من مقال "ذكريات والد طبيبة" يقول:
ابنتي الوحيدة الغالية ألحَّت عليَّ أن أدعو الله لها أن تلتحق بكلية الطب .
ابنتي الرقيقة هذه مجتهدة جداً فأنساني طلبها مبدأ مُهِماً كنت مؤمناً به وأعمل به طول حياتي
هذا المبدأ هو أن لاأطلب شيئا بعينه من الله من الأمور المحتملة التي لا أعلم هل هي في المستقبل ستكون خيراً أو شراً بل الصحيح الدعاء بالخير حيث كان وترك الاختيار لله تعالى فهو أعلم
هذا المبدأ تعلمته من قوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا) قال القرطبي: وكان الإنسان عجولا أي طبعه العجلة ، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير
كما تعلمته من المواقف التي يمر بها كثير منا عندما يعجل ويتمنى شيئا ويدعو ربه أن يتحقق ثم بعد زمن يتبين له أنه لم يكن خيراً له ولو فوض الأمر إلى الله وسأله أن يقدر له الخير حيث كان لكان أفضل من دعائه شيئا بعينه
إلحاح ابنتي الغالية جعلني أنسى مبدئي هذا فدعوت لها دعاء الأب لابنته التي يحبها ويحب لها الخير والسعادة
وقد كان وتقبل الله الدعاء وسعدنا بتفوقها ثم بقبولها في كلية الطب
الحقيقة أن الالتحاق بكلية الطب للمتفوق يأتي بدون تفكير كأمر طبيعي وبديهي يعني طالب أو طالبة حصلت على مجموع يؤهلها لدخول الطب فمالذي يخطر على البال غير الطب؟
نحن كأسرة فوجئنا بأن هناك أُسَر لها تفكير آخر بالنسبة للبنت وهو اختيار كلية الصيدلة باعتبارها أخف في المذاكرة وكذلك في أعباء العمل بعد التخرج يقولون: يمكنها فتح صيدلية تديرها وهي في البيت!
لكن فكرة الصيدلة هذه لم تعجبها
قالت: بعد كل هذه الدراسة والتعب أعمل في بيع الأدوية ؟
لو كان كذلك فالأولى أن لا أتعب في التعليم وبدلا من الصيدلية افتتح محلا مثلا
وقد وافقتها الفكرة
وفرحنا بدخولها كلية الطب
ولكن
بدأت المعاناة التي كانت خافية علينا
- بعد أيام قليلة جاءتنا مكتئبة من كلام زميلاتها القُدامىَ وقالت أنهن استقبلننا بكلام من نوع:مالذي جاء بكن إلى كلية الطب ؟
أن الكلية صعبة جدا وعليك أن تتعلمي الترجمة أولا حتى تستطيعي أن تذاكري فكل المواد باللغة الانجليزية وترجمتها تحتاج الى مجهود كبير
ـ انظري الى هذه الزميلة .. إنها هنا في الكلية ترسب وتعيد السنة منذ سنة كذا!
ـ أن خريجات الطب فرصهن في الزواج قليلة
وهكذا
لم أستجب ساعتها لطلبها بأن تُحوِّل إلى كلية أخرى فقلت لها : تعالي نتشاور في الأمر سوياً ..
والحقيقة أني خشيت إن هي تركت الكلية أن تتحسر بعد ذلك وكلما التقت طبيبة ندمت وقالت: ياليتني أكملت وقد كنت يوما ما في كلية الطب .
هذه الحسرةعشتها مع بعض الذين أهملوا في التعليم ثم رأوا أقرانهم فيما بعد.
كما أنها كانت مجتهدة ودراسة الطب لن تعجزها
وبعد ارتياحها في البيت لأيام والتشاور بهدوء رجعت فأكملت
المعاناة الثانية كانت في الاختلاط بالطلاب الرجال وجرأتهم في التعامل مع زميلاتهم ومطاوعة الطالبات في الاختلاط بحيث ينشأ جو من التعامل عام من لا ينساق معه فهو غريب وهذا الذي كنت أتحسب له من قبل دخول الجامعة ولذلك أقنعتها بالنقاب قبل دخول الجامعة حتى لا تتعرض للمحاولات السخيفة التي نعرفها من الشباب لاستدراجها والإيقاع بها في فخ الهوى الذي يسمونه الحب وإن كان هذا في كلية مثل الطب قليلا بالنسبة لغيرها نظرا لانشغالهم بالدراسة
المعاناة الثالثة في السفر كل أسبوع فقد كان علينا أن نحاول كل مرة أن نوفر لها جلوسا بجوار طالبة وليس بجوار رجل فنوفق أحيانا بينما أحيانا أخرى نقع في مشكلة مع راكب أو سائق
مشكلة الاختلاط وكثرة الاحتكاك بالرجال وخصوصا في المواقف الصعبة واضطرار البنت الى أن أن تغالب أنوثتها وتقلد الرجال هذا أمر مع تكراره يحملها فوق طاقتها وهو ضغط على أعصابها كما أنه يفقد البنت بعضا من خجل الأنثى وهو أهم مميزاتها
