موقع الخبيرالدكتور / حمادة صلاح صالح صاحب بيت الخبرة الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييمالمعتمد للتقييم بالبنك المركزي

موقع متميز لفرادة التخصص فى التقييم وكافة الخدمات اﻻستشارية للبنوك والشركات والبيع بالمزاد العلنى

 

<!-- MSTableType="layout" -->
<!-- MSCellType="ContentHead" -->
<!-- MSCellType="ContentBody" -->  

في البداية كانت الحكاية

الحكاية هي الجدة العجوز لكل الأنواع السردية ، ومن ثم نجدها تحمل في أحشائها بذورا تصلح كل منها نواة لفرع من فروع السرد ، بل تصلح نواة لفروع أدبية أخرى غير سردية، وإذا كانت ألف ليلة وليلة أكبر منجم سردي للحكايات في العالم فإن حكاية حلاق بغداد تـعـد من أجمـل ما في ألف ليلـة من حكايات ، ففيها بذور الملهاة وفيها بذرة القصة القصيرة ،وقد أبدع الراوي في رسم مواقفها وشخصياتها وإدارة الحوار والمقدمة والعقدة والحل ، فلو أنها اقتطعت من سياقها وأحدث فيها تعديل طفيف لصلحت أن تكون مسرحية هزلية ،أو قصة قصيرة حديثة .

<!-- MSCellType="ContentBody2" --> <!-- MSCellFormattingTableID="4" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

 
<!-- MSCellType="ContentBody2" -->  
<!-- MSCellType="ContentBody" -->

هذه الحكاية جاءت في أحداث الليلة الثامنة والعشرين والليلة التاسعة والعشرين والليلة الثلاثين  باعتبارها فرعا من شجرة حكائية أكبر هي حكاية الخياط والإحدب واليهودي والمباشر والنصراني، وتحكى هذه الحكايات على أنها رويت على أسماع ملك الصين ،وطلب من كل واحد من الحاضرين في مجلس الملك أن يحكي حكاية أعجب من حكاية الأحدب الذي اتهم الحاضرون بقتله وإلا فسوف يقطع الملك رأسه ، وحكى كل واحد حكايته ، وجاء دور الخياط ،فحكى هذه الحكاية التي أعجبت الملك وكانت سببا في نجاته ونجاة أصحابه .

بناء الحكاية.

من الطرق المعتمدة في وصف التركيب الحكائي أن يحلل النص أفقيا ورأسيا ، ويتم تحليل التركيب الأفقي عن طريق تلخيص كل مفصل من المفاصل السردية في جملة واحدة أو أكثر، ثم يتم ترتيب الجمل حسب الترتيب السردي أي حسب ذكر الراوي لها في صلب الحكاية المسجلة على الورق.

وبعد الفراغ من ذلك يتم ترتيب هذه الجمل نفسها على أساس الترتيب الزماني لوقوع الأحداث وليس في السرد نفسه ، بحيث يأتي الصبح ثم الظهر ثم العصر ، أو السبت ثم الأحد ثم الاثنين ، وهكذا ، ومن خلال الموازنة بين الترتيبين يتضح اتجاه السرد وسرعته وكثافته والفراغات التي تتخلله , هذا عن التحليل الأفقي للحكاية .

أما التحليل الرأسي فيعتمد على رصد المنحنيات التي تنحرف عن الخط المستقيم للحكي ، سواء أكان ذلك على مستوى القول أم على مستوى الأفعال ، ويمكن رصد هذه الظاهرة من خلال الموازنة أيضا بين التلخيص المباشر للهيكل العظمي للحكاية ، وبين الحكاية المسرودة بلسان الراوي ، عندئذ تظهر الحيل الفنية والأساليب الأدبية ،ومقدار الخيال والإيقاع السردي.

أولا: التحليل الأفقي للحكاية .

يأتي الترتيب السردي على النحو التالي.

1-الراوي(الخياط) في حضرة ملك الصين يروي له كيف عرف حكاية الحلاق كما يلي:

2-أنه كان في وليمة لأحد أرباب الصنائع يجلس فيها عدد من أصحاب الحرف ، ولما حضر الطعام دخل صاحب الدار ومعه شاب جميل المظهر والثياب من أهل بغداد فلما لمح الشاب الحلاق يجلس على المائدة هم بالانصراف ،فأمسك به الجالسون وحلف عليه صاحب الدار وسألوه عن سبب انصرافه عن الطعام فأخبرهم أن السبب وجود هذا الحلاق.

3-الشاب يقص على الجالسين في الوليمة حكايته مع الحلاق على النحو التالي :

4-أنه الابن الوحيد لأحد كبار تجار بغداد ، وأنه كان عازفا عن النساء بعدما مات أبوه ، إلى أن ساقته الظروف إلى أحد أزقة المدينة يوما فرأي فتاة جميلة تسقى الزرع في حديقة بيتها فوقع في غرامها , ولم يعرف من هي.

5- بعد عودته إلى بيته مرض بداء الحب ، وأصبح طريح الفراش .

6- تأتيه عجوز فتعرف داءه وتخبره أن الفتاة بنت قاضي بغداد وتصف له أسرار حياتها في بيتها .

7- تحتال العجوز بعد جهد في تدبير لقاء سري بين العاشقين في بيت القاضي عند انشغال القاضي وسائر الناس بصلاة الجمعة.

8- قبيل صلاة الجمعة يتأهب الشاب للقاء الفتاة فيحضر الحلاق ليقص شعر رأسه .

9- يستغرق الحلاق وقتا طويلا يستغل أكثره في إشباع شهوته في التحدث والفضول مما يجعل الوقت يشارف على الانتهاء.

10- يدخل الشاب بيت القاضي في الوقت الذي انتهت فيه الصلاة فيفاجأ بأن الحلاق يتبعه .

11- الحلاق بحسن نية يكون سببا في فضيحة مدوية للشاب والقاضي وابنته.

