موقع الخبيرالدكتور / حمادة صلاح صالح صاحب بيت الخبرة الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييمالمعتمد للتقييم بالبنك المركزي

موقع متميز لفرادة التخصص فى التقييم وكافة الخدمات اﻻستشارية للبنوك والشركات والبيع بالمزاد العلنى

 

 

<!-- MSCellType="ContentHead" --> <!-- MSCellFormattingTableID="1" -->
<!-- MSCellFormattingType="header" -->  
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

لغة الصورة 

<!-- MSCellFormattingType="footer" -->  
 

أ.د. عبد الرحيم الكردي

مفهوم الصورة

    يرتبط مفهوم الصورة في العرف العام  بالإدراك البصري لهياكل الأشياء ، فالذي يتبادر إلى الذهن عندما ننطق بكلمة "صورة" إنما هوالهيكل الخارجي المادي  الظاهر ، كالشكل واللون والحجم ،فيقال مثلا هذه صورة شجرة إذا أردنا منظرا مكونا من ساق وفروع وأغصان وأوراق لونها أخضر ، وهذه صورة إنسان إذا لمحنا منظرا لكائن له رأس ورقبة وصدر وذراعان ورجلان  ،واستقر هذا المفهوم عن الصورة حتى غدا أشبه بالمسلمة التي لا يحتاج إثباتها إلى برهان ، حتى بدا من البدهي أن يقال: لا يعقل أن تكون  هناك  صورة غير مدركة إدراكا بصريا ، حتى لو رسمت بواسطة عناصر أخرى غير مرئية بالعين المجردة ،مثل الصورة الذهنية التي ترتسم في المخيلة نتيجة للتأمل أوتلك التي تتصور نتيجة  لسماع  الأصوات المنبعثة من حفل  أو التي تحدث عند انبعاث الروائح أو لمس المجسمات ، إذ يظل الإدراك البصري هو الأساس لكل صورة .

لكن ارتباط مصطلح "الصورة" بمصطلح "الإدراك البصري" يثير عددا من الأسئلة ، بل عددا من المشكلات ، من قبيل السؤال عن موطن الصورة وعلاقتها بالشيء المصور، هل صورة الشيء جزء منه ؟وبالتالي يمكن دراستها باعتبارها مكونا ماديا من مكوناته؟ أم أنها ناشئة في مخيلة المتلقي فقط؟وماذا لو رسم فنان أو شاعر صورة لهذا الشيء؟ ففي هذه الحالة أين توجد الصورة هل في الواقع المادي ؟ أم في الخطوط الخطوط والألوان الموجودة في اللوحة أم أن هذه الخطوط والألون مجرد مثيرات لانبعاث الصورة في مخيلة المتلقي؟ .

قد يقال إن السيميائيين (أي علماء الدلالة) قد أثاروا هذه القضية منذ زمن ليس بالقريب ،عندما تحدثوا عن الدال والمدلول والمرجع،وأن ما سوف يقال بعدهم لا يعدو كونه معادا من قولهم ، لكن الأمر ههنا أكثر تعقيدا ،فكلمة ( شجرة) هي الدال عند السيميائيين ، ومفهوم الشجرة في ذهن المتلقي هو المدلول ، أما الشجرة الحقيقية الموجودة في الطبيعة فهي المرجع ، وينطبق هذا عندهم على كل كلمة وكل جملة .

وهذا أمر جيد لكن المشكلة تتعقد عندما لا يكون الدال مجرد كلمة ، بل يكون صورة مذبذبة بين ماهو مرسوم في اللوحة وما ينطبع في مخيلة من ينظر إليها ، ويزداد الأمر تعقيدا عندما لا يكون المرجع شيئا ماديا كالشجرة مثلا بل يكون أيضا صورة مذبذبة بين الواقع والمتخيل،عندئذ يتحول ما أطلق عليه السيميائيون مصطلح(المدلول) إلى ( دال) ومن ثم أصبحت العلاقة بين الدال والمدلول علاقة نسبية متذبذبة تفتح المجال لعدد لا يحصى من التخيلات والدلالات ، وهذا هو سر الجمال في الفن .

 فإذا ما رسمت الصورة بوسيلة أخرى غير الألوان والخطوط بل عن طريق نظام سيميائي آخر ربما يكون أكثر تعقيدا مثل اللغة فإن الأمر يزداد غموضا وتشعبا ،عندئذ تتداخل الأنظمة وتتراسل إشاراتها ويصبح هناك طبقات متعددة من الدوال التي تقذف بدلالاتها في كل اتجاه .

كل هذه الأسئلة فجرها ارتباط مفهوم الصورة بالإدراك البصري .

تاريخ المفهوم.    

أولا : في الفكر اليونابي .

نشأ مفهوم الصورة أولا  في الفكر اليوناني من الاعتقاد الذي كان سائدا بأن المادة الأولية التي خلقت منها كل الأشياء في العالم - سواء أكانت بشرا أم حيوانا أم جمادا - إنما هي واحدة في جوهرها ( أفصد الهيولى أو الجزء الذي لا يتجزأ ) وأن اختلاف أشكال الصور فقط هو الذي يفرق بين كائن وآخر، أو بين شخص وشخص آخر

ثانيا : في التراث العربي.

