موقع الخبيرالدكتور / حمادة صلاح صالح صاحب بيت الخبرة الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييمالمعتمد للتقييم بالبنك المركزي

موقع متميز لفرادة التخصص فى التقييم وكافة الخدمات اﻻستشارية للبنوك والشركات والبيع بالمزاد العلنى

 

 

<!-- MSTableType="nolayout" -->
<!-- MSCellFormattingTableID="10" -->
<!-- MSCellFormattingType="header" --> 
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

خصائص الرواية العالمية فى النصف الثانى من القرن العشرين

تطبيق على أعمال أورهان باموق

<!-- MSCellFormattingType="footer" --> 
<!-- MSCellFormattingTableID="2" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

د. حامد أبو أحمد

 

<!-- MSCellFormattingTableID="1" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

 

    عندما بدأت فى قراءة رواية " القلعة البيضاء " لأورهان باموق ، فى ترجمتها الرائعة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، أدركت لماذا حصل هذا الكاتب التركى على جائزة نوبل فى الأدب وعمره أربعة وخمسون عاما . ومعروف أن الذين حصلوا على هذه الجائزة العالمية فى مثل هذه السن قليلون ، من بينهم جابرييل جارثيا ماركيز وكان عمره اثنين وخمسيــن عامـــا ، وألبيــــر كامى (46 عاما) . ولاشك أنى قبل أن أقرأ لباموق دارت فى نفسى الخواطر التالية :

إن باموق أديب تركى ، أى أنه يُنسب إلى وسط مختلف كثيرا عن الوسط الأوروبى والغربى بصفة عامة ، وهو قبل حصوله على الجائزة لم يكن يتمتع بشهرة واسعة فى كل أنحاء العالم ، وقد ترجمت بعض أعماله إلى هذه اللغة أو تلك ، لكنه فى الأغلب كان مجهولا ، ومن ثم فإنه كان يمكن أن يرشح لجائزة نوبل ويحصل عليها ، ولكن فى سن متأخرة نوعا ما على نحو ما حدث مع كتاب آخرين كانوا أكثر منه شهرة ، لكنهم حصلوا عليها بعد سن السبعين أو الثمانين . لابد أن شيئا ما أهله للحصول على الجائزة فى هذه السن المبكرة على الرغم من كل الظروف غير المواتية . وقد حاولت أن أقوم بنوع من الاستطلاع مع بعض الأخوة من الأدباء الذين سبقونى فى قراءته ، ولكنى وجدت انطباعاتهم عنه ليست مشجعة . قلت لنفسى : ربما يكون مثل بعض الأدباء الذين حصلوا أيضا على جائزة نوبل وجاءتهم الشهرة لبعض الوقت وترجمت أعمالهم إلى لغات كثيرة ثم دخلوا بعد ذلك فى زوايا النسيان .

       وبدأت – كما قلت – فى قراءة باموق لأكتشف أنه يكتب الرواية على النحو الذى تكتب به الآن فى العالم المتقدم . إنه كاتب من فصيلة خوسيه ساراماجو وباولوكويلهو ، وخوليو كورتاثار ، وجارثيا ماركيز ، وسواهم ، مع الاحتفاظ بالفروق الشخصية ، ممن صارت القصة لديهم ضربا من الغوص فيما وراء التفاصيل الصغيرة لحياة الناس الممثلين فى أبطال الرواية . ويتم ذلك باستخدام العديد من التقنيات الحديثة المتشابكة المجدولة مع العناصر الجوهرية لفن القص التى ينظر إليها بعض الناس على أنها تقليدية ، مثل الحكاية ، والحرص على أن تكون كل شخصية واضحة الملامح ، والإدهاش ، والتشويق ، والإمتاع وغير ذلك مما يُقرِّب العمل الفنى من ذائقة الجمهور العادى ولا يحوِّله إلى نوع من أنواع التعالى على القارىء ، كما يحدث عندنا مثلا فى النقد وفى أشياء كثيرة الآن . أعرف أن هذا الضرب من الفن صار شديد الغرابة حاليا بالنسبة لجمهرة المتلقين عندنا . وذلك أن من يقرءون الآن – مع قلة عددهم – يبحثون عن روايات التسلية السهلة الخفيفة التى كانت تكتب فى عهود سابقة واشتهر بها عدد كبير من الكتاب . وأعرف أيضا أن هذا الفن الجديد المنتشر فى الغرب الآن صار ، إلى حد كبير ، بعيدا عن ذائقة الكثيرين من كتاب القصة والرواية عندنا الآن . وقد حدث هذا بسبب طول فترة الفراغ النقدى ، حيث لم يهتم النقد طوال العقود السابقة باكتشاف ما يجرى على ساحة الإبداع فى العالم  بقدر ما اهتم بنقل النظريات النقدية وتلفيقها وتشويهها ، وهى مرحلة على أية حال شهدت سقوطا وترديا فى كل شىء . وللأسف الشديد فإن كتابات باموق نموذج مدهش لما يكتب فى العالم الآن ، وإذا لم نستطع أن نستوعب الجديد فى وقته فإن مساحة واسعة سوف تفصل بين ما يكتب عندنا وما يكتب فى كل أنحاء العالم .

       ومن دون شك فإن هدفى من هذه الدراسة هو الوقوف أو محاولة الوقوف على الطريقة التى يكتب بها باموق ، ولكى تكون استشهاداتى دقيقة ومحددة سوف أحصرها فى نطاق عمل واحد له ، هو " القلعة البيضاء "  وقبل أن أدخل فى التفاصيل أود أن أقول فى إيجاز شديد : إن باموق لم يكن ليستطيع الكتابة بهذه الطريقة لو لم يشهد فن القصة والرواية طوال القرن العشرين نقلات وتحولات مهمة غيرت تماما كل المفاهيم التى كانت سائدة فى القرن التاسع عشر والتى ختمت بالواقعية والطبيعية عند كتاب من أمثال ديكنز ، وتولستوى ، وفلوبير ، وبلزاك ، وزولا ، وجالدوس وسواهم ممن أدت كتاباتهم إلى إثراء الفن الروائى . ومع العقود الأولى فى القرن العشرين حدثت انعطافات كثيرة متأثرة ببعض الحركات الطليعية وأهمها وآخرها الحركة السيريالية ، فضلا عن تحولات أخرى عند جويس وكافكا وغيرهما ، ثم التحولات التى شهدتها رواية النصف الثانى من القرن العشرين ومن أهمها الواقعية السحرية التى هى فى الأساس متأثرة بالسريالية كما نجد عند ميجيل آنخل أستورياس وآخرين . المهم ظل كل عقد يضيف الجديد كل عقد بل كل سنة حتى وصلنا إلى نموذج من الكتابة يمثله الآن أفضل تمثيل الكاتب البرتغالى خوسيه ساراماجو ، هذا الشيخ الذى بدأ مشواره الأدبى الحقيقى بعد الستين وما زال يواصل الكتابة إلى الآن بروح الشباب . هذا الإيجاز الشديد لتطور الحركة الروائية فى العالم ينطوى على خلل كبير ، أعرف ذلك ، ولكن عذرى أنى هنا أريد أن أستخلص فكرة مهمة هى أن الرواية فى الغرب وبالتحديد فى أوربا وأمريكا الشمالية والجنوبية تطورت بشكل هائل يشبه التطور الذى حدث فى مجالات العلوم والتكنولوجيا ، وأن الكاتب التركى أروهان باموق ابن حقيقى لهذا التطور . ولهذا لاحظت أثناء اللقاء الأول الذى أجرى معه فى معرض الكتاب وحضره عدد من أعضاء لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة وجمهور كبير من العاملين فى مجالى الإعلام والصحافة ، أنه كان يتوقع أن توجه إليه أسئلة غير التى وجهت إليه ، ومن ثم بدأ فى إجاباته غير مرتاح وغير مريح ،   حتى تصور بعض الحاضرين أنه كان يتحدث بحدة وتعال شديدين  .