12- يحاول الشاب التخفي في صندوق لكن الحلاق حرصا منه على نجاة سيده يفضحه مما يجعل الشاب يقفز محاولا الهرب فتنكسر رجله.

13- يقسم الشاب بعدها أنه لا يقيم في بلد يسكن فيه هذا الحلاق أبدا فيسافر في بلاد الله هربا من هذا الحلاق.

14- وها هو الآن يفاجأ حتى بعد أن بلغ الصين أن الحلاق أمامه.

وعند الموازنة  بين اتجاه السرد واتجاه الأحداث نجد :

أولا:أن رقم(1) ليس من صلب الحكاية الأصلية بل هو عبارة عن دهليز أو مدخل لربط الحكاية بشجرة الحكي الكلية في الليالي ، وفي الوقت نفسه يؤدي وظيفة سردية خاصة تتعلق بالإيهام بصدق الوقائع ، فهو مثل السند في رواية الأخبار ، التي هي أصل التاريخي للحكاية .

ثانيا :أن رقم (2) رغم أنه في بداية السرد إلا أنه زمانيا يقع في آخر القصة ،لأنه هو نفسه رقم (14)مما يجعل السرد يشبه الحلقة التي يلتقي طرفاها .

ثالثا :نجد أن عنصرا واحدا من عناصر الحكاية يستغرق حوالي نصف السرد رغم أنه زمانيا لا يستغرق إلا جزءا من الساعة ،فلو قدرنا الفترة التي استغرقها الحكي من بداية تعرف الشاب على الفتاة حتى وقوع الفضيحة بستة أشهر مثلا ، هذه الفترة حكيت سردا في 180 سطرا (الطبعة الأولى لليالي بولاق سنة 1252هـ) بينما نجد الفترة التي بدأ الحلاق فيها عمله قبيل آذان الجمعة إلى تمكن الشاب من التخلص منه قرب انتهاء الصلاة أي حوالي ثلاثة أرباع الساعة تستغرق 94سطرا من هذه السطور ،أي أن ستة أشعر =86 سطرا ،45دقيقة =94سطرا، وهذا يدل على أن سرعة السرد لا تطرد مع سرعة الوقت بل مع الزمان النفسي للتجربة السردية للراوي-ومن ثم المتلقي.

رابعا: أن هناك حلقات مفقودة من السرد مقدرة في الحكاية ،فالرواي أحيانا يعنى بالتفاصيل الدقيقة واحيانا أخرى يهمل أحداثا كثيرة ، فهو مثلا يلتقط كل حركة من حركات يدي الحلاق وهو يفك منديله ببطء ليخرج منه الإصطرلاب ويرصد حركة رأسه وهو ينظر إلى الشمس في وسط الدار ،بينما لا يذكر شيئا عن سائر المدينة التي تقع فيها الأحداث، ولا عن أهلها ،هو فقط يلتقط ما يبني عناصر العجب والمفارقة في الحكي فقط.

ثانيا:التحليل الرأسي.

ويمكن أن نطلق على هذا الجانب من التحليل اسم"بلاغة السرد"لأنه يتعلق بالأسلوب الذي يستخدمه الراوي في القص ، من حيث المقامات السردية والقرائن والتحفيز وغيرها ،وأقصد بالمقامات ههنا الأوضاع التي تقدر من خلالها درجة السواء أو الانحراف في الحدث ،فمثلا الفقرات التي يذكر فيها الشاب أن والده من أكابر تجار بغداد ، وأنه لم يرزقه الله بولد غيره ، وأنه توفي وترك له مالا كثيرا وحشما وخدما ، كل هذه الفقرات ليست من صلب الحكاية ، لكنها كانت عاملا في كون الفضيحة التي حدثت له أشد وقعا عليه وعلى المتلقي ، لأنه لو كان رجلا من السوقة لما كان للحكاية هذا الوقع العجب، وبالمثل فإن تحديد الفتاة للقاء بوقت صلاة الجمعة، يعد مقاما زمانيا لحركات الحلاق وأقواله التي تنتمي إلى مقام مناقض ، فلو جعل الراوي الفتى يستعين مثلا بطبيب لعلاجه أو بخياط أو غير ذلك لما كان للحكاية هذه المفارقة الشائقة ، ليس لأن الحلاق هو الذي يطلب في مثل هذا الموقف ولكن لأن الصورة الجاهزة المرسومة في الذاكرة الجمعية للحلاق في المجتمع الشرقي تعد مقاما جاهزا لصناعة هذه المفارقة .

أما القرائن فهي العناصر السردية الفائضة أو الزائدة التي تحدد الإشارة للدلالات ،وبخاصة الدلالات الدقيقة التي تودي إلى حبك الحكاية أو التي تكشف عن النوازع النفسية الدفينة ، فمثلا عندما يحكي الراوي(الشاب)عن الحلاق وكيف قابله أول مرة يقول:

"فلما دخل سلم علي ،فرددت عليه السلام .

فقال: أذهب الله غمك وهمك والبؤس والأحزان .

فقلت :تقبل الله منك .

فقال: أبشر ياسيدي فقد جاءتك العافية ، تريد تقصير شعرك أو إخراج دم ؟ فإنه ورد عن ابن عباس أنه قال من قصر شعره يوم الجمعة صرف الله عنه سبعين داء ، وروي عنه أيضا أنه قال : من احتجم يوم الجمعة لا يأمن ذهاب البصر وكثرة المرض ."(ج1ص89،ص:90)

هذا الحوار به إشارات كثيرة تعد بمثابة القرائن في توجيه الدلالات ، فالحلاق هنا يقوم بدور الحلاق والطبيب والواعظ ، كما أن الكلمات التي تفوه بها تعادل ثلاثة أضعاف ما تكلم به الشاب ، ثم كان هو البادئ بالكلام ولم ينتظر حتى يطلب منه ما استدعي من أجله ،كل هذه الدلالات لا يؤديها الكلام بل قرائن الخطاب .