وقد انتقل هذا المفهوم اليوناني للصورة إلى الثقافة العربية  في صورتين أوعلي مرحلتين :

المرحلة الأولى :عندما حاول الجاحظ تطبيق هذه الفكرة في مجال االأدب والفن ،فقد رأى أن التفاوت بين المصنوعات الفنية لا يعود إلى اختلاف المواد الأولية التي تصنع منها ، بل إلى الصورة التي تتشكل بها ، فقيمة الخاتم الجميل عنده لا تنبع من نفاسة المادة التي صنع منها ،سواء أكان من الحديد أم من الذهب ( لأن غلو ثمن الذهب ورخص الحديد شيء آخر لا علاقة له بالجمال أو القيمة الفنية ) بل تنبع القيمة الحقيقية للخاتم من براعة النقش وحسن التصوير، فقد يكون هناك خاتم بألف وخاتم آخر بدرهم وهما مصنوعان من مادة واحدة .ولهذا فإن الجاحظ يرى أن الصورة هي جوهر الشعر، سواء أكانت صورة تخييلية أم صورة أسلوبية ، فالشعر الحقيقي عنده "ضرب من النسج وجنس من التصوير".

المرحلة الثانية : جاءت على يدي قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر ، عندما حاول تطبيق الفكر النقدي اليوناني على الشعر العربي بصورة صريحة،إذ ذهب إلى أن الشعر صناعة مثل سائر الصناعات ، أي أنه مثل النجارة والحدادة وغيرهما إلا أن مادته التي يصنع منها هي المعاني،فإذا كانت مادة النجارة هي الخشب ومادة الحدادة الحديد ، فإن المادة التي يصنع منها الشاعرقصائده هي المعاني ، يقول قدامة : " المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة" ولما الشاعر ككل صانع يرغب في تجويد صناعته ويحاول أن يصل بها إلى غاية الكمال فإن جهده هذا يتوجه إلى تجويد الصورة ، ومن الجدير بالذكر أن مصطلح "المعنى" الذي أشار إليه قدامة واستخدمه كل من ابن جني وعبد القاهر الجرجاني من بعده لا يقصد منه الدلالات العقلانية المجردة ، بل يقصد ما كان الجاحظ يطلق عليه مصطلح اللفظ ،أي التشكيلات الحسية التي تجسم الدلالات ، وقد تطور مفهوم المعنى بعد قدامة حتى غدا عند ابن جني والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم مرادفا لمفهوم الصورة .

وقد أثار مفهوم الصورة على هذا النحو جدلا واسعا في الثقافة العربية القديمة في القرنين الرابع والخامس الهجريين بل كان سببا في مشكلات كثيرة هي :

أن علماء الإعجاز حاولوا استخدام هذه الأفكار والمفاهيم الوافدة من الفكر اليوناني في شرح أسرارالإعجاز القرآني فجمعوا بين المفهوم الإغريقي للصورة الذي استقر في البيئة العربية على يدي الفارابي وابن سينا باسم " التخييل " وبين مفهوم الاستعارة الذي تطور عن قضية المجاز التي بدأ الحديث عنها منذ القرن الثاني للهجرة ،وحاولوا التوفيق بينهما ثم تطبيقهما على القرآن الكريم وعلى الشعر، مما أوقع الباقلاني في مزالق الموازنة بين القرآن والشعر ، وأوقع عبد القاهر عبد القاهر في حيرة بين الاعتراف بالتصوير الخيالي في القرآن الكريم وبين إنكاره ،بالإضافة إلى ذلك فإن نشوء علم البلاغة ثم ازدهاره في الثقافة العربية على أيدي علماء الكلام جعل بعض المفاهيم الكلامية تتسرب إلى مفهوم الصورة وتتلبس بها ، وذلك مثل مفهوم "الكلام النفسي" الذي نشأ مع الجدل حول قضية خلق القرآن المشهورة  ، ثم أصبح مرادفا لمفهوم المعنى (أي الصورة) عند عبد القاهروأمثاله من الأشاعرة ،كما أن انشغال عبد القاهر بالنحو جعله يفهم المعنى/الصورة في إطار فهمه لمعاني النحو،ومن ثم لم تعد الصورة قاصرة على التخييل بل أصبحت تعني تخطيط المعاني الموجودة في الذهن والمعدة للتعبير عنها بالألفاظ المناسبة لها، وهكذا أصبح مفهوم الصورة مزيجا من المجاز والتخييل والمعنى النفسي والمعاني النحوية ، كل هذا المزيج أطلق عليه عبد القاهر مصطلح المعنى .

لكن من الملاحظ أن المفهوم العربي التقليدي للصورة - سواء المتأثر بالثقافة اليونانية أوالمتأثربعلم الكلام وبالنحو – لم يعالج إلا الصورة الأدبية المبدعة عن طريق اللغة،كما أنه لم يتجاوز الوظيفة الآدائية التوصيلية للصورة ، فقد نظر إليها في كل الأحوال على أنها أداة أو وسيلة  لتوصيل المعنى، ولم يتطرق إليها بوصفها لوحة فنية ، أو مخلوقا فنيا جميلا يشع بالإيحاء والجمال ، ولذلك استحوذ البحث عن معانيها  جل اهتمامهم  .

