Dr. Maher Elsawaf

الطريق إلي التقدم والتنمية يقوم علي العلم والمعرفة وحرية التعبير

حكايات الإنس والجن في التراث     للكاتبة د. أماني الجندي    

ويلعب الخيال الفردي دورا مؤثرا فى صياغة الأفكار، وتحديد ملامح العلاقة بين الإنسان والجان، إذ يستقبل الفرد بإرادته الحرة تلك الحكايات ويتمسك البعض بحقيقة حدوثها، والبعض يسقطها من الذاكرة. و تتخذ مستويات البث والتلقى لتلك الحكايات مسارات متعددة من القبول والتبني، عند كل فرد من أفراد الجماعة، إذ تتدخل التنشئة الثقافية حيناً، والمواقف الخاصة حيناً آخر فى المدى الذى يقبل تلك التصورات حول الجان ومواقفهم وتصرفاتهم وأشكالهم والطيبين منهم والأشرار، وقدراتهم المعرفية وإمكانية استفادة البشر من تلك القدرات، كذلك علاقتهم بأنفسهم وعلاقتهم بالبشر ، والنفع والضرر الذى يترتب على وجودهم والعلاقة بهم، الدور الذى يمكن أن يلعبوه فى فك الطلاسم وحل المشكلات.

وقد أفرد الخيال الشعبى مساحات واسعة من التصورات حول امكانية زواج الإنس والجان، هذا الزواج الذى يسعى البشر من خلاله إلى اقتراب مأمول ومصالحة واجبة، لعله يُحقق التعايش ويصد الأذى المجهول، فتأتى تلك التصورات بحكايات حول حدوث الزواج والموقف الذي أدى إليه، ورغبة الطرف الآخر /الجنى فى إتمام الزيجة، والإلحاح فى الطلب ، والرضوخ إلى المطلوب، وأوقات اللقاء بين الزوجين واختفاء الإنسى وانتقاله إلى عالم الجان، وإنجاب الأطفال، إنه عالم لا يعرف البشر سواه، إنه خيال الواقع وواقع الخيال، والأساطير نفسها صياغات بشرية، خيرون، وأشرار، يتخاصمون ويتقاتلون ويتحابون ويتزاوجون ويتوالدون، ثم يستكملون نواقص الحياة كما يراها البشر.

ومن الموتيفات المهمة المتكررة فى قصص الخوارق تلك التى تحفل بها الأساطير العربية، مثل حكايات الحب، ولسنا نعنى هذا الحب بين إنسان وإنسانة، فهذ اللون لا يوجد فى الأساطير وحدها، بل نعنى نوعا بذاته من الحب، هو ذلك الحب الذى ينشأ بين واحدة من الإنس والجن، أو بين واحدة من الجن وإنسي، وهذا اللون الغريب من الحب أليف عند كُتَّاب الخوارق والأساطير، ويرد بكثرة شديدة فى مواضع عديدة من «ألف ليلة وليلة»، ومن سيرة «سيف بن ذى يزن» وغيرهما .

ويبدو من هذا أن حكاية حب الجِنِّية لإنسي، والعكس، كانت شيئا مألوفا فى مأثورات عامة، ولعل فى هذه الإشارة إلى التزاوج بين الجان والإنس اقترابا من زواج الآلهة والناس فى الأساطير الإغريقية، أو لعلها محاولة لتفسير سر الجمال الفائق الذى تتمتع به بعض النسوة بنسبته إلى هجين من العالمين عالم السماء وعالم الأرض. و نراه أيضا فى قصة «الصعلوك الثاني» فى حكاية «الحمَّال والثلاث بنات»، وكذلك فى قصة «أبى محمد الكسلان»، وقصة «حسن البصري وزوجته الجِنِّية صاحبة الثوب الريشي»، وقصة «بدر باسم وزوجته جِنِّية البحر »، وقصة «السمندل»، وغيرها كثير في قصة «سيف الملوك وبديعة الجمال»، حيث يلقى «سيف الملوك» «دولت خاتون»، وهى إِنسِيَّة أحبها جِنِّي فارتفع بها بعيدا عن دنيا الإنس، وما أكثر «الجميلات اللواتى أحبهن عفاريت» فى «ألف ليلة وليلة» فارتفعوا بهن إلى آفاق السماء، أو اغتصبهن فى أعماق الأرض فجعلهن بعيدات عن أهل الأرض، وكذلك الأمر في سيرة «سيف بن ذى يزن» وتلونها. تقول الراحلة الدكتور «سهير القلماوي» فى هذا الصدد : «وكما نجد الجنِّي يخطف الإنسية التى أحبها فيبعدها عن العالم الإنسي، فكذلك نجد إشارة بعيدة إلى جِنِّيَة أحبت رجلاً من الإنس فسجنته فى جبل الثكلى الذى يصادفنا فى قصة «أنس الوجود والورد فى الأكمام».

