاءات العلمية بهجرتهم إلى الغرب، وأن نسبة العقول العربية تزيد بين العلماء والتكنولوجيين في أمريكا وكندا عن 2%. وفي تقديرنا، فإن هذا السبب سالف الذكر من أهم أسباب وجود الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني والتي أدت إلى هذا الخلل الاستراتيجي الخطير في موازين القوى في المنطقة لمصلحة الصهاينة، وجعلها قادرة على تحدي العرب كافة وجعلهم في موقع الهزيمة، وهو ما يفسر في أحد جوانبه عجز العرب عن دحر هذا الكيان على مدى أكثر من نصف قرن بسبب استمرار حالة التخلف العلمي العربي، التي جعلت الكثرة العددية العربية غير قادرة على تحقيق التفوق للعرب في صراعهم مع هذا الكيان، وجعله يتفوق رغم القلة العددية السكانية في مواجهة العرب، لامتلاكها تفوقًا نوعيًا في القدرات البشرية والإمكانات العلمية انعكست تفوقًا استراتيجيًا في القدرات العسكرية والصناعية والتكنولوجية.
وفي هذا الإطار، فإنه لا يمكن للعالم العربي أن ينتفع بقدرات علمائه المهاجرين ما لم يتمكن من تهيئة البنية العلمية الداخلية القادرة على إغرائهم بالعودة إلى أوطانهم، أو على الأقل توظيف علومهم ومعارفهم وبحوثهم العلمية بطريقة أو بأخرى لمصلحة بلدانهم، وهو ما يُمكننا من توطين التكنولوجيا في مجتمعاتنا العربية وخلق القاعدة العلمية الابتكارية القادرة على تطوير الإنتاج وامتلاك القدرة على المنافسة.
ولهجرة الأدمغة العربية تأثيرات سلبية كبيرة على عملية التنمية العربية، خاصة ما تسببه من خسائر مادية وعلمية للأقطار العربية، فهناك مثلاً حوالي 10 آلاف مهاجر مصري يعملون في مواقع حساسة بالولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم 30 عالم ذرة يخدمون حالياً في مراكز الأبحاث النووية، ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الأسلحة الأمريكية الموضوعة تحت الاختبار. كما يعمل 350 باحثاً مصرياً في الوكالة الأمريكية للفضاء (ناسا) بقيادة العالم الدكتور فاروق الباز، إضافة إلى حوالي 300 آخرين، يعملون في المستشفيات والهيئات الفيدرالية، وأكثر من ألف متخصص بشئون الكومبيوتر والحاسبات الآلية، خصوصاً في ولاية نيوجرسي التي تضم جالية عربية كبيرة. ويُشار هنا إلى مساهمة عدد من أساتذة الجامعات المصريين في تطوير العديد من الدراسات الفيزيائية والهندسيّة في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، وخاصة في جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعتيْ بوسطن ونيوجرسي، وعلى رأسهم العالم المصري أحمد زويل، الذي منح جائزة نوبل للكيمياء في عام 1999، وهو الذي يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
وخسارة القدرات البشريّة المتخصّصة، تفقد العرب مورداً حيوياً وأساسياً في ميدان تكوين القاعدة العلمية للبحث والتكنولوجيا، وتبدّد الموارد المالية العربية الضخمة التي أُنفقت في تعليم هذه المهارات البشريّة وتدريبها، والتي تحصل عليها البلدان الغربية بأدنى التكاليف. ففي وقت هاجر فيه أو أجبر على الهجرة، مئات الآلاف من الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالاً طائلة لجلب الخبرات الدولية.
2- عدم وفرة المعلومات:
قد كشف الدكتور عماد حسين مدير تحرير أحد المواقع الالكترونية في ندوة تحت عنوان "الانترنت في خدمة البحث العلمي" عن نقطة هامة جدا تعوق نشر الإنتاج البحثي العربي وهي عدم وجود معلومات عما ينشر لدى الغير، فما ينشر في المشرق العربي لا يعرفه المغرب العربي والعكس، بل إن بعض ما ينشر داخل الدولة الواحدة قد لا يعرفه الباحث عند بحثه في موضوعه، ويضيف حسين: "إننا في أثناء عملنا وجدنا أن هناك تكرارا في البحث العلمي في العالم العربي داخل الدولة الواحدة بنسبة 10%، فمثلا وجدنا مخطوطة واحدة تم تحقيقها 12 مرة، وأبحاثا متنوعة ومختلفة تم تكرارها في دول مختلفة وداخل الدولة الواحدة". ومسألة التكرار في غاية الخطورة، لأنه لو كان هذا الجهد متوفرًا لتم توجيه الباحث إلى موضوعات أخرى جديدة أو أضاف على البحث الموجود بالفعل أو حتى تناوله من زاوية جديدة.
