بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين ..
وبعد،،،
فإنَّ أوقاتِ الشدائدِ والمحنِ، العابرةِ في أعمارِ الأوطانِ، تَستخرجُ من أبنائِهِ البررةِ أشرفَ ما لديهم، وتُبرزُ معادِنَهُم الأصيلةَ، الممتلئةَ بحبِّ الوطنِ والحرصِ عليه، ونحنُ نجتمِعُ اليومَ بِرًّا بوطنِنَا الشامخِ العظيمِ، ومواساةً له في مُصابِهِ الأليمِ، إذْ يَعتصِرُ الأسَى قلوبَنَا على شُهداءِ الواجبِ الوطنيِّ الذين بذَلُوا أرواحَهُم فداءً للوطنِ، وما تَبِعَ ذلكَ من أحداثِ تخريبٍ وشغبٍ، وقَعتْ في رحابِ جامعةِ الأزهرِ الموقرةِ، وغيرِها من ربُوعِ الوطنِ، وندعُو اللهَ تعالَى أن يتقبلَ شهداءَ الوطنِ في عِلييِّنَ، وأن يُلهِمَ أهلَهم وذويهم الصبرَ والسكينةَ، وأن يَكُفَّ عنِ الوطنِ عقوقَ المُضَلِّلِينَ من أبنائِهِ، وأن يرُدَّهُم إلى الصوابِ ردًّا جميلاً.
الجمعَ الكريمَ..
أهلاً ومرحبًا بكم جميعًا في دارِ الإفتاءِ المصريةِ.
ونخصُّ السادةَ الإعلاميين بترحيبٍ خاصٍّ، فلطالما استقبلتكُم دارُ الإفتاءِ وشرُفَت بالتواصلِ معكم، إيمانًا منها بدوركِم الفعَّالِ واضْطِلاعِكم بتغطيةِ أنشطتِها، وانطلاقًا من رسالتِكم العظيمةِ التي تجعلُكم من أهمِّ الركائزِ الأساسيةِ في صناعةِ الصورةِ أمامَ الرأي العامِ.
ولعلَّ هذا هو لقائِي الأولُ بكم، بعد فترةٍ آثرتُ فيها البحثَ والدراسةَ والعملَ ، رغبةً منِّي في استكشافِ الأجواءِ، والتعرفِ على مزيدٍ منَ التفاصيلِ، يعاونُني فيها العاملونَ بدارِ الإفتاءِ من أجلِ وضعِ استراتيجيةٍ للعملِ مستقبلاً، نحاولُ فيها البناءَ وإكمالَ ما أنجزَهُ السابقونَ في هذا الصرحِ الشامخِ.
لكنَّ رحلةَ الاستكشافِ، واستراتيجيةَ العملِ المستقبليةَ لم تمنعنا من إحرازِ قدرٍ من الإنجازاتِ، يرجعُ السببُ فيها إلى آليةِ العملِ بالدارِ، يدعِّمُها جهدٌ دءوبٌ من العاملينَ، والذينَ يؤكدونَ أنه لا يُؤذنُ برحيلِ يومٍ إلاَّ ويحملُ معه الجديدَ من الإنجازات.
وقبل أن أبدأُ حديثِي أؤكدُ أن دارَ الإفتاءِ في منهجيتها جزءٌ أصيلٌ منَ المؤسسةِ الدينيةِ المصريةِ، والتي يقفُ الأزهرُ الشريفُ في أعلَى هرمِها، والدارُ تعتزُّ بانتمائِها لمنهجِ الأزهرِ الشريفِ الذي قُوامُه الوسطيةُ والاعتدالُ.
كما أن دارَ الإفتاءِ تثمنُ جهودَ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في الارتقاءِ بالأزهرِ الشريفِ، وبقائِه مقصدًا وملاذًا لكلِّ المسلمينَ حولَ العالمِ باعتبارِه منبرًا للوسطيةِ، وحاملاً لمشعلَ النورِ والعلمِ الديني لكلِّ ربوعِ الدنيا.