وأما التحفيز الذي ينشأ من المبالغة في الأوصاف المتقابلة ، ومن تسمية الأشياء بنقيض ما تدل عليه فهو ناشئ من الخلل الثقافي والاجتماعي والفكري في المجتمع ، هذا الخلل هو الذي يولد المفارقة في القص ويؤدي إلى الفساد في اللغة ،مما يجعل أفراد المجتمع كالإبر المغناطيسية المنحرفة عن الاتجاهات ، مثال ذلك أن الشاب المتعجل لأمره والخائف من فوات الوقت يقول للحلاق :"دع عنك هذا الهذيان وقم في هذه الساعة احلق لي رأسي فإني رجل ضعيف ، فقام ومد يده واخرج منديلا وفتحه وإذا فيه إصطرلاب وهو سبع صفائح فأخذه ومضى إلى وسط الدار ورفع رأسه إلى شعاع الشمس ونظر مليا وقال لي :اعلم أنه مضى من يومنا هذا وهو يوم الجمعة وهو عاشر صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وطالعه بمقتضى ما أوجبه علم الحساب المريخ سبع درج وستة دقائق واتفق أنه قارنه عطارد وذلك يدل على أن حبق الشعر جيد جدا وأدل عندي على أنك تريد الأفضال على شخص وهو مسعود لكن كلام يقع وشيء لا أذكره لك ، فقلت له والله لقد أضجرتني وأزهقت روحي وفولت علي ، وأنا ما طلبتك إلا لتحلق رأسي فقم واحلق رأسي ولا تطل علي الكلام ، فقال والله لو علمت حقبقة الأمر لطلبت مني زيادة البيان ، وأنا أشور عليك أنك تعمل اليوم بالذي آمرك به بمقتضي حساب الكواكب وكان سبيلك أن تحمد الله ولا تخالفني ، فإني ناصح لك وشفيق عليك وأود أن أكون في خدمتك سنة كاملة وتقوم بحقي ولا أريد منك أجرة على ذلك ، فلما سمعت ذلك منه قلت له إنك قاتلي في هذا اليوم ولا محالة ،فقال ياسيدي :أنا الذي تسميني الناس الصامت  لقلة كلامي دون إخوتي لأن أخي الكبير اسمه البقبوق والثاني الهدار والثالث بقبق والرابعاسمه الكوز الأصواني والخامس اسمه العشار والسادس اسمه شقالق والسابع اسمه الصامت وهو أنا ، فلما زاد علي هذا المزين بالكلام رأيت أن مرارتي انفطرت وقلت للغلام اعطه ربع دينار وخله ينصرف عني لوجه الله فلا حاجة لي في حلاقة رأسي ،فقال هذا المزين حين سمع كلامي مع الغلام :أي شيء هذا المقال يامولاي والله لا آخذ منك أجرة حتى أخدمك ولا بد من خدمتك ، فإنه واجب علي خدمتك وقضاء حاجتك "(ص90)

إن دراسة هذا المستوى الأفقي تكشف عدة أبعاد في السرد ، فهي تكشف أولا الاعتماد على المبالغة في حدة المفارقة ،كما تكشف عن أبعاد أخرى تتعلق بالفوارق بين الطبقة التي ينتمي إليها الحلاق والطبقة الاجتماعية العليا التي ينتمي إليها كل من الشاب والقاضي.

الحلاق بوصفه نموذجا بشريا.

حلاق بغداد شخصية خيالية من صنع الراوي (شهرزاد)في الف ليلة وليلة ، لكنه أكثر حيوية من كثير من الناس الحقيقيين في الحياة المعيشة ، بل إنه قد حظي بشهرة أوسع مما حظي به كثير من الزعماء والأبطال الفاتحين ، لأنه نموذج إنساني يعبر عن حالات مشابهه في كل بيئة وفي كل عصر ، ولا يقل في هذه الناحية عن هاملت الذي صنعه شكسبير أو فاوست الذي صنعه الكاتب الألماني جوته ، أودون كيشوت الذي صنعه الكاتب الإسباني سرفانتس ، أو غيرهم .

حلاق بغداد رجل طيب القلب ، مثل كثير من الناس في الطبقة الدنيا في المجتمع ،ومشكلته لا تتمثل في الفقر وحده بل في أنه محروم من التعاطف ،يشعر بالحاجة الماسة إلى التلاحم مع الناس ، إلى درجة  تكاد تصل إلى حد الجوع العاطفي ، إنه يريد أن يتحدث إلى الناس ويستمعون إليه بأي شكل ، يريد أن يخدمهم ولو بغير مقابل أن يتفاعل معهم ، لكن الناس لا يصغون إليه ، ولا يرغبون في خدماته إذا كانت سوف  تصدع رؤوسهم بالثرثرة ،إنه يشبه "أيونا بوتابوف" في قصة " شقاء " للكاتب الروسي إنطوان تشيكوف ، عندما يحاول  أن يجد ولو واحدا من البشر يتحدث إليه  ويبثه شكواه في مدينة بطرسبورج كلها فلا يجد ، بل يقابل بالسخرية  والصدود بل الإهانات  في كل مرة يحاول فيها إقامة هذا التواصل ، لكن حلاق بغداد ليس مهزوما أو انطوائيا  يكتفي بأن يبث شكواه في نهاية المطاف إلى حيوان كما فعل أيونا بوتابوف مع مهرته ، وكما هو الحال في كثير من شخصيات تشيكوف، بل هو إيجابي انبساطي بل ثوري أحيانا، فإذا كان الناس لا يرغبون في الاستماع إليه فإن ذلك لا يمنعه من الحديث إليهم شاءوا أم أبوا ، فإذا كانوا هم لا يريدون الاستماع فهو يريد التحدث، ولأنه يرى أن  نصحهم واجب عليه ،ذذ وآداء الواجب  وعمل المعروف في الناس لا يحتاج إلى موافقتهم ،كما أن إيجابيته هذه تدفعه إلى أن يعاون الناس وينصحهم حتى في أخص خصوصياتهم  التي يكتمونها  ولا يرغبون أن يطلع عليها أحد .