3- غياب القطاع الخاص عن المساهمة:
يعد القطاع الحكومي الممول الرئيس لنظم البحث العلمي في الدول العربية، حيث يبلغ حوالي 80٪ من مجموع التمويل المُخصص للبحوث والتطوير مقارنة بـ3٪ للقطاع الخاص، و7٪ من مصادر مختلفة. وذلك على عكس الدول المتقدمة وإسرائيل حيث تتراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي ما بين 70٪ في اليابان و52٪ في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا الإسهام الضعيف من قبل القطاع الخاص للمؤسسات البحثية في الدول العربية يرجع إلى عدم تقدير القطاع الخاص لقيمة البحث العلمي وجدواه. إضافة إلى عدم كفاية الميزانيات التي ترصدها المراكز والجامعات ومؤسسات المجتمع للبحث العلمي، وإلى الفساد المالي والإداري الملحوظ في الجامعات ومراكز البحوث العربية.
ومن النماذج العربية الجيدة في دعم البحث العلمي، نموذج دولة الكويت، التي فرضت نسبة معينة من أرباح الشركات لدعم «مؤسسة الكويت للأبحاث العلمية» تُقدم كمعونة من القطاع الخاص، كمورد إضافي لحركة البحث العلمي في جامعاتها ومراكزها البحثية. وينبغي هنا أن نؤكد أن القطاع الخاص عند دعمه للبحث العلمي سيكون هو أول المستفيدين من نتائجه على المدى الطويل. وأمثلة ذلك كثيرة في العالم فكم من الشركات الكبرى التي تبنت ودعمت بحثًا ما في إحدى الجامعات وعند الوصول إلى النتائج كانت هي أول المستفيدين من هذا البحث. ومن ثم يعود عليها عائد مادي كبير لامتلاكها حق الاكتشاف والتبني. ونجد في أغلب جامعات العالم أن هنالك مراكز بحثية يقوم على تمويلها ودعمها الشركات الكبرى أو القطاع الخاص عامة. وقد توصلت هذه المراكز (نتيجة لهذا الدعم) إلى حلول لمشكلات أو طورت اختراعًا عاد بالمردود الجيد على الشركات الداعمة. كما أن هذه الشركات قد تبيع نتائج البحوث التي دعتمها لقطاعات أخرى، بل (وليس بالضرورة) امتلاك هذه الشركات لنتائج البحث، ففي كثير من الحالات يشارك عدد من الشركات لدعم بحث ما، ولا تستفيد من ذلك سوى أن يذكر اسمها من ضمن الداعمين. وهذا له مردود دعائي كبير على مستهلكي مُنتج الشركة، وذلك على المدى الطويل، فهو يدل على مركز الشركة الرفيع وتقديرها للبحث العلمي ويعطيها السُمعة الحسنة والمتميزة أمام عملائها..
4- عدم وجود استراتيجية للتسويق:
من أسباب ضآلة حجم الإنفاق على البحث العلمي افتقار أغلب المؤسسات العلمية والجامعات العربية إلى أجهزة متخصصة بتسويق الأبحاث ونتائجها وفق خطة اقتصادية إلى الجهات المستفيدة مما يدل على ضعف التنسيق بين مراكز البحوث والقطاع الخاص. كذلك غياب المؤسسات الاستشارية المختصة بتوظيف نتائج البحث العلمي وتمويله من أجل تحويل تلك النتائج إلى مشروعات اقتصادية مربحة. إضافة إلى ضعف القطاعات الاقتصادية المُنتجة واعتمادها على شراء المعرفة.