ومن بينِ الأمورِ التي وفَّقَنَا اللهُ لإتمامِها في هذا العامِ ما يأتي:
أولاً: أصدرنَا هذا العام حصيلةً كبيرةً من الفتاوى، قاربَ عددُها نصفَ مليون فتوى بتسعِ لغاتٍ مختلفةٍ، تنوَّعت جميعُها بين الفتاوى الشفويةِ والهاتفيةِ والموثَّقةِ وفتاوى الإنترنت؛ مما يعكسُ الدورَ الكبيرَ الذي تقومُ به دارُ الإفتاءِ من أجلِ القيامِ على شئونِ
المسلمينَ، وتحمُّلِ المسئوليةِ الملقاةِ على عاتقِها تجاه الأمةِ، مما يؤكد أيضًا أنها تهتمُّ بكلِّ ما يهمُّ المسلمَ من أمورٍ في مناحِي حياتِه المختلفةِ.
ثانيًا: إيمانًا من دارِ الإفتاءِ بعدمِ الانعزالِ عنِ العالمِ، أوِ التغريدِ خارجَ السربِ، فقد حَرَصتِ الدارُ- وهذا دَأبُها- أن تضْطَلعَ بدورِها في التواصلِ معَ الآخرِ مستفيدةً بما جادَت به التكنولوجيا الحديثةُ من وسائل الاتصالاتِ المختلفةِ، وعليه فقد أنشأتْ موقعَ دارِ الإفتاءِ المصريةِ باللغةِ الإنجليزيةِ بعد تطويرِه تطويرًا يتماشَى مع معطياتِ العصرِ؛ حيث إنه يمثلُ نُقلةً نوعيةً في التعاملِ مع المنتجِ الإفتائِي، ليُسهِّلَ على مُستخدِمِي تلك الخدمةِ التعاملَ معها، وأيضًا لتوسيعِ رُقعةِ تأثيرِ الدارِ، والقيامِ بدورِها في الخارج ِكما توفِّيه حقَّهُ بالداخلِ.
ثالثا: حَرَصتْ دارُ الإفتاءِ على تزويدِ القارِئ بإصداراتِها، والتي يجدُ فيها جوابًا لكلِّ ما يَشْغَلُه من أمورِ حياتِه، ومن بين هذه الإصداراتِ موسوعةُ الفتاوي المؤصَّلةُ في خمسةِ مجلداتٍ، وكتابُ "سُؤالاتُ الأقليات" حول "فقهِ الأقليات"، والأحكامُ الفقهيةُ المتعلقةُ بالمسلمِ الذي يعيشُ خارجَ بلادِ الإسلامِ.
كما أصدرْنا أيضًا موسوعةَ "دليل الأسرة في الإسلام" التي تُعدُّ مرجعًا لكلِّ أسرةٍ تريدُ تَجنُّبَ المشكلاتِ الأسريةَ وحلَّها.
هذا بجانبِ كتابِ "فتاوى المرأة" الذي يضمُّ مجموعةً متميزةً من الفتاوى المتعلقة بالمرأة، وكتابِ "أحكامِ المسافرِ".
ولقد انتهينا أيضًا- بفضلِ اللهِ- من موسوعةِ العلومِ الإسلاميةِ باللغةِ الإنجليزيةِ، بُغيةَ التعريفِ بالعلومِ الشرعيةِ وَفقَ المنهجِ الأزهريِّ الرصينِ، وتلبيةً لاحتياجاتِ قطاعاتٍ كبيرةٍ منَ المسلمينَ الناطقينَ بغيرِ العربيةِ فى أوروبا وأمريكا وشرقِ آسيا.
رابعًا: لم يقتصرْ عملُ دارِ الإفتاءِ على الداخلِ فحسب؛ بل سعتْ إلى تصحيحِ صورةِ الإسلامِ بالخارجِ، وإزالةِ ما لُصِقَ به منَ اتهاماتٍ بالتشدُّدِ والمغالاةِ، وذلكَ من خلالِ مُخطابةِ الغربِ عبرَ وسائلِ إعلامِهِ المختلفةِ، والنشرِ في كبرياتِ الصحفِ العالميةِ لمجموعةِ مقالاتٍ باللغةِ الإنجليزيةِ، راعَيْنَا فيها توصيلَ رسالةٍ إلى الغربِ مُفَادُها: أن الإسلامَ دينُ السلامِ، وتعاليمَهُ السَّمْحَةَ تنبذُ كلَّ أشكالِ العنفِ والتشددِ والمغالاةِ، فالإسلامُ كمنهجِ حياةٍ يُساهمُ بفاعليةٍ في التعاطِي مع القضايا الكبرى التي تشغل ُ الأذهانَ في العالمِ كلِّه.