 

هل الصورة لغة؟

في العصر الحديث ازداد الاهتمام بالصورة ،حتى إن البعض يطلق على عصرنا هذا  " عصر الصورة" لأن وسائل الاتصال المعاصرة أتاحت من وسائل العرض ما جعل الصورة بديلا للكلام ، إن لم تكون بديلا للواقع نفسه ، وأصبح تشكيل الصور صناعة محكمة لتوجيه الرأي العام بحيث تجعله ينساق إلى تصديق أمور أو تكذيب أموردون روية أو فكر ،فيشتري سلعا بدون وعي ، ويضيع من ثرواته وأوقاته بدون وعي ، لقد أصبحت الصورة ساحرة العصر الحديث .

كل ذلك لأن الصورة لا تحمل المعاني فقط بل توحي بالمشاعر والعواطف أو تصنعها ، فهناك صورة توحي بالفخامة والجلال وأخرى توحي بالفقر وسوء الحال ، هذا الإيحاء المنبعث من الصور يمكن أن يسمى – مجازا- لغة ، مثلما نقول مثلا : لغة العيون ، ولغة القلوب ،والمقصود أن هذا التركيب البصري قد يؤدي الوظيفة التي تؤديها اللغة ، وهي التوصيل والتواصل ، بل إن الصورة قد تؤدي هذه الوظيفة بشكل أعمق وأجود وأجمل من كثير من التعبيرات اللغوية.

أنواع الصور.

لكن الحديث عن الصور على إطلاقه أمر مبهم وشائك ومضلل ،وتدخل فيه أخلاط  يضر بعضها ببعض، وذلك بسبب الاستخدامات المتعددة للصورة ، فالصورة قد تستخدم للدعاية والإعلان وهو الاستخدام السائد في العصر الحديث ،بسبب الإمكانات الهائلة التي وفرتها الاختراعات الحديثة في وسائل الإعلام وأدوات العرض السينمائي والتلفزيوني والإلكتروني، وقد تستخدم الصورة باعتبارها رمزا ، أو أيقونة، مثلما هو الحال في لغات البرمجة  ، وقد تستخدم الصورة استخداما فنيا في مجال الفن والأدب .

 لكننا في هذه المقالة سوف نقتصر على الاستخدام الأخير أي الاستخدام الفني والأدبي ، لأنه الأقرب إلى مجالنا ، ولأن سائر الاستخدامات يسهل إدراك القوانين التي تحكم بناءها وتحدد دلالتها ، فهي أقرب للصناعة منها إلى الإبداع ،وأصبح لها الآن تقنيات متطورة ، أما الصورة الفنية  فهي بحر لم تدرك شطآنه ، ولم تحدد معالمه ، فهي تدرك ولا تعلم، تستعصي على على القوانين وتتمرد على القوالب ، فهي مثل الإنسان لا يتيسر تعريفه ، قد يكون ذلك ميزة فيها وفي الإنسان وقد يكون عيبا ، لكن هذه سمتهما وسمته .

وظائف الصورة الفنية ؟

أيا كان الأمر فإن الصورة مهما كان نوعها ومهما كانت استخداماتها فإنها تتميز بميزة تفوق بها نظائرها من أدوات التعبيرالأخرى ، ألا وهي التأثير، قد تتفاوت الصور في درجة تأثيرها لكنها لا تخلو منها أو من ظلالها ، فكل صورة مؤثرة سواء أكانت صورة فنية مرسومة في لوحة أم كانت صورة في قصيدة أم كانت صورة في إعلان تلفزيوني ، وهذا التأثير إذا اشتدت وطأته - لدى كل من المنشئ والمتلقي - فإنه يحبس صاحبه في قفص ذهبي من الإدراك الحسي المباشر، ويحول بينه وبين التأمل التجريدي العميق ، يجعله يفكر بالمحسوسات  .

فمما يحكى عن المعلم اليوناني الشهير (ديمقريطس) أنه فقأ عينيه حتى لا يشغله النظر عن التأمل والتفكير ، ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان معها (قرم) أي ستارة فيها تصاوير فسترت به جانب بيتها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((أميطي عني، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي))  رواه البخاري. وعندما سئل الإمام البخاري عن علة النسيان قال :"إدمان النظر " أي إطالة النظر إلى صور العورات.

هذه الآثار تؤكد حقيقة التأثير القوي الذي تحدثه الأشكال البصرية التصويرية في النفس الإنسانية ، فهي عند عبورها حدقة العين تنطبع في الذاكرة وتهدد جميع مكونانتها الأخرى بالزوال أو الاضطراب .

فما هي تلك القوة الجبارة الكامنة في الصورة ؟وأين يكمن هذا السحر؟

بعض الأمم البدائية كانت تعتقد  أن في الصورة قوى خفية ،وأن صورة الشيء هي هو ، فقد كان الساحرفي الشعوب البدائية إذا أراد إيذاء شخص معين يرسم له صورة على الجلد أو على الورق ،ثم يقتطع ما يشاء من جسدها أو يأمرها بما يشاء ، اعتقادا منه أن ما يسري على الصورة يتحقق في جسم صاحبها وأن أي أذى يلحق بالصورة المرسومة لا بد أن يصيبه مثله .

ومثل ذلك  التمائم والتصاوير التي تعلق في رقاب الأطفال أو على واجهات البيوت  للحماية من الحسد أو لإبطال  السحر في البيئات البدائية.