وتقابلنا أيضا فى «ألف ليلة وليلة» حكاية «التاجر والعفريت» فى قصة «التاجر والكلبين»، إذ تعشقه جِنِّية فتظهر له في صورة إنسية فقيرة ويعطف عليها ويتزوجها ثم تنقذه من الموت ومن كيد أخويه.


 ومن الموضوعات المهمة أيضا حكايات الخوارق فى الأساطير الشعبية وزيارة عالم الجان ، وهو غالبا ما يكون فى أعماق البحر ،حيث توجد مدن كاملة، وحياة شبيهة بحياة الناس، وحين يعود البطل من رحلته فى عالم الجن يحس أنه لم يقض إلا دقائق معدوات رغم أن الرحلة تستغرق زمنا طويلا. ويمكننا أن نحدد حكايات العشق بين الجن والإنس بأنها من الحكايات الشعبية التى عاشت فى الأدب العربى قبل السير وعاشت فى الأدب الغربى قبل الملاحم. أما فى الأدب الشعبى العربى فهذه الحكايات تعكس أحلاما قديمة لتطلعات الفرد العربى فى تخلصه من بعض العوامل التى تعوق حصوله على ما يريد من مجد وسؤدد حيث يستطيع الأنسى الحصول على ابنة العالم المجهول ذات القدرات الخارقة.

وقصص «العشق بين الإنس والجان» سواء منها ما جاء فى «السير الشعبية» أو فى «ألف ليلة وليلة» أو فى «كتب الأخبار والأدب»، ترمز فى الغالب إلى هذا الشوق عند الإنسان فى الامتزاج بالمجهول الذى يسيطر عليه ويفوقه فى قدراته وامكانياته.

وعالم الحب بين «الإنس والجان» ملىء بالطرائف الشائقة، تفنن القصاصون فى إبرازها وتناولها. لعل أهمها «أحلام شهرزاد» للدكتور «طه حسين» الذى جعل القصة المحورية فى روايته تدور حول «عشق ملوك الجان» لأميرة مستعصية لا تريد أن تخضع لحكم القوة أو للتهديد بها . وترسبت هذه الموتيفة فى الحكايات الشعبية المعاصرة فى عالمنا العربى والتى تظهر فى الإيمان بأن بعض الناس «يخاوون» أو يتزوجون من جِنِّيَات، يمكنوهم من معرفة الغيب وشفاء الأمراض وقراءة الطالع، وهى الأساس الذى يعتمد عليه الكثير من الدجالين فى ايهام العامة بقدراتهم السحرية.

ولعل الشبيه لهذا على المستوى العالمى ما تؤمن به جمعيات كثيرة فى مختلف انحاء العالم وإن اختلف الاطار الذى يوضع فيه هذا المعتقد ، ولكن يعود فى نسجه العالم إلى ما تخيله الإنسان، وما حاول أن يتبينه فى أدبه الشعبى وأساطيره من وحدة بين عالمه المادى وبين العالم المجهل الذى يحيط به، سواء كان هذا هو عالم الآلهة عند الإغريق، أو عالم الجن فى الأدب الشعبى العربى، أو عالم الأرواح عند مثل الجماعات التى أشرنا إليها.

 

 

 

 

المصدر: منقول من جريدة الأهرام الصادرة السبت 14 من شعبان 1437 هــ 21 مايو 2016 السنة 140 العدد 47283
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 274 مشاهدة
نشرت فى 21 مايو 2016 بواسطة drelsawaf

Dr.maher elsawaf الأستاذ الدكتور محمد ماهر الصواف

drelsawaf
نشرالثقافة الإدارية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية »

عدد زيارات الموقع

326,448

ابحث