وبجانب ما تمَّ إنجازُه في العامِ المُنصرمِ فإننا نَأْمُلُ في العامِ الجديدِ- إن شاء اللهُ تعالى- أن يتحققَ لبلدنا الأمنُ والأمانُ والاستقرارُ، فَأولاً: نؤكدُ أيضًا حِرْصَ الدارِ في العامِ الجديدِ على تحقيقِ المزيدِ من التقدمِ والتطويرِ بما يعودُ على المسلمينَ بالخيرِ، وأَهَمُّ ما نحرصُ على إنجازِهِ في مُقْبِلِ الأيامِ هو مشروعٌ يساهمُ في التأكيدِ على مكانةِ الأزهرِ الشريفِ باعتبارِهِ مرجعيةَ الأمةِ، ومِن ثَمَّ إعلاءُ مكانةِ مصرَ عالميًّا باعتبارِها حاضنةَ الأزهرِ ومَوئِلِ العلماءِ.
وهذا المشروعُ هو إنشاءُ "أمانةٍ عامةٍ دائمةٍ للمؤتمراتِ في دارِ الإفتاءِ المصريةِ"، تتولَّى عقدَ مؤتمرٍ سنويٍّ عالميٍّ تُنَاقَشُ فيه مُستجدَّاتِ الأمورِ على كافةِ المستوياتِ، مستخدمةً في ذلك خبراتِها المتراكمةَ وكوادرَها المدربةَ، وقدراتِها التنظيميةَ المعروفةَ.
وقد بدأنا بحمدِ اللهِ في مناقشةِ مجموعةٍ من الأفكارِ لأولِ مؤتمرٍ سنفتتحُ به عملَ تلك الأمانةِ، وهو مؤتمرٌ عالميٌّ بعنوانِ: "الفتوى .. إشكالاتُ الواقعِ وآفاقُ المستقبل"، وقد وقعَ اختيارُنا على تلك الفكرةِ لكونها قضيةَ الساعةِ، وذلك لتداخُلِ الفتوى مع كافةِ مَنَاشِطِ الحياةِ الإنسانيةِ، وما يستتبعُ ذلك من وجوبِ تنظيمِها ومحاولةِ وضعِ الحلولِ لإشكالاتِها، وكذلكَ وضعُ أطرٍ مستقبليةٍ لتحقيقِ أقصى استفادةٍ من منجزاتِ العلمِ الحديثِ في عمليةِ الإفتاءِ.
وسنحاولُ في هذا المؤتمرِ أيضًا استضافةَ أكبرِ عددٍ من علماءِ الأمةِ ومفتِيها في الداخلِ والخارجِ، لمناقشةِ قضايا فقهيةٍ تؤسِّسُ لحالةٍ تجديديةٍ في مستويات الفقهِ السياسيِّ وفقهِ الأقلياتِ وفقهِ المرأةِ وغيرِها من القضايا التي تمسُّ واقعَ الأمةِ.
ثانيًا: منَ الأمورِ التي نحرصُ- إن شاء الله- على تحقيقِها في المستقبلِ إصدارُ "تقرير نبض الفتاوى"؛ وهو مشروعٌ نَأْمُلُ من خلالِهِ أن تكونَ دارُ الإفتاءِ العينَ المراقبةَ والفاحصةَ لكلِّ ما يتم تصديرُه للمجتمعِ من جهدٍ إفتائيٍّ عبرَ وسائطَ كثيرةٍ، من بينها الفضائياتُ ومواقعُ الفتوى والإذاعةُ ورسائلُ المحمولِ وغيرُها ثُمَّ التعليقُ على هذا الجهدِ إيجابًا أو سلبًا..
ونحنُ على ثقةٍ من أن صدورَ هذا التقريرِ من جانبِ الدارِ، يُعدُّ وقفةً مهمةً، بوصفها هيئةً علميةً تحملُ عبقَ الأزهرِ ورصانَتَه، وسيُوجِدُ حالةً منَ الحَرَاكِ الفقهيِّ والثقافيِّ بينَ الأطيافِ المتعددةِ، ونحنُ من جانبنا سنرْعَى هذا الحَرَاكَ ونوجِّهُ دفَّتَه لما يفيدُ الوطنَ في النهايةِ، ويصُبُّ في صالح ِالفتوى بوصفِها عملاً مهنيًّا احترافيًّا لا يجوزُ لغيرِ المؤهلينَ ادِّعاءَ القدرةِ عليه فضلاً عن ممارستِهِ.