بل إن بعض الديانات الهندية القديمة كانت تعتقد أن في الصور السردية - أي في لغة الحكي-  سحرا تخدمه قوى خفية تجذب السامع ، وتجعله يستسلم لإرادة السارد ، فإذا كان هناك ملك طاغية مثل دبشليم - في قصص كليلة ودمنة - لا يصغي لحكمة الحكماء ونصائح العقلاء أوكان هناك  زوج متجبر مثل شهريار في ألف ليلة وليلة ،سلطوا عليه هذه القوة الجبارة على لسان بيدبا أو شهرزاد  فما أن يسيل لسان الفيلسوف  الكبير  أو المرأة الساحرة بسرد الحكايات على لسان الحيوان أو عن الجن والعوالم الخفية حتى يخضع الطاغية ويلين ويسلس  قياده ويخضع لإرادة السارد  .

وكان العرب يعتقدون أن للشعراء شياطين ، ليس بسبب غرابة القول الشعري فقط بل بسبب التأثير القوي الذي يحدثه فيمن يستمع له، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذه القوة التأثيرية التي يحملها البيان سحرا فقال: " إن من البيان لسحرا" حتى الحكماء القدماء الذين تعرضوا لهذة الطاقة  لم يجدوا لها تفسيرا ماديا ، فقد رأى إفلاطون - مثلا - أنها إلهام  واكتفي ابن سينا بوصفها بأنها "تجعل النفس تنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور دون روية أو فكر ".

 

لكن هل الصورة لا تحمل سوى هذه الطاقة الجذابة ، هل هي مجرد نداهة ساحرة مضلة  لعوب مشغولة فقط بالغواية ؟أم أنها إلى جانب ذلك تحمل عناصر أخرى خيرة نافعة لها وظيفة في الحياة ؟

إن المتتبع لتاريخ استخدام الصور في الحياة الإنسانية يرى أن هناك وظيفتين أخريين تلتقيان بل تمتزجان بعنصر التأثير ، أولهما القدرة على التعبير ، وثانيهما الجمال ، وهكذا نرى أن الصورة الواحدة يمكن أن تجمع بين التأثير والتعبير والجمال ، وعندئذ تصبح الصورة لوحة فنية أو أثرا أدبيا رفيعا .

أحيانا يستخدم جانب التأثير وحده في الدعاية والإعلان والإثارة الجسدية، كما هو الشأن في الصور المبثوثة في وسائل الإعلام الآن ،وتكثر وتتنوع طرقه ،حتى يسود  ما يسمى بثقافة الصورة ،الثقافة السطحية التي لاتهتم بالتأمل العقلي المجرد وتهمل العناصر الحقيقية للثقافة الفلسفية العميقة .

وعلى الرغم من ذلك فإن التصوير الفني الذي يجمع بين التأثير والتعبير والجمال يمكن أن يعبر عن أدق المشاعر والحركات ويمكن أن يكون أداة لبث القيم السامية، وقد استخدمه القرآن الكريم لهذه الغايات النبيلة.

 منابع التعبير التصويري .

لا ينكر أحد أن الناس قد يتواصلون فيما بينهم  ويتناقلون أفكارهم بغير اللغة ، أي عن طريق وسائط أخرى غير لغوية ، مثل الإشارات والإيماءات وحركات الجسد، فالإشارة بالأصابع قد تعبر عن النصر، وقد تدل على العدد ، و الإشارة بالرأس قد تدل على الموافقة أو الرفض أو التحية ، وقد تدل مشية ما على التكبر ومشية أخرى على التواضع ومشية ثالثة على الخوف ورابعة على القوة وهكذا .وقد يتواصل الناس عن طريق الرسم أي رسم الصور الملونة بالأصباغ  أو النحت أي رسم الصور المجسمة  أو التصوير أي نقل الهيئات .

ولكل وسيط من هذه الوسائط غير اللغوية ميزاته وله أيضا عيوبه ، فمن ميزات لغة الإشارة  وحركات الجسد وأحوله  أنها لغة حميمة مشبعة بالعواطف والانفعالات وجدة الحضور ، وهي مصحوبة بعلامات حسية لها تأثير سحري فيمن يتلقى الإشارة ،لأنها تربط بين المرسل والمستقبل برباط عاطفي أو وجداني خفي ،يظهر ذلك إذا قارنا حالة التأثر التي يشعر بها  المستمعون لمتحدث غاضب يعبس ويحمار وجهه وترتعش أطرافه ملوحا بالتهديد والوعيد ،و حالتهم عندما لا تتاح لهم مشاهدته ، بل مجرد القراءة عنه، وكذلك الحال بالنسبة للخائف الرعديد والحزين الباكي والفرح  وغير ذلك ،فمرأى أم ثكلى تنوح على وليدها  أو طفل يبكي يبعث من المشاعر مالا تبعثه مئة قصيدة من شعر الرثاء أو العطف على الأطفال ، لكن المشكلة أن لغة الإشارة و لغة الجسد رغم ثرائهما الهائل  ظلتا منذ القدم محصورتين بطبيعتهما في حيز مكاني وزماني محدودين بحدود الحدث الحقيقي الذي وقعتا فيه ،أي أن العلامات الحية للأجساد الغاضب والخائف والحزين يصعب الاحتفاظ بها أو نقلها من مكان إلى آخر أو من جيل إلى جيل أو من زمان إلى آخر ،كما يصعب إعادتها   والتحكم في استخدامها باعتبارها وسيطا مستقلا عن الوسائط الأخرى ، كما تستخدم الخطوط والألوان وحركات الممثلين في المسرح واللغة في السرد والشعر ،من أجل ذلك استخدم الإنسان الصورة ، لتستغل هذه الإمكانات الهائلة الموجودة في لغة الجسد وحضور المشهد ، سجل ذلك بالألوان والخطوط في اللوحات الفنية مصحوبا بالمشاعر الذاتية للفنان ، وسجله في الشعر وفي القصص ، فلما جاء العصر الحديث محملا باكتشافاته المذهلة في نقل الصور الحية كما هي و تجسيدها بكل أبعادها  انفتحت  مغاليق هذا الكنز الهائل الزاخر بالطاقات التأثيرية الصارخة ، حتى باتت اللقطة الحية المبثوثة بواسطة شاشة التلفزيون أو الإنترنت ، بمثابة الثورة في مجال الدعاية والتأثير الموجه .