خصائص الفن الجديد :

       لابد أن أحدد ، منذ البداية ، أن ما أكتبه هنا هو مجرد محاولة صادقة لتوضيح بعض ملامح وخصائص الفن الروائى الذى يكتب فى العالم الآن ويحظى بانتشار واسع بين القراء وتقدير كبير من جانب التخصصين والنقاد . ولأنى قد تأكدت بعد قراءتى لأورهان باموق أنه واحد من هؤلاء الكتاب الجدد فإنى سوف أجعل من روايته " القلعة البيضاء " – كما أسلفت – هدفا للاستشهاد ،إضافة إلى ما يتطلبه المقام من كتاب آخرين . وأول ملمح من ملامح الفن الجديد – فى رأيى – هو الاهتمام بما وراء التفاصيل الصغيرة فى حياة أبطال الرواية الذين يكون عددهم فى الغالب محدوداً . ففى رواية " القلعة البيضاء " نجد شخصيتين رئيستين هما :       راوى القصة الإيطالى الذى خرج من فينسيا فى ريعان شبابه فى رحلة بحرية ووقع فى قبضة القراصنة الأتراك . كان ذلك فى القرن السابع عشر . وظلت الأمور تتقلب به إلى أن أعطاه السلطان منحة ليكون عبداً عند شخص تركى معروف باجتهاداته فى الفلك والنجوم يعرف باسم الخوجة وهو الشخصية الأخرى المهمة فى الرواية .     كان الإيطالى هو الآخر مشتهراً باجتهاداته الطبية والفلكية ، وقد عالج السلطان بالفعل من مرض ألم به . ولهذا كان مختلفا عن كل العبيد الآخرين الذين وقعوا فى الأسر . هناك شخصيات أخرى فى الرواية مثل الباشا ، والسلطان أو الطفل لأن عمره فى البداية كان تسع سنوات ، و غيرهما ، إضافة إلى شخصيات أخرى لكن ربما لا تذكر فى العمل إلا مرة واحدة أو مرات قليلة . المهم أننا طوال الرواية نتعايش تعايشا شبه كامل مع الشخصيتين الرئيسيتين ، وكل الشخصيات الأخرى ، على أهمية بعضها ، تدور فى فلكها . وهذا التكنيك نفسه ، أو قريبا منه على الأقل ، نجده فى رواية " كل الأسماء " – على سبيل المثال – للبرتغالى خوسيه ساراماجو . فموظف الأرشيف هو الشخصية الوحيدة الرئيسية ، وكل الشخصيات الأخرى على كثرتها تدور فى فلكها. ومثلما يتأمل هذا الموظف فيما وراء التفاصيل الصغيرة مثل وضع ملف فى مكان محدد بالأرشيف ، أو نقل الرجلين من سلمة إلى أخرى .. إلخ نجد أورهان باموق فى " القلعة البيضاء " – على سبيل المثال أيضا – يقدم لنا رحلة صيد مع السلطان ( الطفل ) ، حيث استطاع أرنب أن يفر من القطيع ويلقى بنفسه فى الماء، ثم راح يسبح فى فزع حتى وصل إلى أبعد شاطىء ، وأراد الحراس أن يفكوا المزيد من كلاب الصيد فى أعقابه ، لكن سُمع السلطان يمنعهم قائلا : " دعوا الأرنب حرا " إلخ . وقد شرح الخوجة للإيطالى فى المساء ما حدث قائلا له: سأل السلطان عن تأويل الحدث . فتحدث الجميع وجاء دور الخوجة ليقول : إن ذلك معناه وجود أعداء للسلطان من حيث لا يتوقع ، لكنه سينجو من ذلك التهديد سالما دون أذى . وراح منافسو الخوجة ومن بينهم صدقى أفندى المنجم السلطانى ينتقدون تأويله لنشره شبح الموت ، بل لشطحه ، بمقارنة السلطان بأرنب، لكن السلطان أسكتهم جميعا قائلا إنه سيضع كلمات الخوجة قرطا فى أذنه ( ص68-69 ) . وهكذا يصبح مجرد فرار أرنب من حملة صيد مجالا للحوار والنقاش والتأمل والمقارنة والقياس . وهكذا فى كل أحداث الرواية : اهتمام لا حدَّ له بما وراء الأحداث والتفاصيل الصغيرة ، والربط بين أشياء لا يجوز الربط بينها فى الواقع أو فى المنطق ، والدخول فى موضوعات تثير العجب والدهشة ، وغير ذلك من فنون وغرائب يعرضها الكاتب فى شكل جديد مستخدما أحدث التقنيات فى مجال الفن الروائى ، مما سوف نتوقف عنده فى هذه الدراسة .