إنني شخصيًّا أعوِّل على هذا التقريرِ كثيرًا، وأومنُ أن من صميمِ عملِ دار ِالإفتاءِ أن تُراقبَ العاملين في تلك المهنةِ وتوجِّهَهَم، وأن تكونَ في كلِّ الأوقاتِ حارسًا أمينًا على عقولِ جماهيرِ الأمةِ خشيةَ أن يُصَبَّ فيها بعضُ ما لا يمكن اعتبارُه فتوى من الأساسِ.
ومنَ المؤشراتِ المبدئيةِ لنبضِ الفتاوَى في الفترةِ الماضيةِ هُو ملاحظةُ الانتشارِ السريعِ والمَرَضِي لفتاوَى التكْفيرِ التي تُشكِّلُ الأساسَ الفكريَّ والنظريَّ لعملياتِ الإرهابِ والقتلِ وإراقةِ الدماءِ.
وانطلاقًا منَ المسئوليةِ المُلقاةِ علَى دارِ الإفتاءِ المصريةِ في بيانِ الأحكامِ الشرعيةِ؛ فقدْ قررنَا إطلاقَ مبادرةٍ عاجلةٍ لتفكِيكِ فكرِ التكفيرِ والرَّدِّ علَى مُنطلقاتِهِ، وتحذيرِ المجتمعِ منَ الانجرافِ إلى نفقِهِ المظلمِ وذلكَ من خلالِ إجراءاتٍ:
أولُها: إنشاءُ مرصدٍ بالدارِ يرصدُ ويتتبعُ مقولاتِ التكفيرِ على مدار الساعة في جميعِ وسائطِ التواصلِ المقروءةِ والمسموعةِ والمرئيةِ وعلى شبكةِ الإنترنت ومواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ إيمانًا منَّا بأنه من خلالِ امتلاكِ منظومةٍ متكاملةٍ للرصدِ والمتابعةِ؛ نستطيعُ أن نتواصلَ ونتفاعلَ ونتعاطَى معَ الحدثِ بشكلٍ أفضلَ وأسرعَ وأكثرَ إيجابيةٍ، وقدْ بدأتُ بالفعلِ باتخاذِ خطواتٍ تنفيذيَّةٍ تجاه هذَا الأمرَ
ثانيها: كتابة مقال أسبُوعي أُناقِشُ فيه دعاوَى التكفيرِ وأفنِّدُ حُججَهُ؛ تلبيةً منِّي لنداءِ الواجبِ الذي يتعطَّشُ له المجتمعُ المصريُّ فِي هذِهِ الفترةِ الفارقةِ من تاريخِهِ.
ثالثها: قيام أمناءِ الفتوى بدارِ الإفتاءِ بعدَ دراسةٍ وافيةٍ لمنتجاتِ المرصدِ بإعدادِ ردودٍ، تَصدرُ بصورةٍ منتظمةٍ، تشتَملُ على المناقشةِ العلميةِ الرَّصِينةِ العميقةِ لأوهامِ التكفيرِ، وتفكِّكُ دعاوَاهُ، وتحصِّنُ الناسَ منه.
رابعها: توصيلُ منتجاتِ هذهِ المبادراتِ إلى وَزَارةِ الأوقافِ- التي نعتزُّ بالتنسيقِ معهَا تثمن جهودِها المشكورةِ- ووَزَارةِ التربيةِ والتعليمِ، والمنابرِ الإعلاميةِ، والمراكزِ البحثيةِ؛ لضمانِ تعظيمِ الاستفادةِ منها، وتحصينِ كافَّةِ شرائحِ المجتمعِ.
وأخيرًا فَإني أدرُسُ تحويلَ ذلكَ كلِّهِ إلى دوراتٍ تدريبيةٍ تهدُفُ إلى إعادةِ تأهيلِ الشبابِ الذي وقعَ في براثنِ التكفيرِ بُغْيةَ استيعابِهم والقيامِ بواجبِ تبصيرِهم.