وهنا يتطرق إلى الذهن سؤال مهم هو : كيف استطاع ذلك الراوي العبقري المجهول الذي ابتدع شخصية "حلاق بغداد" أن يصنع منها نموذجا له مثل هذا التأثير الكبير في الآداب العالمية والعربية ،فالكاتب الفرنسي كاردون دي بومارشيه (1732-1799) يعيد الحياة لحلاق بغداد, من خلال مسرحيته الشهيرة "حلاق أشبيليا "1775 ومسرحيته" زواج فيجارو"1781م، و وضع الملحن الإيطالي جواكينو روسيني أوبرا " حلاق أشبيلية"  في أوائل القرن التاسع عشر، وفي البلاد العربية أعد  فيلم "حلاق بغداد " بطولة إسماعيل ياسين ، وفيلم " حلاق بغداد " لفؤاد هادي في العراق ، ومسرحية "حلاق بغداد " لألفريد فرج في مصر ، ومسرحية "حلاق بغداد" لتامر العربيد في سوريا ، وغيرها من الأعمال الأدبية والفنية في كل أنحاء العالم.

إن هذه الشخصية قد حظيت بهذه المكانة لأنها تتميزبـما يلي:

 أولا :بالواقعية ،فهي لا تتلبس بحكايات الجن والسحرة والأفعال الخارقة كما هو الشأن مع أكثر شخصيات ألف ليلة وليلة ، بل ترتبط جميع أفعالها بأرض الواقع ، وتتصل اتصالا مباشرا بالبشر في الحياة المعيشة .

ثانيا : أغلب الظن أن هذه الحكاية التي ورد فيها ذكر "حلاق بغداد"قد أضيفت إلى ألف ليلة أو صيغت في صورتها النهائية التي نعرفها اليوم حوالي سنة ثلاث وستين وسبعمائة من الهجرة (1361م) أو بعدها بقليل فقد ورد في صلب الحكاية أن الحلاق عندما شرع في حلاقة رأس سيده الشاب أخرج منديلا وفتحه وأخرج منه اصطرلابا ومضى إلى وسط الدار ورفع راسه إلى شعاع الشمس ونظر مليا وقال موجها كلامه للشاب :" اعلم أنه مضى من يومنا هذا وهو يوم الجمعة وهو عاشر صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، وطالعه بمقتضى ماأوجبه علم الحساب المريخ سبع درج وستة دقائق واتفق أنه قارنه عطارد وذلك يدل إن حلق الشعر جيد جدا

وأغلب الظن أيضا أن هذه الإضافة أو هذه الصياغة كانت في مصر ، فالفترة التي ذكرها الحلاق  أي النصف الثاني من القرن الثامن الهجري كانت العلاقة بين الطبقات الشعبية والطبقة الأرستقراطية فيها قد وصلت إلى أوج حدتها ، يظهر ذلك في الحكايات  الشعبية التي تسخر من سذاجة الطبقة الأرستقراطية الريفية ممثلة في شخصية العمدة عندما يذهب إلى المدينة فيقع ضحية للمحتالين ، أو من سذاجة رجال الطبقة المترفة في المدن عندما يقعون فريسة لهؤلاء المحتالين من أبناء الطبقات الشعبية الفقيرة.

والملامح النفسية للشخصية التي رسمها الراوي لحلاق بغداد ملامح مصرية رغم أن الأحداث تروى على أنها حدثت في بغداد ،لأنها صناعة مصرية،  وهي ليست ملامح ذاتية لذات خاصة بل هي ملامح نموذج بشري لطبقة اجتماعية حقيقية ،أو طائفة من هذ الطبقة ،فإذا كانت البيئة العراقية قد أفرزت نموذج المحتال في فن المقامات في الأدب الفصيح فإن البيئة المصرية قد أفرزت نظائر له ومنها الحلاق الثرثار في الأدب العامي، ونموذج العمدة ،ونموذج قراقوش أي أن حلاق بغداد له منابع وأبعاد اجتماعية، لأن النموذج في حقيقته عبارة عن شخصية حائرة موجودة بين الناس ، يتعاملون مع نظائر لها في حياتهم اليومية ،لكنها تنتظر من يكتشفها ويحدد معالمها ، عندئذ تتحول إلى دائرة الوعي ،وقد يقوم بهذا الدور شاعر أو رسام أو قصاص ، وقد يتعاون الناس في رسم صورة لها من خلال المأثورات الشعبية ،وعندما يتجسم هذا النموذج في شكل فني يصبح مشعا بالدلالات المتعددة .

ثالثا :أنها شخصية مشعة بالدلالات ، حمالة أوجه ، ففي الحكاية التي وردت فيها يمكن أن تكون رمزا للثورة الاجتماعية ضد الطبقة العليا في المجتمع ، ويمكن أن تكون سخرية ممن تجاوز صفات الذوق السليم ، ويمكن أن تكون نموذجا لاختلاف الطبائع وهكذا .

الحلاق شخصية درامية.