نأتي بعد ذلك الى معاناة السكن فبعض صديقاتها عرضن عليها أن يشتركوا في سكن خارج المدينة الجامعية وذكروا بعض المميزات كوجود حرية في الخروج والدخول بينما المدينة لها مواعيد وكذلك وجود ثلاجة وأدوات مطبخ ومعيشة خاصة بخلاف المدينة لكني بالطبع رفضت الفكرة فالمدينة الجامعية للبنت أكثر أمانا فهي تحت مسؤلية الإدارة وعليها حراسة وإذا وجدت مشكلة فالإدارة هي المعنية بحلها
وبالفعل بعد عدة سنوات اضطرت للسكن في شقة خارج المدينة وفي يوم حدثت قفلة في السخان الكهربائي وأحدث حريقا في الشقة ولكن تدخل الجيران بشهامة أنقذ الموقف
كما كان تجديد أنبوبة البوتاجاز يمثل لهن مشكلة كبيرة
في السنة الثانية تقريبا تقدم لها عريس وراء آخر ولكن بالطبع لم نوافق نظرا لأن التخرج مازال بعيدا فسرت هذه الأخبار فصار من يسأل من بعيد حولنا قبل أن يتقدم للخطوبة يجد عندهم هذه الاجابة: مازال أمامها وقت ولانريد أن نشغلها الآن
في السنة الخامسة أخبرنا من حولنا بأننا سنقبل من يأتي للخطبة وبالفعل تمت في السنة السادسة لكنها اشترطت أن لايكون هناك أي شيء ولا حتى زيارات ولا اتصالات قبل عقد الزواج وحتى لاتنشغل عن دراستها
بالطبع انتظرنا تخرجها بفارغ الصبر ومعنا خطيبها حتى يتم الزواج لكنها كانت في حيرة بين أن تتم الزواج أو تأخذ فرصتها في العمل في السنوات الأولى وتستعد لتسجيل الماجستير وتذاكر له كما يجب فقالت كثيرا : أخذتموني من الدار الى النار أي من الكلية الى بيت الزوجية
يعني بينما كل البنات تعتبر الزواج مبكرا نعمة الا أن الطب بالذات يستكمل بعد التخرج بالدراسات العليا والعمل كثيرا في المستشفيات
عندما جئنا لنختار قسما للتخصص كانت هذه مشكلة كبيرة فهي كان هدفها من الطب أصلا والذي كانت هي وزميلاتها في الثانوية يتحدثن به هو ستر نساء المسلمين بالعمل كطبيبات أمراض نساء بديلا عن الأطباء الرجال
ولكن الحقيقة أن كل الطبيبات والأطباء حذروها من هذا القسم ومتاعبه وأنه لايناسب المرأة فيمكن طلبها في أي وقت في نهار او ليل بما يتعارض مع ظروف أسرتها
فحاولت أن تُرضي طموحها باختيار قسم نوعي دقيق كجراحة الأورام لكننا اكتشفنا أن التخصص يحتاج الى مستشفى تتدرب فيه أو بمعنى اصح تتعلم فيه هذا التخصص فإذا لم يكن في المحافظة هذه المستشفى كمستشفى جامعي أو معهد قومي مثلا فعليها أن تسافر اليه في بلد آخر
كما أننا عندما استشرنا من نعرف من أطباء الأورام فاجأونا بأن طبيب الأورام في مصر يأتي إليه المريض بعد تأخر طويل في اكتشاف المرض فقال لنا بعضهم: نحن نعمل مع مريض في آخر حياته وقلما نفرح كما يفرح زملاؤنا بالنجاح في شفاء مريض ومن العجيب أن هؤلاء الأطباء قالوا: إن هذا المعنى عند الطبيب مهم جدا كما قالوا: إن الطبيب والطبيبة بالذات تحتاج للعمل في قسم لايحمل بعد الذهاب الى بيته هم المريض فيبقى بين أسرته وعقله مشغول بمريض ينتظر خبر وفاته أو تدهور حالته
ومن الطريف اأنه عندما أسرَّ لي أحد معارفي الأطباء بذلك كانت هي في قسم الأورام سعيدة بهذا القسم لكن بالفعل وجدنا أنها منذ أن عملت فيه تأتي لزيارتنا ولكنها مشغولة وقد تتركنا فجأة لتعود للمستشفى أو تطلب من زوجها أن يذهب بها إلى هناك في منتصف الليل لإسعاف مريض ثم لما حاولنا أن نيسر التحاقها بمستشفي خارج المحافظة لم نجد جدولا للعمل ييسر لها التوفيق بين أسرتها وساعات عملها واشتراطهم المبيت لأكثر من ليلة
لأجل ذلك كانت أحيانا تلومنا على سرعة الزواج بينما نصر نحن كأسرة على ان التبكير بالزواج هو الأمثل لأنه مقصود الشرع أولا ولأن البنت لاتخطب هي بل تنتظر ولأننا اذا تكرر الرفض تراجع الخطاب وتوقف مجيئهم لطلب الخطبة إذ يسري بين من حولنا أنها ترفض
وللحديث بقية
ساحة النقاش