       وهناك جانب آخر أود أن أتناوله فى هذا المدخل هو ما يتعلق بمسئولية الكاتب السياسية والاجتماعية أو ما كان يسمى فى مراحل سابقة بأدب الالتزام . والحق أن الكتاب الجدد فى أوربا وأمريكا لم تعد تشغلهم هذه المسألة . وأورهان باموق من تركيا ، وهذا البلد المسلم – كما نعرف جميعا – قريب جدا من أوربا ، أو يحاول – على الأقل – أن يكون مثلها ، ولهذا يحارب من أجل أن يُقبل عضوا فى الاتحاد الأوربى . ومن يسافر إلى أوربا وأمريكا الآن يحس بأن أدب الالتزام لم يعد ملحا بالنسبة لهذه البلاد : فقد قطعوا أشواطا كبيرة فى غزو الفضاء ، وصاروا يتمتعون بالديمقراطيات الحقيقية ، والتنمية ماضية على قدم وساق . ولتكن أسبانيا فى هذا الشأن هى المثال الذى نلجأ إليه . فهذا البلد منذ أن أصبح عضوا فى السوق الأوربية المشتركة ثم الاتحاد الأوربى تحول إلى كيان مختلف تماما عن ذى قبل : لم يعد هناك كفاح من أجل الديمقراطية منذ أن مات فرانكو فى أكتوبر عام 1975 ، ولم تعد هناك قضايا كبرى تستحق الكفاح من أجلها كالفتن الطائفية أو المظالم أو الصراعات أو غير ذلك ، وبالتالى لن نجد عملا يتحدث مثلاعن الفقر بالطريقة التى جاءت فى رواية  عائلة باسكوال دوارتى " لكاميلو خوسيه ثيلا التى صدرت عام 1942 أى بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية . العالم الغربى الآن يعيش أوضاعا مختلفة ولهذا لم يعد أدب الالتزام مطلوبا بالشكل الذى كان عليه فيما مضى . وهذا على العكس مما يحدث عندنا أو فى العالم الثالث بصفة عامة الذى أصبح أكثر احتياجا لأدب الالتزام من أى وقت آخر بسبب الحروب والصراعات والمشاكل الطاحنة ، وتأتى المنطقة العربية على رأس البلاد المهددة بكل ما يؤدى إلى الإحباط والتشاؤم من المستقبل وما زالت ترن فى أذنى أصداء كلمات قالها الدكتور طه حسين قبيل وفاته عام 1973 عندما قال : " إن ما كافحنا من أجله ما زال يحتاج إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم ".

       ولاشك أن أورهان باموق  قد عاش هذه الأجواء الأوربية ، وهو نفسه كما ذكر أثناء الحوار معه فى معرض الكتاب ، ينسب لأسرة من الطبقة المتوسطة العليا – هكذا قال – وإن كنت أعرف أنه أراد أن يتواضع قليلا فيما يتعلق بهذه النقطة ، ولهذا كان من الطبيعى جدا أن ينحاز إلى هذا النمط من الكتابة الجديدة . وقد سألته سناء صليحة فى حوار نشر بجريدة " الأهرام " يوم الأحد 28 يناير 2007 قائلة : " فى بداياتك رفضت أن يتم تصنيفك كامتداد لأجيال كتاب رواية الستينيات والسبعينيات فى تركيا والالتزام بفكرة المسئولية الاجتماعية والسياسية  فهل لا تزال عند رأيك ؟ فرد قائلا : " نعم لن أكون مثل كتاب يوظفون الأدب لقضايا أخلاقية أو سياسية . لقد كانوا يقدمون واقعية مسطحة وأهدروا موهبتهم فى ظل الدفاع عن فكرة مثل كثير من كتاب الدول الفقيرة . لست مثل شتاين بيك وجوركى . أنا ابن جيل جديد رؤاه وأهدافه أكثر تعقيدا . كان اهتمامى منذ البداية أن أجرِّب ، وأن أعبِّر عن نفسى ، وأن أجد صوتا وشكلا بديلين . وقررت ألا يكون عملى سياسيا أو مجرد نقل المشكلات الاجتماعية " . ومما قاله باموق فى هذا الحوار : " بالطبع عقللى تشغله قضايا مجتمعى ، ولكنى لا أكتب لأحارب هذه المشكلات . إننى أكتب لأقدم فنا جيدا لأننى أعتقد أن الأدب الجيد هدف فى حد ذاته ".

       ومعروف أن قضية الأدب من أجل الأدب أو ما يسمى الفن للفن ، وكذلك الأدب من أجل المجتمع تمثل ثنائية قديمة درست كثيرا من قبل ، ولكن الجديد فى ظاهرة الفن للفن الآن هو أن المجتمعات الإنسانية ، خلال العقود الأخيرة ، انقسمت انقساما حادا بين عالمين أولهما عالم متقدم استطاع أن يتجاوز الكثير من الأزمات والمشاكل ، وإلا فمن كان يتصور أن تصبح القارة الأوربية قارة موحدة لها عملة واحدة هى اليورو ، وتستكمل باقى الدول الأوربية الشرقية انضمامها إلى هذا الكيان الموحد الآن ، حتى أن تركيا المسلمة تستعد لذلك  بينما العالم الآخر عالم يزداد كل يوم تخلفا وتدهورا وسقوطا فى براثن الجهل والطائفية ،ولهذا لابد أن تنقسم الكتابة ، لأن كتاب العالم الثالث مازالوا مطالبين بأن يكتبوا عن الفقر والجهل والتخلف .

       تحدثنا فيما سبق عن خاصيتين من خصائص الكتابة الجديدة فى الغرب الآن ، والتى يكتب بها أورهان باموق ، وهما الغوص فيما وراء التفاصيل الصغيرة ، وعدم إعطاء أهمية لما يسمى بالمسئولية الاجتماعية والسياسية للكاتب لأن الأهم من ذلك هو تقديم فن جيد وكتابة جيدة . واليوم أواصل الحديث عن هذه الخصائص من خلال أورهان باموق مع التركيز على روايته " القلعة البيضاء ".

       والآن أتوقف عند الخاصية الثالثة وهى ما يمكن أن نسميها بالحتمية ، وذلك أن مصائر الشخصيات لا تخضع للمصادفة التى تبدو فى الظاهر وكأنها هى الأساس لكننا عندما نتمعن فيما يقدمه الكاتب نجد أن هذه المصائر ، فى إطار القدرة الخيالية الهائلة ، وفى إطار الحرية التى يتمتع بها الكاتب وهى حرية لا يحدها إلا وعى الكاتب نفسه بأن كتابته لابد وأن تكون فى إطار قالب فنى جذاب ومشوق ، مع بناء محكم وقدرة على التحكم فى الأحداث بحيث لا يحدث طغيان من جانب على آخر : فالخيال يظل دائما فى دائرة المقبول ، والواقع يتناغم مع شطحات الخيال ، والفوضى وهى خاصية أخرى من خصائص الكتابة الجديدة سوف نتناولها فيما بعد ، ينبغى أن تظل ضمن حدودها الخلاقة ، أقول فى إطار كل هذا تظل المصائر محددة بدقة أى ضمن ما نسميه بالحتمية . ولذلك يحكى لنا الراوى الإيطالى فى بداية رواية " القلعة البيضاء " أن الموقف الجبان لقبطان السفينة التى ركبها والتى خرجت من فينسيا متوجهة إلى نابولى واستولى عليها القراصنة الأتراك غيرَّ مجرى حياته كلها لأنه عاش حياته كلها بعد ذلك فى اسطنبول بتركيا حتى بلغ السبعين من عمره . لكنه يستدرك على هذا قائلا : " لكن الآن يبدو لى أن حياتى كانت ستتغير حتى لو لم يسيطر ذلك الخوف المفاجىء على قبطاننا . يعتقد الكثيرون أن حياة المرء لا تتغير دائما بشكل مطرد للأمام ، ذلك أن كل القصص فى جوهرها سلسلة من الصدف . ومع ذلك فحتى هؤلاء الذين يعتقدون هذا يصلون أيضا لخاتمة ، عندما يتأملون ماضيهم ويدركون أن الأحداث التى نظروا إليها باعتبارها محض صدفة كانت أمراً محتوما لا مفر منه. لقد توصلت إلى هذه الأفكار الآن حيث أجلس إلى منضدة عتيقة أدوِّن كتابى هذا وأنا أتخيل ألوان السفن التركية التى تبدو لى كأنها أطياف فى الضباب " ( ص 7 و8 ) . وفى آخر الرواية تقريبا (ص219 ) يقول لنا الراوى الإيطالى : " أعرف الآن أن كثيرا من الأشياء التى خبرتها لمدة سنوات كأحداث مرت بى كانت محتومة ولا مفر منها ، وأن جنودنا لن يستطيعوا الوصول إلى أبراج القلعة البيضاء ، وأن الخوجة يفكر مثلى فى نفس الشىء ".