تصور الحكاية الجانب الآخر الذي يتعامل معه الحلاق على أنه ينتمي إلى الطبقة العليا في المجتمع ، وهي طبقة يحمل أبناؤها قيما تتناقض مع القيم التي يعتنقها حلاق بغداد وطبقته تناقضا صارخا ،فهي لا ترى مايقوم الحلاق من رغبة في التواصل شكلا من أشكال التلاحم الإنساني، بل تراه ثرثرة  وتطفلا ، وبخاصة مع أبناء الطبقة الدنيا التي ينتمي إليها الحلاق ، فعلى الرغم من أن هذه الطبقة العليا لا تستغني عن خدمات الحلاقين والنجارين والبزارين، ولا تستطيع الحياة من غيرهم فإنها لا تطيق التواصل معهم يهذا الشكل.ومن ثم كان هناك تناقض حاد بين القيم التي تتحلى بها الطبقة الدنيا والقيم التي تتحلى بها الطبقة العليا ، رغم أنهما في مكان واحد وفي زمان واحد، وهنا تكمن المفارقة ،فالشخصية الأولى التي تمثل هذه الطبقة في الحكايةهي شخصية الشاب العاشق ، وهوشاب جميل المظهر نظيف الملبس لم يذكر لنا الراوي اسمه كما هو الشأن مع سائر شخصيات الحكاية ، هو فقط ابن أحد كبار تجار بغداد وأكثرهم ثراء ، وكان أبوه قد مات ولم ينجب سواه فورث ثروته أي أنه لايعمل ، أما الشخصية الثانية في هذه الطبقة فهي قاضي بغداد، وهو كما تدل وظيفته من أعيان بغداد ، ثم ابنته  الفتاة المعشوقة ، هذه الطبقة العليا تقوم بين أفرادها علاقات فاسدة وتعتمد على قيم منهارة مثل السرية في التعامب والنفاق ، فالفتى يتواعد مع ابنة القاضي للتلاقي سرا في وقت صلاة الجمعة ، وكان يمكنه التقدم لزواجها جهرا ، وبيت القاضي الذي من المفترض أن يكون دارا للعدل أصبح مهيأ للفسق، والقاضي نفسه رجل قاس يضرب مخدوميه بلا شفقة لم تمنعه صلاته من أن يضرب مخدوميه ضربا يظن من هو خارج المنزل أن أحد الناس قد مات من شدة الصياح ، وبهذا يكون المشد الدرامي مهيأ من خلال اللقاء بين هذين الجانبين من القيم .

بالإضافة إلى ذلك فإن الحادثة التي اعتمدت عليها الحكاية تزيد من درامية المواقف، إذ يتهيأ الشاب العاشق للقاء محبوبته قبيل صلاة الجمعة بوقت قصير، فيرسل أحد غلمانه إلى السوق ليأتي له بحلاق يقص شعر رأسه ، وقد أوصي الخادم بأن ينتقي له حلاقا عاقلا قليل الكلام والفضول ، فيأتى له بهذا الحلاق .

ويبدأ الحلاق في ممارسة عمله ، الشاب متعجل لأن الوقت يلاحقه لأنه يقترب من الخطر مع مرور كل لحظة ،والحلاق مشتاق للتنفيس عما يشعر به من رغبة في التواصل والمشاركة  عن طريق الحكي، وينتصر الحلاق لأن رغبته في التواصل أقوى من إحساس العاشق بمرور الوقت ، ويظل يحكي ويحكي ويحكي، وكلما مر الوقت زاد العاشق توترا وضيقا ، لكن الحلاق لا يعبأ به ويظل يحكي ، حتى يقترب الوقت من الانتهاء ،وعندما أحس الحلاق بتوتره واستعجاله أخذ يلاحقه بالأسئلة عن سبب توتره واستعجاله ، حتى استشف مقصده ، وأخيرا استطاع الشاب العاشق أن يحتال كي ينجو من بين براثن الحلاق، فانطلق من فوره إلى بيت القاضي ، وهنا تحدث الفاجعة.

إذ وصل الشاب إلى بيت القاضي في الوقت الذي أعلن فيه على المنارات بانتهاء الصلاة ، وفوجئ الشاب بالحلاق خلفه ، ووجد الشاب باب البيت مفتوحا فدخل ، وعاد القاضي من الصلاة ودخل بيته وأغلق الباب خلفه، لكن فجأة ارتفع صياح وعويل من داخل البيت ، إذ كان القاضي يضرب جارية له على خطأ حدث منها فتدخل عبد لينقذها منه فضربه أيضا، وإذا بالحلاق خارج البيت يصيح بأعلى صوته ويحثو التراب فوق راسه ويمزق ثوبه ويصرخ ويستغيث بالناس قائلا: قتل سيدي في بيت القاضي ، وعلى الفور ذهب إلى بيت الشاب وجمع خلقا كثيرا وهم يصيحون: قتل القاضي سيدنا داخل بيته ، فخرج القاضي فزعا ، فعلم من الحلاق كل شيء ، لكن الشاب حاول الاختباء في صندوق فما كان من الحلاق إلا أن عثر عليه فقفز الشاب من مكان عال فكسرت رجله ونجا بنفسه وهرب.

هكذا نرى أن الحكاية بهذا الشكل تتوافر فيها أكثر عناصر الدراما ، فالحادثة درامية تعتمد على المفارقة الحادة بين موقفين متناقضين ، موقف الحلاق الفضولي الثرثار وموقف العاشق المتعجل ،كما أنها تحتوي على ثلاثة مراحل تشبه الفصول المسرحية : مقدمة نعرف فيها بداية تعرف الشاب على ابنة القاضي وعشقه لها ، ثم المشهد  الرئيسي ويتم هذا المشهد في حجرة من حجرات بيت الشاب وفيه يحدث الصراع الحاد بين الحلاق والشاب ، ويعمل الزماني الدرامي عمله في توتر الحدث وتشويقه ، ثم المشهد الأخير ويقع في بيت القاضي حيث تقع الكارثة.

ومن خلال تطور الأحداث وتنامي الحوار نلمس العمق النفسي لكل من الشاب والحلاق مع كل لحظة ومع كل جملة من الحوار ، ونلمح الروح الكوميدية في التعامل مع الزمان والأحداث ، والتشويق الناشئ من حالة التوتر والقلق من وقوع المأساة المرتقبة .

الحلاق بوصفه مصلحا .