على أن الفنون التشكيلية والأدبية تمكنت من توظيف الدوال والمؤثرات الحركية التي يملكها هذا الوسيط البدائي الثري ،فلم تعد مجرد ناقل للمشاهد والأحداث بل انتقلت بها من كونها مجرد استجابات فطرية تلقائية قائمة على التعاطف الإنساني الخالص والمشاركة الوجدانية التي تدفع الإنسان إلى البكاء إذا رأى الناس حوله يبكون وإلى الضحك إذا ما رآهم يضحكون بل إلى النوم والتثاؤب إذا ما رآهم يتثاءبون ويتناومون ،انتقلت بها لتستخدمها بوصفها تقنية فنية مركبة يعبر بها الرسام عن أفكاره هو وعواطفه ورؤاه ، فعن طريق استخدام الألوان يقتنص الأشكال المعبرة عن  الفرح أو الحزن أو الغضب أو الحنين وغيرها  وتكوين لوحات فنية جميلة من مفرداتها ،ومن ثم يتجاوز بها الحدود المكانية و الزمانية ، أي أن الفنان استخدم العناصر الواقعية باعتبارها مجرد مفردات أو حروف.

وهكذا نجد لغة الصورة المرسومة في لوحة فنية تتميز على اللغة التلقائية لحركات الجسد بعدد من الخصائص هي :

1-  أنها تستعين بمفردات دلالية أخرى متناثرة في الحياة اليومية  ولها علاقة وطيدة بلغة الجسد وانفعالات النفس،وهي تشبهها في كونها بدائية أولية وبسيطة لكنها ليست فطرية مثلها بل اجتماعية ، أقصد الدلالات التي يمنحها المجتمع للأشياء ، ذلك أن كل شيء وكل حركة وكل أداة يستخدمها الناس أو يألفونها  في حياتهم في مجتمع من المجتمعات يمنحونها دلالة خاصة ، فيصبح لها في هذا المجتمع وظيفة دلالية لا تقل عن وظيفتها النفعية ،فصورة الثعلب في الثقافة العربية تحمل معنى المكر وصورة الأسد تحمل معنى الشجاعة ، وصورة غصن الزيتون تحمل معنى السلام ومثل ذلك جميع الأشياء حتى الألوان يحملها المجتمع دلالات خاصة ،فالبياض يحمل معنى النقاء والسواد يحمل معنى الحزن أو السوء والشر، واللون الأحمر يحمل معنى الدم  وهكذا ، كل ثقافة لها مفرداتها الدلالية ، وهناك مفردات أخرى إنسانية لا تختلف فيها بيئة ثقافية عن أخرى ، ،ولذلك فإننا نشعر بالانقباض عند مشاهدتنا للوحة السجناء لفان جوخ ، بسبب الدلالات التي استقرت في الوجدان الإنساني الجمعي للحوائط العالية للسجون ، وملابس السجناء ومناظرهم ،وربما تستخدم اللوحة أشكالا دلالية موحية  لا وجود لها في الحياة الواقعية بل هي فقط في أذهان الناس وخيالاتهم ومعتقداتهم الخرافية في الثقافة التي ينتمون إليها ،كما هو الشأن في اللوحات التي ترسم الحيوانات والطيور الخرافية كالرخ والعنقاء والغول بل قد يحاول الفنان الماهر أن يرسم نماذج يصنع لها هو إيحاءاتها دون الاعتماد المباشر على الدلالات [i]السيميائية للأشياء ، مثلما حاول بيكاسو في لوحته الشهيرة "آنسات فينوس" حيث عمد إلى رسم رأس  وجسد لم ير الناس مثلهما من قبل ، رأس فيه ثلاث عيون وجسد مخلع كأن أجزاءه مصنوعة من الطين المحروق في التماثيل البابلية القديمة.