وقد سبق أن قلت إن أروهان باموق يسير فى طريق مهَّده من قبله كتاب من أوربا والأمريكتين من بينهم الكاتب الأرجنتينى خوليو كورتاثار ( 1914 -1984 ) الذى ولد فى بروكسيل حيث كان والده يعمل فى الملحقية الأرجنتينية ، وعاش معظم حياته فى باريس . وأهم رواية كتبها هى رايويلا Rayuela التى نشرت عام 1963 وقد ترجمها الدكتور على منوفى ضمن المشروع القومى للترجمة تحت عنوان " لعبة الحجلة " ( عام 2000 ) . يحكى لنا بطل هذه الرواية فى أول صفحة منها هل بإمكانه أن يقابل " لاماجا " وهى المرأة التى يرتبط بها وهو قادم من شارع سيين متجها إلى القوس المؤدى إلى شارع لواى دى كونتى .. الخ ، لكنه أيضا يستدرك بأن لاماجا على اقتناع مثله بأن لقاء الصدفة ليس به الكثير من الصدفة فى حياة كليهما، وأن الناس الذين يتواعدون على لقاء فى ساعة محددة هم أنفسهم الذين يشعرون بالحاجة إلى ورق مسطر للكتابة ، وهم أنفسهم أيضا الذى يستخلصون معجون الأسنان بالضغط على الأنبوب من أسفل .

       وإذا كانت الكتابة دائما تتطور من خلال شرارات تطلق من هنا أو هناك فإنى مازلت أذكر مشهدا ورد فى رواية لميجيل دى أونامونو من جيل 1898 فى إسبانيا والذى كان فيلسوفا أيضا ويعد من طلائع الفلسفة الوجودية . الرواية المذكورة كان يطلق عليها اسما مضادا هو Nevola بدلا من Novela أى عكس كلمة رواية . ورواية خوليو كورتاثار أيضا عندما ظهرت سميت باللارواية أو اللاقصة . والمشهد المشار إليه فى عمل أونامونو عبارة عن حوار بين المؤلف وبطل القصة ، يقول له المؤلف إنه هو الذى ابتدعه وحدد مصائره ورسم طريقه وما إلى ذلك ، ويرد البطل بتفنيد مزاعم المؤلف وأن له حياته الخاصة .. إلخ ولا شك أن ميجيل دى أونامونو الذى توفى عام 1936 كان كاتبا طليعيا فى كثير من المجالات .

تقنيه الشبيه :

       وهذه التقنية اتشرت فى كتابات القصة والرواية . رأيناها من قبل عند عدد من الكتاب أذكر من بينهم – على سبيل المثال – الكاتب الأرجنتينى المشهور خورخى لويس بورخيس . وله قصة عنوانها " الآخر " ترجمتها ونشرتها فى كتابى " فى الواقعية السحرية " . وهذه القصة يقول عنها بورخيس إنها واقعة حدثت فى شهر فبراير عام 1969 بشمال بوسطن فى كامبردج . وبينما راوى القصة يجلس على مقعد جاء شخص آخر وجلس ، وحدثت أشياء ودار بين الاثنين حوار ، ومن خلال هذا الحوار أخذ يتبين لنا شيئا فشيئا أن الشخصيتين شخصية واحدة انقسمت على نفسها . ولا شك أن من يستخدم هذه التقنية إذا لم يكن كاتبا كبيراً وفنانا موهوبا يمكن أن تضيع منه كل الخيوط . وعلى فكرة الكتابة الفنية الآن لم تعد سهلة سواء فى الشعر ( قصيدة النثر ) أم فى القصة القصيرة أم فى الرواية أم فى المسرح ، لم تعد سهلة .مشكلتنا فى العالم العربى أن القارىء لم يعد موجودا تقريبا ، ومن ثم يحتار الكاتب عندنا هل يسير على الطرائق التى تستخدم فى العالم كله الآن أم يحافظ على البقية الباقية من القراء ؟ مشكلة كبيرة حقيقية لا أعرف كيف نحلها !!.