ومنَ الأمورِ التي نحرصُ- إن شاء الله- أيضًا على تحقيقِها في المستقبلِ:
- الإعلانُ عن مشروعاتٍ تدريبيةٍ طموحةٍ لنشرِ ثقافةِ الاستفتاءِ الصحيحةِ بين طالبِي الفتوى في مصرَ والعالمِ، وهذا مشروعٌ له أهميتُه في ظلِّ الاتساعِ الأفقيِّ للمؤسسةِ الأزهريةِ، وثقةِ الناسِ المتزايدةِ في العَالِمِ الأزهريِّ.
سنحاولُ أن يشملَ هذا التدريبُ مناحِيَ متعددةً، من تخصصٍ فقهيٍّ، ومن علومٍ اجتماعيةٍ، ومن فقهِ الواقعٍ، ومن تعاملٍ مع التكنولوجيا الحديثةِ.
تسعَى الدارُ أيضًا لإنشاءِ قسمٍ خاصٍّ للفتاوَى باللغاتِ الإفريقيةِ، وعليه فإنه جارٍ العملُ على توقيعِ بروتوكولِ تعاونٍ بيننا وبينَ جامعةِ الأزهرِ الشريفِ عبر كليةِ اللغاتِ والترجمةِ، حيثُ نقومُ بنقلِ أهمِّ القضايا التِي تشغلُ المسلمينَ هناكَ، وترجمتِها إلى العربيةِ لكي يتسنَّى لنا الردُّ عليها ومن ثَمَّ إعادةُ ترجمتِها إلى اللغاتِ مرةً أخرى ليعمَّ نفعُها المسلمينَ في القارةِ الإفريقيةِ.
كما أنَّني وقبلَ أن أخْتِمَ كلامِي أرجو أن أبعثَ بمجموعةٍ من الرسائلِ، آملُ أن تكونَ لبنةً في بناءِ جدارٍ يدفَعُ عن وطنِنا أيَّ سوءٍ، ويحميه من الفرقةِ، لكن.. قبل ذلك أؤكدُ على أن دارَ الإفتاءِ ليستْ طرفًا في أيِّ معادلةٍ سياسيةٍ؛ لأن وظيفَتَها بيانُ الحكمِ الشرعيِّ فيما تُسألُ فيه، أو يظهرُ على الساحةِ من قضايا تهمُّ المصريين دونَ تحيزٍ إلاَّ لمصلحةِ مصرَ والمصريين، وهي تقومُ بهذَا الواجبِ ليلَ نهار، ولن نَسْأَمَ من القيامِ بهذه المهمةِ؛ وهذه الرسائلُ هي:
أولاً: نؤكدُ أن دماءَ المصريينَ بلا استثناءٍ حرامٌ، ولا بد من إدانةِ كلِّ عملٍ يدفعُ أهلَنا للاقتتالِ بالقولِ أو التبريرِ أو بالفعلِ، ولا بد من حقنِ دماءِ المصريين، والوصولِ إلى صيغةٍ للتعايشِ السلميِّ؛ فالإسلامُ وكلُّ الأديانِ جاءت لحقنِ الدماءِ.. وجعلت من يقتلُ
نفسًا بغيرِ حقٍّ كأنما قتلَ الناسَ جميعًا.. وجاءت بفلسفةِ "الإحياءِ"..{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
كما أننا ندعمُ كلَّ ما منْ شأنِهِ حقنَ دماءِ المصريينَ والحفاظَ على سلميةِ الدولةِ والمجتمعِ والنسيجِ الوطنيِّ من مخاطرِ الانشقاقِ، وندعمُ كلَّ ما يردعُ الإرهابَ بكافةِ أشكالِهِ وألوانِهِ، ويحقق السلمَ والأمنَ الاجتماعيَّ، ونؤكدُ أنَّ الإرهابَ والشغبَ لنْ يَنتصِرَا على مصرَ؛ لأنها محفوظةٌ بحفظِ اللهِ الجميلِ.