2-  أنها وسيط مركب لأنها تستوعب اللغة  الإشارية للجسد وتستخدم وحداتها بوصفها مفردات لها ،ثم تستخدمها لهدف أكثر تعقيدا ، فاللوحة مثلا قد تصور في جانب من جوانبها  أما تحنو على وليدها ، أو تضاحكه أو تبكي لفقده  أو ما أشبه ذلك، هذا المشهد بأوضاعه الفطرية التلقائية تشع منه ألوان من الإيحاءات المؤثرة ،والتي تقترب في نوعها من رؤية أم حقيقية بهذه الأوضاع ، هذا المستوى يستخدمه الفنان باعتباره مادة لتشكيل مستوى آخر كلي يتناص معه ويجمع كل جزئيات اللوحة في بناء واحد له إيحاءاته ودلالاته المتراكبة ، ولذلك فإننا إذا تأملنا اللوحات التي رسمها فان جوخ للوجوه الإنسانية فإننا نشعر عند رؤيتنا لكل وجه بإحساس مختلف ، نظرا لأن الملامح التي تبدو في اللوحة مما ألفناه في الحياة وأدركنا دلالته ، فتصوير إنسان يستند برأسه على كفه  مع مع انفتاح عينيه مرتبط بمعنى الهموم والأفكار( انظر اللوحات في الهامش) [ii]،لكن أية هموم وأية أفكار ؟ [iii] ،هل هموم الرجال مثل هموم الصغار ؟ وهل هموم الأغنياء مثل هموم الفقراء؟وهل هموم العلماء مثل هموم الجهلاء[iv]

3-  أن الفنان بعدما ينتزع أشكال الأوضاع الفطرية للإشارات الجسدية وهي متلبسة بتاثيراتها  الانفعالية ، وبعدما ينتقل بها من عالم الواقع إلى عالم الخيال يمارس حريته في تشكيلها واللعب بها ، فقد يرسم الفنان شكلا يجمع بين رأس رجل وجسد أسد كما هو الحال في تمثال أبي الهول ،أو بين رأس امرأة وجسد سمكة كما في لوحة عروس البحر

4-  وأخيرا فإن الميزة الكبرى في اللوحة تكمن في أن الفنان صاغ كل هذه الأشكال والأشياء والألوان بكل إيحاءاتها الفطرية ودلالاتها الاجتماعية في شكل جميل متناغم مع  إيقاعات روحه ومشكّل بشكل تجربته الإنسانية الفريدة ، فالإشارات الجسدية الموحية والأوضاع الفطرية المؤثرة والأشياء الدالة بمثابة الأحجار التي أخذها فنان ماهر وصنع منها تمثالا جميلا ، وانظر معي إلى هذه اللوحة الرائعة التي جمع فيها الفنان جزئيات صغيرة مما يألفه الناس في الواقع وصنع منها منظرا متكاملا لسفينة تشرف على الغرق ، في وسط البحر ، فصنع من المأساة المؤلمة لوحة جميلة ، لا تعبر فقط عن حالة الغرق في البحر بل عن حالة الغرق الجماعي في كل الأحوال[v]. ففي هذه اللوحة( انظر اللوحة في الهامش) يلتقط بيكاسو الأشكال التي يكون عليها الناس عندما يصابون بالفزع ، فبعضهم يستغيث بصورة مفزعة ، وبعضهم سلبي يستسلم لقدره واضعا رأسه فوق كفه منتظرا حكم الأقدار فيه ، وبعضهم جبان يموت قبل أن تحل الكارثة ، وبعضهم يصاب بحالة من البلاهة ،هذه الأشكال يركب منها الفنان منظومة تشبه السيمفونية ،أو الإيقاع الموسيقي فبينما نرى على اليمين رجلا عاريا ملقى على ظهره ورأسه إلى أسفل ، يقابله على اليسار رجل عار أيضا ملقى على ظهره ورأسه إلى أعلى ، ولعلهما من الغرقى ،فإذا انتقلنا إلى الداخل قليلا وجدنا على اليمين رجلا يتطلع برأسه إلى أعلى محاولا النهوض ، وفي الوقت نفسه نجد على اليسار رجلا آخر يطأطئ رأسه إلى أسفل ،وهكذا نرى في الصورة مقابلة إيقاعية بين الرجال الأربعة (1:2) (2:1) .

وفي الوسط نجد رجلا ناهضا يولينا ظهره وهو يرفع يده اليمنى إلى أعلى ،يقابله في آخر اللوحة من الداخل رجل آخر ينهض أيضا ويولينا وجهه وهو يرفع يده اليمنى أيضا ، ثم نجد خمسة من الرجال يمثلون حلقة تشبه فقرات العمود الفقري في جسد له رأسان : الرجل المستغيث يلوح بقطعة بالية من الملابس وصاري السفينة ، كل هؤلاء الناس يتكدسون فوق قطعة صغيرة من بقايا السفينة تتلاعب بها الأمواج العاتية ، وكل ذلك العالم الذي رسمه يتجه إلى أسفل ، إلى القاع ،  يدل على ذلك أن السماء ضبابية قاتمة في أعلى اللوحة ويتفتح الضوء فيها رويدا كلما دنونا إلى أسفل .