       ومن دون شك فإن علو قامة أورهان باموق فى مجال الفن الروائى وسيطرته القوية على ما يكتب أنه استطاع أن يستخدم تقنية الشبيه ببراعة وإتقان فى رواية " القلعة البيضاء " .فمنــذ البــدايــة ( صفحة 10 ) تطالعنا هذه التقنية عندما يقول لنا الراوى الإيطالى : " يؤلمنى أن أفكر حين أضطر لاختراع ماض لنفسى أن ذلك الأب الذى تحدث مع حبيبته عن آلامه وخططه والعالم والعلم والذى وجد أنه من الطبيعى لخطيبته أن تتعبد فيه ، كان أنا نفسى حقيقة " . وفى نهاية الفصل رقم 1 ( ص20) يخبرنا هذا الراوى الإيطالى أن الباب انفتح ودخل رجل يكبره بخمس سنوات أو ست . وقد نظر إلى وجهه مصدوما وشعر بالرعب . وكان رعبه حسبما أخبرنا فى بداية الفصل رقم 2 من أن الشبه بينه وبين ذلك الرجل الذى دخل الحجرة لا يصدقه عقل ! " إنه أنا .. للوهلة الأولى كان هذا ما دار فى ذهنى . كان الأمر كأن أحدهم أراد أن يلهو بى مستخدما حيلة ما وأحضرنى مرة أخرى من باب مواجه للباب الذى دخلت منه قائلا : انظر لابد أنك أنت حقا هذا الشخص . لابد أنك دخلت من الباب هكذا .. الخ " ومن هنا حتى نهاية الرواية التى تقع ترجمتها إلى العربية فى حوالى 247 صفحة سوف نتعامل مع شخصيتين فى شخصية واحدة هما الإيطالى والخوجة التركى ، أو قل إنهما شخصية واحدة انقسمت على ذاتها فى اثنين . ولذلك نجد الأحداث تدور على نحو نستشعر منه أننا أمام شخصية واحدة منقسمة . فالإيطالى يقول لنا : كان الباشا واقفا وراء ذلك الذى يشبهنى . ويقول : فى الصباح وأنا أمضى إلى منزل ذلك الذى يشبهنى تصورت أنه ليس لدى ما يمكن عمله له ، لكن اتضح فيما بعد أن معرفته بالأمور لا تتجاوز معرفتى بها ، وعلاوة على ذلك استطعنا أن ننسجم معا . ويقول : كان منزل الخوجة الذى يشبهنى صغيراً ، كما يقول أيضا : حين كنت أشعر بعينيه تتبعانى كان ذلك يزيد من اضطرابى ، ذلك أنه لم يلحظ الشبه بيننا . وأحيانا يأتى الانقسام مع شخصية غير محددة ، ونحن ما زلنا فى الفصل رقم 2 . وقد حدث هذا فى مشهد عقاب بعد أن رفض الإيطالى التحول إلى الإسلام وأصر على التمسك بعقيدته . وكان الباشا هو الذى حضه على اعتناق الإسلام . المهم أنه قُيد ودفع على ركبته ، وقبل أن يضع رأسه على جذل شجرة شعر بذهول عندما رأى شخصا يتحرك بين الأشجار كأنه يطير . " كان هذا الشخص أنا ، لكن بلحية طويلة يسير صامتا فى الهواء . أردت أن أصيح على شبحى السائر بين الأشجار  لكنى لم أستطع النطق ورأسى مضغوط على جذل الشجرة " ( ص36 ) . ونعلم بعد ذلك أن الباشا أحبه لأنه لم يتخل عن إيمانه ، ولكنه بعد لحظة بدأ فى توبيخه ومهاجمته بعنف وهذيان قائلا له إنه عنيد للا شىء وأن الإسلام أفضل دين وأشياء من هذا القبيل .

       وهذا التشابه بين الإيطالى والخوجة ليس مسألة تخص الإيطالى فقط ، بمعنى أنه هو الذى يحس به ، أو تخص الخوجة ، وإنما هناك آخرون قد أحسوا بذلك ومنهم الباشا ، فقد حاول الباشا ذات مرة أن يتذكر وجه الإيطالى فكان الذى يحضر إلى ذهنه هو وجه الخوجه (ص47 ) ، ومرة أخرى أخبرنا الإيطالى أن الشبه بين الخوجة وبينه كان مزعجا للباشا أكثر مما أزعجه هو شخصيا (ص59). بل إن السلطان قال للإيطالى فى إحدى المرات إن الخوجة ، ذلك الرجل القابع فى بيته ، هو أنا ، أى السلطان نفسه ، وبذلك يكون التشابه ليس مقتصرا على الإيطالى والخوجة فقط ، بل يمتد إلى غيرهما . ولذلك أخبرنا الإيطالى بعد ذلك مباشرة قائلاً : " حين قال – أى السلطان – إننى أنا الخوجة فكرت أنه من الأفضل ألا أسايره فى منطقه ، لأنه سرعان ما أكد أنى الشخص الذى علم الخوجه كل هذه الأشياء ، وليس ذلك الشخص الكسول الذى أنا عليه الآن " (ص 181 ) . أى أننا صرنا أمام أربع شخصيات فى شخصية واحدة . وقد حدث بعد ذلك أن الخوجة اختفى لفترة طويلة ، ولم يعد يُرى فى الأماكن العامة ، ونسيه الناس تقريبا وكان الإيطالى هو الشخص الذى يراه الناس غالبا إلى جانب السلطان فى القصور وفى المدينة ، حتى صاروا يغيرون منه ويشحذون أسنانهم فى وجهه قائلين " الكافر "  ( انظر صفحة 182 ) . وفى إحدى المرات سأل الخوجة شبيهه الإيطالى : هل يمكن أن نكتب معا وأن ننظر للمرآة أيضا معا؟ لم ينتظر الإجابة وإنما طرح فكرته ( أى الخوجة ) وهى " أن نجلس إلى طرفى المائدة ونكتب فى مواجهة أحدنا الآخر . فعقولنا التى تتحدى هذه الموضوعات الخطرة قد تتسلل منا محاولة الهرب ، وبهذه الطريقة فقط يمكننا أن نقوى أحدنا الآخر بروح النظام (ص 90 ) . وقد رأى الخوجة أن فكرة جلوسهما للكتابة فى حد ذاتها تشبه تماما رؤية المرء جسده فى مرآة يختبر من خلالها جوهره بالخوض فى أفكاره . بل إن الإيطالى قال لنا ذات مرة :" لكن الرحلة التى ينوى القيام بها ( أى الخوجة ) إلى بلادى باعتباره أنا والحياة التى سيحياها هناك بها من الغرابة والسذاجة ما منعنى من تصديقها نهائيا . فى الوقت نفسه كنت مندهشا بمنطق تفاصيل خياله : شعرت بالرغبة أن أقول إن هذا أيضا من الممكن حدوثه . من الممكن لـــحياتـــى أن تسيـــر هــكـــذا " ( ص123) . ولاشك أن هذه الفقرة توضح للقارىء كيف تتداخل التقنيات ببراعة شديدة فى هذه الرواية : فتقنية الشبيه مرتبطة بالخيال الذى هو الأساس فيما يبدع القاص من أحداث ، ومشاهد ، ومواقف . مرتبطة كذلك بتقنية اللعب التى سوف نتناولها فيما بعد ، وذلك أن الكتابة الجديدة تشبه اللعبة ، لكنها لعبة محسوبة بدقة ، على العكس مما يتصور أى قارىء لم يتابع التطورات المتواصلة التى حدثت فى فن الرواية .