 تحتوي حكاية حلاق بغداد على ثلاث رؤي، أولها الرؤية التي يحملها الحلاق ،والثانية رؤية الشاب الثري ، والثالثة رؤية السارد، أما رؤية الحلاق فهي شعبية جماعية تعتمد على الإيقاع البطيء والتوسل بالحكم والمأثورات الدينية ، وتعتمد على استدعاء الروابط الأسرية و الذكريات وتقديم الخدمات بدون مقابل من أجل الاحتفاظ بالتواصل الإنساني مع الآخرين فقط ، فهي رؤية إنسانية رغم ما فيها من مبالغة ، أما رؤية الشاب فهي فردية قوامها البحث عن المتعة الشخصية بأي ثمن ، أما رؤية السارد فهي مثل سائر القصص الشعبي تسخر من نموذج (الصعلوك)أو (الفرفور) ومن سلوكه وفي الوقت نفسه  تتعاطف معه فلا تعاقبه مثلما عاقبت الشاب والقاضي وابنته ، فهو لم تكسر له رجل كما حدث مع الشاب ،بل كان هوالسبب في أن ينال عقابه العادل  بكسر رجله ، ولم ينله ما نال القاضي وابنته من الفضيحة بل كان هو السبب في فضح أمرهما  ، ولم يهرب بل يهرب منه ، لقد انتقم السارد من الطبقة العليا من خلال السخرية التي تشبه حكايات جحا وصور الحلاق على أنه القاضي الحقيقي ، دون أن يقصد الانتقام .

وقد أدرك الكاتب الفرنسي كارون دي بومارشيه (1775-1779) هذا الجانب الثوري الاجتماعي في شخصية حلاق بغداد ، فبعثه مرة أخري في شكل فني جديد من خلال مسرحيته الرائعة :"حلاق أشبيلية "(1775) ثم مسرحيته " زواج فيجارو"(1781) التي صودرت بسبب هجومها العنيف على الطبقة الأرستقراطية.

فقد اتخذ بومارشيه من شخصية "فيجارو" أي حلاق أشبيلية رمزا للشعب الثائر على العبودية ،إذ تدور أحداث المسرحية حول فتاة جميلة ثرية قاصر تسمى روزين (رمز فرنسا) يتولى الوصاية عليها طبيب أرستقراطي عجوز اسمه بارتلو(رمزطبقة الأشراف الأرستقراطية) هذا العجور يطمع في ثروة الفتاة وجمالها فيحبسها في منزله ويشيع كذبا أنها زوجته حتى لا يتقدم أحد لخطبتها ، لكن شابا اسمه الكونت "ألما فيفا" يتعرف على روزين من خلال وقوفها في الشرفة ، وهنا يظهر دور الحلاق الذكي الذي استطاع بدهائه وسعة حيلته أن ينكل بطبقة الأشراف ممثلة في بارتلو ويخلص الفتاة من براثن ذلك الوصي العجور بأساليب تشبه أساليب الفرفور في الأدب الشعبي المصري، وأن يجعل الحب هو الذي ينتصرفي النهاية حيث يتيح الفرصة لسيده الكونت "ألما فيفيا " أن يتزوج من الفتاة .وهكذا نرى أن الحلاق في كل من ألف ليلة وليلة ومسرحية حلاق أشبيلية يستخدم بوصفه أداة تفرزها الطبقة الشعبية لمقاومة طغيان الطبقات الأرستقراطية .

إن من يتأمل في شخصية حلاق بغداد من هذه الناحية يدرك أنه إنسان إيجابي متيقظ النفس لا يستطيع أن يسكت على ما يحدث أمامه ،وكل مشكلته أنه لا يوفق في الاهتداء إلى الطريقة المناسبة التي يستخدمها في الإصلاح.

نص حكاية حلاق بغداد كما ورد في ألف ليلة وليلة

فعند ذلك تقدم الخياط وقال: اعلم يا ملك الزمان أن الذي جرى لي أعجب مما جرى للجميع لأني كنت قبل أن أجتمع بالأحدب أول النهار في وليمة بعض أصحاب أرباب الصنائع من خياطين وبزازين ونجارين وغير ذلك، فلما طلعت الشمس حضر الطعام لنأكل، وإذا بصاحب الدار قد دخل علينا ومعه شاب وهو أحسن ما يكون من الجمال غير أنه أعرج فدخل علينا وسلم فقمنا، فلما أراد الجلوس رأى فينا إنساناً مزيناً فامتنع عن الجلوس وأراد أن يخرج من عندنا فمنعناه نحن وصاحب المنزل وشددنا عليه وحلف عليه صاحب المنزل وقال له: ما سبب دخولك وخروجك؟ فاقل: بالله يا مولاي لا تتعرض لي بشيء فإن سبب خروجي هذا المزين الذي هو قاعد. فلما سمع منه صاحب الدعوة هذا الكلام تعجب غاية العجب وقال: كيف يكون هذا الشاب من بغداد وتشوش خاطره من هذا المزين ثم التفتنا إليه وقلنا له: إحك لنا ما سبب غيظك من هذا المزين فقال الشاب: يا جماعة إنه جرى لي مع هذا المزين أمر عجيب في بغداد بلدي وكان هو سبب عرجي وكسر رجلي وحلفت أني ما بقيت قاعداً في مكان ولا أسكن في بلد هو ساكن بها وقد سافرت من بغداد ورحلت منها وسكنت في هذه المدينة وأنا الليلة لا أبيت إلا مسافر فقلنا: بالله عليك أن تحكي لنا حكايتك معه فاصفر لون المزين حين سألنا الشاب، ثم قال الشاب: اعلموا يا جماعة الخير أن والدي من أكابر تجار بغداد ولم يرزقها لله تعالى بولد غيري.