ثانيًا: تتوجَّهُ دارُ الإفتاءِ المصريةِ إلى الشعبِ المصريِّ العظيمِ بكلِّ شرائِحِه وأطيافِهِ وأبنائِهِ البررةِ، أن يلبُّوا نداءَ الوطنِ، بالخروجِ والمشاركةِ في الاستفتاءِ المقبلِ على دستورِ مصرَ، لتنطلقَ مسيرةُ الوطنِ، وليَعْبُرَ إلى برِّ الأمانِ، وأدعُو المصريينَ جميعًا إلى عدمِ الالتفاتِ إلى محاولاتِ تشويهِ الدستورِ وادعاءِ كونِه مُصادِمًا للشريعةِ، إذْ لاَ أساسَ لكلِّ تلكَ الحملاتِ والدعاوَى، لأنَّ هذَا الدستورَ نَبَعَ منْ وفاقٍ وطنيٍّ انتهَى إليه مُمثلِو كافَّةِ شرائحَ المجتمعِ، وبمشاركةِ وفدِ الأزهرِ الشريفِ، الذي يقفُ حارسًا أمينًا على ثوابتِ الدينِ، وهويةِ الوطنِ.
ثالثًا: علينا أن نُدركَ أن المشروعَ الحضاريَّ الإسلاميَّ أكبرُ من أيِّ حكمٍ أو مالٍ أو وزارةٍ يتبادلُهَا القومُ، فالمشروعُ الحضاريُّ الإسلاميُّ يسعَ المسلمَ وغيرَ المسلمِ، ويسعَ كافةَ الأطيافِ والتياراتِ والاتجاهاتِ؛ لأنه يُصدِّرُ القيمَ الحضاريةَ الرائدةَ، ولأنه ينهضُ على أكتافِ المؤسساتِ العلميةِ الكبرى، وعلى رأسِها الأزهرُ الشريفُ، وما يدورُ في فلكِهِ ويجري على منهجِهِ في مدارسِ العلمِ العريقةِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.
رابعًا: يجبُ أن يعلمَ الجميعُ أن الدولةَ أبقَى منَ الأطيافِ والجماعاتِ والتنظيماتِ، والإسلامُ باقٍ والأوطانُ باقيةٌ حتى لو زالَ منصبٌ أو حزبٌ، ويخبرنا التاريخُ أن هناكَ من القضايا التي يعتقدُ البعضُ أنها عادلةٌ قد يحوِّلها العنفُ إلى قضايا خاسرةٍ قطعًا، أما الوسائلُ السلميةُ التي تأخذُ في اعتبارِها الحفاظَ على كيانِ الدولةِ، والتي لا يُتركُ زمامُها للمهيجين.. وإنما يقودُها الحكماءُ الذين لا يستفزُّ عقولَهم ضياعُ منصبٍ، ولا يستخفُّ أحْلامهم زوالُ سلطانٌ.. ويحسنونَ اختيارَ أقل المفسدتين، إن لم يكن هناكَ سبيلٌ لدرئِهما معًا- فهذا أمرٌ يكفُله الدستورُ والقانونُ ولا خلافَ عليه.
كما أننا نقفُ وبشدةٍ ضدَّ كلِّ ما يهددُ مؤسساتِ الدولةِ وكيانها ويحاولُ تقسيمَها أو النَّيلَ منها، أو التشكيكِ فيها، فالبناءُ لا يُجدِي مع الانقسامِ والتشويهِ، فمؤسساتُ الدولةِ المختلفةِ من أزهرٍ وجيشٍ وشرطةٍ وقضاءٍ وإعلامٍ ومؤسساتٍ بيروقراطيةٍ وغيرِها هي الحاميةُ والضامنةُ لأمنِ هذا المجتمعِ وسلامتِه وتحقيقِ رغباتِه وتطلعاتِه، وأيُّ محاولةٍ لهدمِ تلك المؤسساتِ هي تهديدٌ للدولةِ المصريةِ، ومحاولةٌ لإفشالِ نموذَجِها الفريدِ، ومن ثَمَّ، كان لزامًا علينا كمصريين أن ننطلقَ في حوارِنا من توافقنا على أهميةِ الحفاظِ على مؤسساتِ الدولةِ وكيانِها، وعدمِ السماحِ- تحت أيِّ ظرفٍ- من النيْلِ منها أو التشكيكِ فيها.
وختامًا أدعو اللهَ العليَّ القديرَ أن يحفظَ مصرَ من كلِّ سوءٍ.
وباركَ اللهُ في جُهدوكِم المشكورةِ وجعلها في موازين حسناتكم، وحفظَ اللهُ الأزهرَ الشريفَ، وحفظ اللهُ مصرَ بحفظِهِ الجميلِ.. ومرةً أخرَى أهلاً ومرحبًا بكم في دارِ الإفتاءِ المصريةِ.
والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه
ساحة النقاش