       وإذا كنا على امتداد رواية " القلعة البيضاء " نستمع إلى صوت الإيطالى الذى يروى لنا الأحداث فإننا فى الفصل الأخير ، رقم 11 ، نلاحظ أن السرد يتم بنوع من التعاقب ، أو تبادل الأصوات . فتارة يحكى لنا الإيطالى نفسه ونحس أن هذا هو صوته ، وأحيانا يحكى الخوجة ، وأحيانا يكون الصوت صادرًا من الاثنين كليهما ، كما نجد فى الفقرة التالية (ص232 ) : " كان ذلك اليوم الذى أرغمنى فيه أن أحكى له عن جسور فينيسيا ، وعن أعمال الزينة فى مفارش المائدة التى كان يأكل عليها فى طفولته ، وعن المنظر عبر النافذة إلى الحديقة فى ظهر منزله الذى تذكره حينما أوشكوا على قطع رأسه لرفضه التحول إلى الدين الإسلامى " . فالجزء الأول من هذه الفقرة عن جسور فينيسيا ، ومائدة الطفولة والمنظر عبر الحديقة يتعلق بالإيطالى وهو الذى يمكن أن يصفه ، والجزء الآخر عن تهديدهم بقطع رأسه لرفضه التحول إلى الدين الإسلامى لابد وأن يرويه الخوجة .. أى أننا هنا أمام صوتين وأمام روايين أوساردين للأحداث ، ويمكن أن نقول أيضا إنهما راو واحد منقسم على ذاته على النحو الذى شرحناه من قبل فى هذه التقنية ، تقنية الشبيه التى تردفها وتعززها تقنيات أخرى كثيرة تعمل جميعها على أن يصير هذا العمل الروائى مدهشا ومثيرا للتأملات . وسوف نواصل فى الحلقة القادمة محاولة استخلاص تقنيات الكتابة الجديدة من خلال رواية " القلعة البيضاء " لأورهان باموق .

       تناولنا من قبل أربعا من خصائص الكتابة الجديدة فى الغرب ، وذلك من خلال أورهان باموق وروايته " القلعة البيضاء " ، وهذه الخصائص هى : الغوص فيما وراء التفاصيل الصغيرة ، وعدم إعطاء أهمية لما يسمى بالمسئولية الاجتماعية والسياسية للكاتب ، وتقنية الشبيه ، والحتمية الروائية . واليوم نواصل الحديث عن خصائص أخرى ، ونبدأ بما يسمى " لعبة الكتابة " ، وذلك أن بعض الكتاب ، خلال القرن العشرين ، أدركوا أن الكتابة يمكن أن تكون لعبة جميلة ، لكنها بالطبع لعبة محكومة ودقيقة . فمفهومنا فى العادة عن اللعب أنه مضيعة للوقت ، وأنه ليس محكوما بأصول وقواعد محددة ، مع أن الواقع مختلف عن ذلك تماما ، وأعتقد أن المسألة بديهية ولا تحتاج إلى ضرب أمثلة من هذه اللعبة أو تلك. لكن اللعب فى مجال الكتابة كان ومازال شيئا غريبا . فكيف تتفق الكتابة التى يفترض فيها الجدية الصارمة مع اللعب الذى يفترض فيه اللهو ؟ ! وهذه المسألة – فى رأيى – تشبه المعركة الدائرة عندنا الآن حول قصيدة النثر . فالمعارضون يقولون لك دائما ، موقنين فى قرارة أنفسهم أنهم أفحموك ، كيف نجمع فى مسمى واحد بين مفردتى قصيدة ونثر ؟! ويبدو أن البشر ، بطبيعتهم ، مبرمجون على رفض الجديد ، على الرغم من أن المساحة القائمة بين الرفض والقبول لا تتبلور إلا فى ذهن الإنسان . ولهذا يحدث دائما رفض للجديد أيا كان نوعه . وقد حدث هذا أيضا مع كل الكتابات الروائية الجديدة .

       وفيما يتعلق بالكتابة بوصفها لعبة سوف أتوقف أولا عند الكاتب الأرجنتينى خوليو كورتاثار لكونه من أبرز من كتبوا هذا النوع من الأدب فى بداية النصف الثانى من القر العشرين ، ثم أنتقل إلى أورهان باموق . وكان كورتاثار قد انتقل للعيش فى باريس عام  1951 ، وبعد ذلك كتب كتابه " قصص عن الكرونوبيوس والشهرة " ، والكرونوبيوس مسمى كان يطلق على شخصيات رآها فى باريس . ويحكى لنا الناقد الأمريكى اللاتيني لويس هارس فى كتابه " أدباؤنا " Los Nuestros الصادر عام 1966 أن هذا الكتاب عندما نشر فى الأرجنتين استقبلته مدفعية ثقيلة : فالشعراء نظروا إليه باحترام شديد ، هكذا قال كورتاثار ، ولكن النقاد القليلين الذين آثروا أن يكتبوا عنه أعلنوا عن شعورهم بالفضيحة . وقد أسفوا من أن يسمح كاتب جاد جدا لنفسه بأن يكتب كتابا قليل الأهمية . وقد علق كورتاثار على ذلك بقوله : " هنا نلمس بعمق واحدًا من أسوأ الأشياء فى بلدنا ، وهو تلك الفكرة الغبية عن الأهمية " . ويضيف كورتاثار :" إن اللعب من أجل اللعب نفسه لم يوجد تقريبا فى أدبنا " . وكان كتاب " قصص الكرونوبيوس والشهرة" – كما يقول لويس هارس – قد ولد وكأنه وخزة أو شرارة فى نظَّارة مزدوجة . فقد كان كورتاثار ، بعد وصوله إلى باريس يحضر حفلا موسيقيا فى مسرح حدائق الإليزية ، وطرأت على ذهنه فجأة فكرة شخصيات يمكن أن يطلق عليهم مسمى الكرونوبيوس . كانت هذه الشخصيات شديدة الغرابة حتى أنه لم يستطع أن يراهم بوضوح ، وكأنهم نوع من الميكروبات الطافية فى الهواء ، أو بالونات خضراء تأخذ شيئا فشيئا خصائص بشرية . كانوا موجودين فى المقاهى ، وفى المترو ، ومن ثم أخذ خوليو كورتاثار يكتب بسرعة قصص هؤلاء الكرونوبيوس ، الذين أضاف إليهم الشهرة والأمل .. وقد حكى كورتاثار فى مرات كثيرة كيف كتب قصص هذه الشخصيات ، لكن ما يهمنا هنا هو الفقرة التالية التى قال فيها : " كتبت هذه النصوص على أنها لعب خالص . وهناك جزء آخر فى الكتاب وهو " مختصر التعليمات " كتبته بعد أن تزوجت ، فى فترة ذهبنا خلالها لنقضى عدة أسابيع فى إيطاليا . وتبعهُ هذه النصوص تعود إلى زوجتى ، وذلك أننا ذات يوم ونحن نصعد بتعب شديدا سُلّما طويلا لأحد المتاحف ، قالت لى فجأة :" الحاصل هو أن هذا الدرَج ما هو إلا درَجٌُ للنزول ". وقد أعجبتنى جدا هذه الجملة وقلت لزوجتى أورورا : " ينبغى  على المرء أن يكتب بعض التعليمات عن كيف يصعد   ( أو يهبط ) درجا " . أى أن كل شىء ، بالنسبة للكتابة الجديدة ، يمكن أن يصير مجالا للتناول والتأمل والكتابة بشأنه . وقد أشرت من قبل إلى أن الأرشيفجى بطل رواية " كل الأسماء " لخوسيه ساراماجو يجد مجالا للتأمل حول أى شىء ، من صعود السلم ، إلى خلع الحذاء ، إلى تقديم ورقة طلب أجازة مثلا لرئيسه فى السجل المدنى ، لأن الرئيس بمكن أن يشطب على الأيام المطلوبة ويعطيه أجازة لمدة يوم أو يومين فقط .. كل شىء إذن فى الرواية الحديثة قابل للكتابة بشرط أن تكون لدى الكاتب القدرة للتحكم فيما يكتب . وقد لاحظت وأكرر أن هؤلاء الكتاب المحدثين حريصون كل الحرص على أن يظل البناء الروائى متماسكا ، وعلى أن تظل الحكاية واضحة ومهيمنة ، وعلى أن تكون ملامح الشخصيات محددة ، ولذلك فإن أخشى ما أخشاه ، إذا عمد بعض كتابنا إلى تقليد هذه الكتابة الجديدة ، أن يفشلوا فى مراعاة هذه الشروط اللازمة للتواصل مع القراء ، وأكثر من ذلك فإن أى كتابة تقلد تقليدا أعمى لابد أن تأتى مخلخلة البناء ، وغير مؤهلة لأن تكون حديثة بأى مقياس من المقاييس . والحرص على الكتابة الجيدة مطلب مهم كما ذكر ذلك بحق وصدق أروهان باموق . ولذلك فإن الكُتّاب المحدثين كانوا مهمومين دائما ببناء الجملة نفسه ، فما بالك ببناء العمل كله !! . وفى هذا الصدد يروى لنا الناقد فرناندو لافوينتى فى مقدمته القصيرة للمجموعة القصصية " الأسلحة الخفية وحكايات أخرى " لكورتاثار ، أنه ذات مساء مكفهر ، أعترف جيمس جويس لصديقه وليام أودجين أنه متوقف عند صفحة فى " أوليس " ، ولا يعرف كيف يواصل الحكاية . فسأله صديقه الطيب : ماذا حدث لك ، ألا تجد الكلمات لتواصل ؟ فرد عليه جويس محنقا :" بالطبع أجد الكلمات ، ولكن ما ينقصنى هو ترتيب الكلمات ".