هكذا نرى أن بيكاسو استقي مفرداته التي رسم بها اللوحة من الواقع ، أخذها بدلالاتها الإنسانية والاجتماعية ،شكل الصورة من معاني هذه المفردات ،  فانطراح الجسد البشري بالطريقة التي رسمها يوحي بالإعياء الشديد أو الغرق، ورفع اليد بهذا الشكل الذي صوره يوحي بالاستغاثة والفزع ، وكثرة العدد المحمل فوق قطعة صغيرة من الخشب بين الأمواج  يبعث الرعب في النفوس،واتجاه الحركة نحو النور أمر طبيعى ، أخذ بيكاسو كل هذه الجزئيات وصنع لها إطارا راقصا من مفردات الحياة أيضا ، فثنائية التماثل والاختلاف مما يألفه الإنسان لأن كل مظاهر حياته تعد ثنائيات ، المشي وتعاقب الليل والنهار و النوم واليقظة .. وهكذا .

ولذلك فإن ألف لقطة تلفزيونية لسفن غارقة لا يمكن أن تقوم مقام هذه اللوحة ، ليس لأنها تنقل الحالة بحذافيرها أو لأنها أكثر تأثيرا منها بل لأنها تتجاوز اللحظة الحاضرة وتخترق الوعي الإنساني لتعبر عن حالات غير متناهية من الغرق الإنساني بكل معانيه التي عرفها الإنسان والتي لم يعرفها ،إنها تحول المفردات الحدثية إلى أسطورة خالدة.

 إن كثيرا مما قلناه عن اللوحة الفنية وعلاقتها بالمنابع الأولى لأشكال اللغة الجسدية الفطرية وبالبعد الإنساني للفن يمكن أن ينطبق على الصور البصرية الأخرى ،تلك التي تتخذ مادتها أيضا من العناصر الأولية لحركات الجسد وأوضاع الأشياء المحسوسة ، مثل فن الرقص الذي يعتمد على توظيف الحركات الجسدية للراقص في رسم لوحة فنية متحركة معبرة وموحية ، ومثل فن الدراما الذي يعتمد على رسم لوحة درامية فنية من المادة الأولية نفسها التي نراها في الإشارات والإيماءات والإشارات الدالة ولكن بواسطة الممثلين وليس بالألوان، ومثل فن الموسيقا الذي يستخدم الأصوات الموجودة في الطبيعة في تشكيل لوحة زمانية جميلة تعبر عن صور مكانية متخيلة  .

الصورة الأدبية.

لكن هناك مستوى آخر أكثر تعقيدا من كل ما سبق ، وهو رسم الصورة بواسطة الكلمات أقصد الصورة الأدبية التي ننشدها في الشعر والصورة السردية التي نقرأها في الروايات والقصص القصيرة ، وفي الأساليب التصويرية الفنية ،والسبب في تعقيد هذا المستوى أن اللغة عالم آخر معقد ، أكثر تعقيدا من الأشكال البصرية الواضحة التي نراها في الطبيعة وفي أشكال البشر،أو تلك التي نراها مرسومة بالأصباغ على الورق أو القماش في اللوحة الفنية ، وأكثر تعقيدا من الحركات والأشكال التي نراها محكية في أجساد الراقصين والممثلين في فني الرقص والدراما ، فعلى الرغم من أن الأصوات التي هي  المادة الأولية للغة تعد أحد المظاهر الأولية للنشاط البشري ، أي أنها مجرد أفعال كأفعال المشي ،وتظهر فيها  أيضا إيحاءات وتأثيرات لا تقل عن تأثيرات الجسد ،مثل الإيحاءات  التي يتركها صوت الأنين المنبعث من إنسان مريض ، غير أن هذا الجانب - رغم وجوده والاستعانة به - إنما يستثمر بشكل واضح في الغناء ، لكن التعقيد الذي يكتنف الصورة الشعرية والصورة السردية أو التصويرية أن اللغة التي تعد مادة أولية لها ليست أولية بالفعل بل هي مادة سبق استخدامها ، تشبه الملابس المستعملة ، فمن يرسم صورة بصرية عن طريق اللغة إنما يرسمها في مخيلة السامع أو القارئ بلغة لم يخترعها  ، فالكلمات التي ينطقها تحمل روائح الآخرين ، وهي عند سماعها لا تستدعي الأشياء المسماة نفسها فكلمة شجرة لا تشير إلى شجرة معينة في الطبيعة بل إلى صورة الشجرة المتخيلة في أذهان السامعين – كما يقول ابن جني- أي أن المرجع فيها يكمن في أذهان لا تكاد تعد ولا تحصى،  وإذا رسمت بهذه الكلمات  شكلا مركبا من عدة أشياء فإنما تستدعي صور هذه الأشياء كما هي في تجربة المتحدث وتجربة السامعين أيضا ،أي بالصور الممتزجة بخبراتهم الماضية عن عالم الشجر ، والممتزجة أيضا بتجاربهم السارة أو المؤلمة مع هذا العالم ، ومن ثم فإن الصور والمشاعر التي تستدعيها الذاكرة  عند النطق بهذه الكلمة ،وكذلك الحال بالنسبة للسامع أو القارئ ، فإن ذكر الشجرة يثير في مخيلته ويثير من مشاعره مخزونا آخر يتصل بعالمه وبتجاربه هو، لذلك فإن السطح المكاني الذي ترسم فوقه  الصورة الأدبية في الحقيقة ليس مادة محايدة ، كما هو الشأن مع اللوحة الفنية ، بل هو الذاكرة الإنسانية ، والذاكرة في رأس الإنسان قريبة من منطقتي الانفعال والذوق ، ولذلك فإنها تلون الأشياء التي ترسم عليها بلونها وتطبعها بطابعها ،ولما كانت اللغة مؤسسة اجتماعية لا يملكها فرد واحد فإن كل كلمة منها تحمل نوايا وذكريات وروائح آلاف الألسنة التي لاكتها من قبل ، ولا بد أنها قد حملت بآلاف من التجارب في جمل كتب بها أو نطق بها الآخرون ، ولا بد أن الذاكرة الجماعية قد حملت من استعمالاتها تلك  أطيافا من هنا ومن هناك،لذلك فإن من يستخدم اللغة في رسم لوحة  يشبه من يصنع تمثالا من مواد سبق تصنيعها وسبق استخدامها أيضا ،لأن الشاعر أو السارد ليس هو أول من استخدم الكلمات والجمل ، ومن ثم فإنها تولد على لسانه أو قلمه وهي محملة بعديد من النوايا والمعاني والأغراض القديمة والحديثة ،يأخذها الشاعر ويصنع من هذه النوايا والأغراض نوايا أخرى تخصه هو ، وتعبر عن نفسه هو ، مثال ذلك أنك حين تقرأ هذه الأبيات التي اقتطفناها من مطلع قصيدة العودة لإبراهيم ناجي والتي يقول فيها :