5- غياب التعاون والتنسيق:
أشارت بعض الدراسات إلى أن المؤسسات البحثية العربية تعاني من مشكلات عديدة من بينها انفصام الصلة بين الجامعات وحقل الإنتاج، وابتعاد الجامعات عن إجراء البحوث المساهمة في حل المشكلات الوطنية، إضافة إلى عدم مشاركة المؤسسات الكبرى والشركات والأثرياء من الأفراد في نفقات البحث العلمي. فمراكز البحوث والجامعات العربية تعاني من انفصال شبه كامل بينها وبين المجالات التطبيقية خارج أسوارها أو معاملها، فالبحوث التي تجري بين جدرانها من جانب أساتذتها إنما هي بحوث فردية لأساتذة يحاولون الإنتاج العلمي بغية الترقي، أو النشر، أو السمعة، وهي بحوث أضعف من أن تحل مشكلات المجتمع أو تعمل على تقدمه.
6- نُدرة الباحثين:
إن أنشطة البحث العلمي التي تجري في إطار المراكز والجامعات العربية من أضعف الأنشطة البحثية في العالم، بسبب قلة عدد الباحثين والمُختصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة فإن آفة العمل البحثي العربي هو نظرية الفرد الواحد One Man Show، وانشغال عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس في العمل الإضافي نظراً لتدني رواتبهم الجامعية. وكذلك استحواذ الميزانيات الإدارية على النصيب الأوفر من المُخصصات الجامعية.
7- نظرة المجتمع:
ينظر المجتمع العربي الحالي نظرة لا تليق بالبحث العلمي من حيث أولويته على كثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلك بالتنشئة الاجتماعية التي أكسبت الجماهير العربية الحالية هذه النظرة السلبية نحو البحث العلمي، وأصبح الناس غير مدركين لخطورة تدهور البحث العلمي العربي، وتأخره عن ركب الحضارة. إن المجتمعات في الدول المتقدمة تدعم المؤسسات البحثية ماديًا ومعنويًا، ولا يمكن أن تبخل عليها بالمال أو الإمكانيات، أو حتى الدعم اللفظي، حتى إنه في كثير من الأحيان تنظم المسيرات والتجمعات مطالبة الحكومة بالإنفاق بسخاء لإجراء المزيد من البحوث العلمية في مجالات التنمية التي ينشدها الوطن.
وهنا يجب أن نثني كثيراً على ما تقوم بها الجماهيرية العظمى بإيفاد إلزامي لأعداد كبيرة من الباحثين وطلاب الدراسات العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه من جامعات أوربا وأمريكا بهدف دعم القاعدة العلمية داخل الجماهيرية ونقل التقنيات والعلوم المتقدمة، علاوة على ذلك إعداد الكوادر البشرية العلمية القادرة على حمل لواء التقدم العلمي داخل الجماهيرية وخارجها على المستوى العربي.
وفي نهاية هذا المقال وجب علي أن أطرح تساؤل هام وهو هل بيئتنا العربية بشكل عام هي حقاً بيئة طاردة للمواهب والكفاءات، وأنها بيئة غير صالحة لنمو وتطور العقول البشرية العربية؟ ولكني حتى لا أكون مُتشائماً يجب أن أردد القول الشهير وهو "تفاءلوا بالخير تجدوه" فإن الفرصة لا زالت قائمة أمامنا كشعوب عربية للحاق بركب التقدم العلمي الرهيب، وأن تصبح أمتنا العربية هي بيئة جذب ونمو لعقول أبنائها، حيث يجب أن نعلم وندرك جيداً، أن بالعلم والعلماء تتقدم الأمم في كافة المجالات، فنحن شئنا أم أبينا لابد وأن نستقل صاروخ التقدم العلمي فهذا الأمر أصبح اليوم اضطراراً لا اختياراً، هذا وإلا سوف نُصر على أن نكون أمة نسيه منسية في هذا الكون الفسيح.
المراجع:
- عماد حسين - الانترنت في خدمة البحث العلمي- ندوة بقصر ثقافة الاسكندرية- 2007.
- عامر حسين - البحث العلمي سلاح الصهاينة للتفوق على العرب- 2006- مجلة مسجد الالكترونية- غزة.
- محمد مسعد ياقوت- مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي- 2005- خير أون لاين.
- راندة النجدي عرافة- فلسفة التعليم المفتوح والتعلم عن بعد (ورشة عمل)- 2004- جنين.
ساحة النقاش