       نعود إلى كورتاثار فنجد أنه ، منذ بداياته ، قد إنحاز إلى نوع من الأدب أسماه " أدب الاستثناء " . صحيح أنه فى شبابه قرأ الكلاسيكيين الكبار ، ثم قرأ أدباء الطليعة من أمثال فاليرى ، إليوت ، وسان جون بيرس ، وإيزرا باوند وغيرهم ، لكنه بعد ذلك ابتعد عن هذا الطريق وأخذ اهتمامه يتركز حول الأدب الاستثنائى ، ولذلك أخبرنا أن صفحة جيدة من كتابات جارى Jarry تنشط مخيلته أكثر بكثير من الأعمال الكاملة لكاتب مثل لابرويير Bruyere La . ومما قاله كورتاثار فى هذا الشأن : إن الشاعر يجب أن يتخصص فى اصطياد الأشياء المستثناه ، ويترك القوانين لرجال العلم وللكُتّاب الجادين ". وقد ظل كورتاثار يكتب ويجرب حتى صدرت روايته رايويلا ( لعبة الحجلة ) عام 1963 ، والتى تقع ترجمتها العربية بالمجلس الأعلى للثقافة ، فى حوالى ستمائة صفحة . وهذه الرواية قال عنها نقاد أمريكا اللاتينية إنها " أوليس " اللغة الإسبانية . ورواية " لعبة الحجلة " من أفضل النماذج التى يمثل بها لما يسمى " لعبة الكتابة ".

       ومما لا شك فيه فإن خوليو كورتاثار عندما كتب أعماله كانت كتاباته تدخل ضمن الاستثناء . والآن توسع هذا النوع من الكتابة بصورة لافتة للنظر . ويكفى أن تقرأ أعمال خوسيه ساراماجو ( نوبل فى الآداب 1998 ) ، وكثير من الكتاب فى أوربا وأمريكا لنكتشف أن هذا النوع صارت له هيمنة واضحة . ومازلت أذكر فى هذا الصدد رواية أصدرها فى أواخر الثمانينات صديق أسبانى اسمه لويس لانديرو وعنوانها " ألعاب العمر المتأخر " ، وكانت أول رواية له ، لكنها حصلت على الجائزة القومية للأدب فى نفس عام صدورها ، وهى أرفع جائزة تمنح للأدباء والكُتاب . والآن أورهان باموق الكاتب التركى يحصد شهرة عالمية واسعة بعد حصوله على جائزة نوبل 2006 . أى أن واقع الحال يقول إن لعبة الكتابة التى كان يعتبرها خوليو كورتاثار حالة استثنائية لم تعد كذلك ، حيث أصبحت تحظى باهتمام النقاد والمتخصصين ، وفى الوقت نفسه تجذب الآلاف المؤلفة من القراء .. ولا ينبغى أن نقارن هذا بما يحدث عندنا لأننا نعيش فى ظروف استثنائية من نوع آخر ومختلف تماما . ولا أعتقد أننا فى ظل هيمنة المحافظين من الكتاب ، أو أدعياء الحداثة ، على معظم وسائل النشر والاتصال ، يمكن أن نخرج من هذه الوهدة التى سقطنا فيها منذ فترة طويلة .

       ولا أريد أن أترك خوليو كورتاثار قبل أن أشير إلى بعض الأشياء المهمة عنه . ومعروف أنه تأثر بشدة بكتابات بعض الفرنسيين ، ومنهم جان كوكتو الذى قرأ كتابه أوبيو Opio وعمره ثمانية عشر عاما . وهذا الكتاب فتح أمام هذا الشاب الأمريكى اللاتينى عالما جديدًا . وقد أخبرنا كورتاثار أنه بعد أن قرأ كوكتو رمى نصف مكتبته ووجه نظره نحو الحركات الطليعية . ومن ثم كان كوكتو هو الذى أخذه إلى بيكاسو ، وراديجيه ، وموسيقى مجموعة الستة ، وسيريالية بريتون وإلوار وكريفيل . وكما يقول لويس هارس فإن كورتاثار كان يعتبر السريالية أحد أهم المراحل التاريخية على مدار القرن العشرين ، حتى انهارت وتحولت إلى مجر حركة أدبية خالصة – أما من السابقين على السيريالية فقد كان كورتاثار شديد الإعجاب بثلاثة ، وهم : لوتريامون ، وأبو للينير ، وألفريد جارى . وفيما يتعلق بالأخير يقول كورتاثار: " لقد أعجبنى الموقف الشخصي لجارى وكذلك أدبه. وذلك أن جارى كان لديه وعى كامل بأن الأشياء الأشد خطورة يمكن أن يتم اكتشافها من خلال الفكاهة ، وخاصة الفكاهة السوداء . وأعتقد أن هذا أثر كثيرا فى طريقتى لرؤية العالم ، ودائما كنت أعتقد أن الفكاهة هى أحد الأشياء الأكثر جديّة الموجودة على الأرض " . وهكذا ظل دائما كورتاثار يبحث عن الكتاب المتفردين الداخلين فى دائرة الاستثناء ،ولعله لم يتوقع أن هذا الاستثناء سوف يتحول إلى قاعدة ، وأنه سوف ينتقل من الوسط الأوربى والأمريكى ليؤثر فى ظهور كاتب تركى من نوعية أورهان باموق .