هذه الكعبةُ كنّا طائفيها

والمصلّين صاحباً ومساءَ

كم سجدنا وعبدنا الحسنَ فيها

كيف باللَّه رجعنا غرباءَ

دارُ أحلامي وحبي لقيتنا

في جمودٍ مثلما تلقى الجديدْ

أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا

يضحكِ النورُ إلينا من بعيدْ

رفرف القلبُ بجنبي كالذبيحْ

وأنا أهتف: يا قلب اتَّئِدْ

فيجيبُ الدمعُ والماضي الجريحْ

لِمَ عُدنا؟ ليتَ أنّا لم نَعُدْ!

نجد أن إبراهيم ناجي رسم صورة فنية  لبيت محبوبته من جزئيات مستعملة من قبل ، وعبارات محملة سلفا بالنوايا والمشاعر الجماعية ، فكلمات  الكعبة  والطائفون حولها والمصلون والساجدون والعابدون ليست مجرد كلمات ، بل هي مواد عاطفية مشعة ، ولولا هذه الشحنات المشعة بالإيحاءات  لما كان لهذه الصورة جمالها وتاثيرها ، إن ناجي في هذه الصورة قد استدعى كل المشاعر المتعلقة بقدسية المكان ، واستدعى كل المشاعر التي تحدث عنها الأدباء عن الغربة  والحنين ورسم منها لوحة مادتها الكلمات ومفردات لغتها  من الدلالات الوجدانية سابقة التجهيز، بالإضافة إلى أنه رسم من حركات الطائفين والمصلين والمبتهلين ومن أستار الكعبة لوحة فنية متحركة تموج بالعاطفة .

. كما أن هناك مشكلة أخرى تزيد الصورة الأدبية تعقيدا ، وهي أن اللغة بطبيعتها مادة تجريدية فكلمة "مشى" مثلا رغم أنها تدل على معنى المشي في الزمان الماضي ، لكنها لا تدل على كيفية المشي ولا على جنس الفاعل للمشي ، فهي تصلح للتعبير عن مشى الرجل ومشى الأسد ومشى الثعلب ومشى الطفل ، لكن المشي االحسي في حقيقته المادية يختلف من رجل لآخر ، فكل رجل له مشية خاصة  ، بل إن مشية إنسان ما الآن غير مشيته بعد لحظة ،ومن ثم فإن أصناف المشي تتعدد بشكل لا يمكن لأي لغة بشرية أن تستوعب مفرداته ، وهكذا فإن الفعل "مشى" كغيره من أفعال اللغة تجريدي يختزل ملايين الهيئات في رمز لغوي واحد ، فكيف يسخر الأديب هذه اللغة التجريدية الاختزالية في رسم صور حسية فريدة ؟.

لذلك كان لا بد من الاستعانة بلغة أخرى أكثر مرونة واتساعا وقدرة على التعبير عن دقائق المعاني وأطياف الأخيلة وخلجات المشاعر مهما كان اتساعها وتعددها ،وهي لغة ال�

المصدر: جميع حقوق الطبع محفوظة للمجلس الأعلى للثقافة ® 2002-2010 . All Rights Reserved scc.gov.eg ® 2002-2010 .
consulthamadass

الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييم

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 3652 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة consulthamadass

ساحة النقاش

الخبيرالدكتورحمادة صلاح صالح www.iraegypt.com

consulthamadass
خبير التقييم المعنمد للتقييم لدي البنك المركزى المصرى خبير الملكية الفكرية بوزارة العدل للمحاكم الاقتصادية المتخصصة خبير تقييم الأثر البيئى للمشروعات وتقييم دراسات الجدوى خبيرتقييم معتمد لدى وزارة اﻻستثمار رئيس الهيئة الادارية والاقتصادية بالمجلس العربي الافريقي للتكامل والتنمية ونائب الرئيس للشئون الاقتصادية بالمجلس خبير تقييم دراسات الجدوى خبير وعضو المجلس »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

674,736