       ونقرأ رواية " الحياة الجديدة " الصادرة فى تركيا عام 1995 لنجد أنها بصفحاتها التى تناهز أربعمائة وخمسين صفحة فى الترجمة العربية عبارة عن لعبة طويلة تبدأ بالفقرة التالية:" قرأت كتابا فى يوم ما فتغيرت حياتى كلها . منذ الصفحة الأولى تأثرت بقوة الكتاب ، فشعرت بجسدى ينأى بنفسه ويبتعد عن الكرسى .. الخ " ويلاحظ أن الراوى وبطل القصة طالب فى كلية الهندسة فى الثانية والعشرين من عمره ، وأن تأثير الكتاب لم يكن عليه وحده، بل على كل من قرأه من شخصيات الرواية ، وأننا سوف نظل إلى نهاية الرواية لا نعرف ما هو الكتاب بالتحديد ، لأن المهم لس الكتاب فى حد ذاته ولا وجود الكتاب ، وإنما الأهم من كل هذا هو التأثير الذى يحدثه الكتاب . فالكتاب إذن شىء أشبه باللغز الذى ينطلق منه الضوء على نحو ما نقرأ فى الفقرة التالية (ص75) : " قرأت الكتاب خلال الليل كله حتى طلوع النهار . أثناء قراءتى كان الضوء الذى ينعكس على وجهى يبدو أحيانا قويا متألقا جدا ، ففكرت أن ليس فقط روحى ، ولكن جسدى أيضا يذوب وهويتى تتحطم فى الضوء المنبعث من الصفحات .. الخ " . ويلاحظ كذلك أن هناك تأثيراً آخر يأتى بالتوازى وهو حبه لجنان ، هذه الفتاة ، زميلته ، التى كانت تحب شخصا آخر هو محمد الذى أيضا قرأ الكتاب كما قرأته جنان وأثر عليهما تأثيرا لا يقل عن التأثير الذى مارسه على عثمان .. وتتداخل المشاهد بشكل عجيب وغريب ولا مجال للتوسع فى ذلك الآن ، لأن الأهم من ذلك هو أن أستشهد بفقرة صغيرة تدل على أن الكتابة صار لها منطق آخر أشبه باللعب أو قل  كما أسلفنا إنه اللعب فى ذاته . تقول هذه الفقرة : " لو كانت جنان معى لكانت أقامت على الفور صداقة مع هذا المتحذلق ، وبدأت معه مزاحا ماهرًا، وتركتنى أنا لأفكر فى أن السبب الذى جعلنى أقع فى حبها كلية ليس فقط أنها جميلة جدا ، لا تقاوم ، غامضة جدا ، لكن لأنها كانت لتتحدث مع هذا الطفل بمنتهى السرعة " (ص290 ) أى أن الحديث مع الطفل بمنتهى السرعة يمكن أن يكون السبب الأول لحب عثمان لهذه الفتاة الجميلة جنان التى تذكرنا بالفرنسية لاماجا La Maga فى رواية " رايويلا " لخوليو كورتاثار .

       وفى رواية " القلعة البيضاء " نجد تقنية الشبيه نفسها ، التى تحدثنا عنها فيما سبق تتحول إلى لعبة . فالراوى الإيطالى فى معظم الأحيان هو نفسه الخوجة التركى   ( وكلمة الخوجة فى التركية تعنى المعلم ) ، لكننا فى أحيان أخرى نجد الإيطالى يساوره الشك فى هذا التطابق ، كما نقرأ فى السطور التالية : " أرادنى الخوجة الآن أن أقول ماذا أفعل حين أحل محله . كانت أعصابى منهكة للغاية من هذا الوضع الشاذ ، محاولا تصديق أننا غير متشابهين تماما ، وأن تلك البثور الملتهبة ليست سوى لدغة حشرة . لم يصل عقلى إلى أى شىء مطلقا " (ص124). وفى لحظة أخرى نجد ثورة عارمة على الشبه المزعوم بينه أو بينهما وبين السلطان ، وذلك عندما قال السلطان إنه قام بفعل طيب بهروبه ، لأنه على الرغم من أنه يجده مسليا إلا أنه نفد صبره تقريبا من وقاحته وفكر فى قتله . لم يكن يعرف عن أى منهما يتحدث السلطان أى عن الإيطالى أم عن الخوجة ؟ ويعلن واحد منهما عما قيل بشأن الشبه مع السلطان : " أنا لا أشبهه ، ولم أترك عقلى لأولئك السوفسطائيين الذين يفرقون بين " نحن " و"هم " كما كان يفعل " . وهكذا تتداخل الشخصيات وتتداخل المواقف فى لعبة جميلة محسوبة بدقة شديدة هى لعبة الفن الروائى فى هذه الأيام ، التى من المفروض أن نستوعبها وإن كان ليس من اللازم أن نكتب بها ، لأن كل مجتمع له ظروفه وشروطه التى تحدد وجهة الكتابة.

 
        http://www.scc.gov.eg/Let-stud-Mag/first-editi

الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييم

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 1820 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة consulthamadass

ساحة النقاش

الخبيرالدكتورحمادة صلاح صالح www.iraegypt.com

consulthamadass
خبير التقييم المعنمد للتقييم لدي البنك المركزى المصرى خبير الملكية الفكرية بوزارة العدل للمحاكم الاقتصادية المتخصصة خبير تقييم الأثر البيئى للمشروعات وتقييم دراسات الجدوى خبيرتقييم معتمد لدى وزارة اﻻستثمار رئيس الهيئة الادارية والاقتصادية بالمجلس العربي الافريقي للتكامل والتنمية ونائب الرئيس للشئون الاقتصادية بالمجلس خبير تقييم دراسات الجدوى خبير وعضو المجلس »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

679,763