فلما كبرت وبلغت مبلغ الرجال توفي والدي إلى رحمة الله تعالى وخلف لي مالاً وخدماً وحشماً فصرت ألبس الملابس وآكل أحسن المآكل، وكان الله سبحانه وتعالى بغضني في النساء إلى أن كنت ماشياً يوماً من الأيام في أزقة بغداد وإذا بجماعة تعرضوا لي في الطريق فهربت ودخلت زقاقاً لا ينفذ وارتكنت في آخره على مصطبة فلم أقعد غير ساعة وإذا بطاقة قبالة المكان الذي أنا فيه فتحت وطلت منها صبية كالبدر في تمامه لم أر في عمري مثلها ولها زرع تسقيه وذلك الزرع تحت الطاقة فالتفتت يميناً وشملاً ثم قفلت الطاقة وغابت عن عيني. فانطلقت في قلبي النار واشتغل خاطري بهما وانقلب بغضي للنساء محبة فما زلت جالساً في المكان إلى المغرب وأنا غائب عن الدنيا من شدة الغرام وإذا بقاضي المدينة راكب وقدامه عبيد ووراءه خدم فنزل ودخل البيت الذي طلت منه تلك الصبية فعرفت أنه أبوها، ثم إني جئت منزلي وأنا مكروب ووقعت على الفراش مهموماً فدخلن علي جواري وقعدن حولي ولم يعرفن ما بي وأنا لم أبد لهن أمراً ولم أرد لخطابهن جواباً، وعظم مرضي فصارت الناس تعودني فدخلت علي عجوز فلما رأتني لم يخف عليها حالي، فقعدت عند رأسي ولاطفتني وقالت لي: قل لي خبرك؟ فحكيت لها حكايتي وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

و فى الليلة الثامنة والعشرون

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما حكى للعجوز حكايته قالت له: يا ولدي إن هذه بنت قاضي بغداد وعليها الحجر والموضع الذي رأيتها فيه هو طبقتها وأبوها له هالة في أسفل وهي وحدها وأنا كثيراً ما أدخل عندهم ولا تعرف وصالها إلا مني فشد حيلك فتجلدت وقويت نفسي حين سمعت حديثها وفرح أهلي في ذلك اليوم وأصبحت متماسك الأعضاء مرتجياً تمام الصحة، ثم مضت العجوز ورجعت ووجهها متغيراً فقالت: يا ولدي لا تسأل عما جرى منها، لما قلت لها ذلك فإنها قالت لي: إن لم تسكتي يا عجوز النحس عن هذا الكلام لأفعلن بك ما تستحقينه ولا بد أن أرجع إليها ثاني مرة. فلما سمعت ذلك منها ازددت مرضاً على مرضي، فلما كان بعد أيام أتت العجوز وقالت: يا ولدي أريد منك البشارة. فلما سمعت ذلك منها ردت روحي إلى جسمي وقلت لها: لك عندي كل خير فقالت: إني ذهبت بالأمس إلى تلك الصبية، فلما نظرتني وأنا منكسرة الخاطر باكية العين قالت: يا خالتي أراك ضيقة الصدر، فلما قالت لي ذلك بكيت وقلت لها: يا ابنتي وسيدتي إني أتيتك بالأمس من عند فتى يهواك وهو مشرف على الموت من أجلك فقالت لي وقد رق قلبها: ومن يكون هذا الفتى الذي تذكرينه؟ قلت: هو ولدي وثمرة فؤادي ورآك من الطاقة من أيام مضت وأنت تسقين زرعك ورأى وجهك فهام بك عشقاً وأنا أول مرة أعلمته بما جرى لي معك فزاد مرضه ولزم الوساد وما هو إلا ميت ولا محالة، فقالت وقد اصفر لونها: هل هذا كله من أجلي؟ قلت: إي والله فماذا تأمرين؟ قالت: أمضي إليه وأقرئيه مني السلام وأخبريه أن عندي أضعاف ما عنده فإذا كان يوم الجمعة قبل الصلاة يجيء إلى الدار وأنا أقول افتحوا له الباب وأطلعه عندي وأجتمع أنا وإياه ساعة ويرجع قبل مجيء والدي من الصلاة.

فلما سمعت كلام العجوز زال ما كنت أجده من الألم واستراح قلبي ودفعت إليها ما كان علي من الثياب وانصرفت وقالت لي: طيب قلبك فقلت لها: لم يبق في شيء من الألم وتباشر أهل بيتي وأصحابي بعافيتي، ولم أزل كذلك إلى يوم الجمعة وإذ بعجوز دخلت علي وسألتني عن حالي فأخبرتها أني بخير وعافية ثم لبست ثيابي وتعطرت ومكثت أنظر الناس يذهبون إلى الصلاة حتى أمضي إليها فقالت لي العجوز: إن معك الوقت اتساعاً زائداً فلو مضيت إلى الحمام وأزلت شعرك لا سيما من أثر المرض لكان في ذلك صلاحك، فقلت لها: إن هذا هو الرأي الصواب لكن أحلق رأسي أولاً، ثم أدخل الحمام فأرسلت إلى المزن ليحلق لي رأسي وقلت للغلام: امض إلى السوق وائتني بمزين يكون عاقلاً قليل الفضول لا يصدع رأسي بكثرة كلامه فمضى الغلام وأتى بهذا الشيخ فلما دخل سلم علي فرددت: عليك السلام فقال: أذهب الله غمك وهمك والبؤس والأحزان عنك. فقلت له: تقبل الله منك، فقال: أبشر يا سيدي فقد جاءتك العافية أتريد تقصير شعرك أو إخراج دم فإني رجل ضعيف فقام ومد يده وأخرج منديلاً وفتحه، وإذا فيه اصطرلاب وهو سبع صفائح فأخذه ومضى إلى وسط الدار ورفع رأسه إلى شعاع الشمس ونظر ملياً وقال لي: اعلم أنه مضى من يومنا هذا وهو يوم الجمعة، وهو عاشر صفر سنة ثلاث وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وطالعه بمقتضى ما أوجبه علم الحساب المريخ سبع درج وستة دقائق واتفق أنه يدل على أن حلق الشعر جيد جداً، ودل عندي على أنك تريد الإقبال على شخص وهو مسعود لكن بعده كلام يقع وشيء لا أذكره لك فقلت له وقد أضجرتني وأزهقت روحي وفولت علي، وأنا ما طلبتك إلا لتحلق رأسي ولا تطل علي الكلام فقال: لو علمت حقيقة الأمر لطلبت مني زيادة البيان وأنا أشير عليك أنك تعمل اليوم بالذي أمرك به، بمقتضى حساب الكواكب وكان سبيلك أن ولا تخافني، فإني ناصح لك وشفيق عليك وأود أن أكون في خدمتك سنة كاملة وتقوم بحقي ولا أريد منك أجرة على ذلك فلما سمعت ذلك منه قلت له: إنك قاتلي في هذا اليوم، ولا محالة وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرون

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال له: إنك قاتلي في هذا اليوم فقال: يا سيدي أنا الذي تسميني الناس الصامت لقلة كلامي دون إخوتي لأن أخي الكبير اسمه البقبوق والثاني الهدار والثالث بقبق والرابع اسمه الكوز الأصوني والخامس اسمعها العشار والسادس اسمه شقالق والسابع اسمه الصامت وهو أنا فلما زاد علي هذا المزين بالكلام رأيت أن مرارتي انفطرت، وقلت للغلام: أعطه ربع دينار وخله ينصرف عني لوجه الله، فلا حاجة إلى حلاقة رأسي، فقال المزين حين سمع كلامي مع الغلام: يا مولاي، ما أظنك تعرف بمنزلتي فإن يدي تقع رأس الملوك والأمراء والوزراء والحكماء والفضلاء، وفي مثلي قال الشاعر: جميع الصنائع مثل العقود وهذا المزين در السلـوك فيعلو على كل ذي حكـمة وتحت يديه رؤوس الملوك

فقلت: دع ما لا يعنيك فقد ضيقت صدري وأشلت خاطري فقال: أظنك مستعجلاً؟ فقلت له: نعم فقال: تمهل على نفسك، فإن العجلة من الشيطان وهي تورث الندامة والحرمان وقد قال عليه الصلاة والسلام: خير الأمور ما كان فيه تأن وأنا والله رأبني أمرك فأشتهي أن تعرفني ما الذي أنت مستعجل من أجله ولعله خير فإني أخشى أن يكون شيئاً غير ذلك وقد بقي من الوقت ثلاث ساعات ثم غضب ورمى الموس من يده وأخذ الاصطرلاب ومضى إلى الشمس ووقف حصة مديدة وعاد وقال: قد بقي لوقت الصلاة ثلاث ساعات لا تزيد ولا تنقص فقلت له: بالله عليك، اسكت عني فقد فتت كبدي فأخذ الموس وسنه كما فعل أولاً وحلق بعض رأسي وقال: أنا مهموم من عجلتك فلو أطلعتني على سببها لكان خيراً لك لأنك تعلم أن والدك ما كان يفعل شيئاً إلا بمشورتي. فلما علمت أن مالي منه خلاص قلت في نفسي قد جاء وقت الصلاة وأريد أن أمضي قبل أن تخرج الناس من الصلاة فإن تأخرت ساعة لا أدري أين السبيل إلى الدخول إليها فقلت: أوجز ودع عنك هذا الكلام والفضول فإني أريد أن أمضي إلى دعوة عند أصحابي. فلما سمع ذكر الدعوة قال: يومك يوم مبارك علي لقد كنت البارحة حلفت علي جماعة من أصدقائي ونسيت أن أجهز لهم شيئاً يأكلونه وفي هذه الساعة تذكرت ذلك وافضيحتاه منهم فقلت له: لا تهتم بهذا الأمر بعد تعريفك أنني اليوم في دعوة فكل ما في داري من طعام وشراب لك إن أنجزت أمري، وعجلت حلاقة رأسي فقال: جزاك الله خيراً صف لي ما عندك لأضيافي حتى أعرفه؟ فقلت: عندي خمسة أوان من الطعام وعشر دجاجات محمرات وخروف مشوي فقال: أحضرها لي حتى أنظرها فأحضرت له جميع ذلك فلما عاينه، قال: بقي لله درك ما كرم نفسك لكن بقي الشراب فقلت له: عندي قال: أحضره فأحضرته له، قال: لله درك ما أكرم نفسك لكن بقي البخور الطيب فأحضرت له درجاً فيه نداً وعوداً وعنبر ومسك يساوي خمسين ديناراً وكان الوقت قد ضاق حتى صار مثل صدري فقلت له: خذ هذا واحلق لي جميع رأسي بحياة محمد فقال المزين: والله ما آخذه حتى أرى جميع ما فيه. فأمرت الغلام ففتح له الدرج فرمى المزين الصطرلاب من يده وجلس على الأرض يقلب الطيب والبخور والعود الذي في الدرج حتى كادت روحي أن تفارق جسمي ثم تقدم وأخذ الموسى وحلق من رأسه شيئاً يسيراً وقال: والله يا ولدي ما أدري كيف أشكرك وأشكر والدك لن دعوتي اليوم كلها من بعض فضلك وإحسانك وليس عندي من يستحق ذلك وإنما عندي زيتون الحمامي وصليع الفسخاني وعوكل الفوال وعكرشة البقال، وحميد الزبال وعكارش اللبان، ولكل هؤلاء رقصة يرقصها فضحكت عن قلب مشحون بالغيظ وقلت له: أقض شغلي وأسير أنا في أمان الله تعالى وتمضي أنت إلى أصحابك فإنهم منتظرون قدومك، فقال: ما طلبت إلا أن أعاشك بهؤلاء القوام فإنهم من أولاد الناس الذين ما فيهم فضولي ولو رأيتهم مرة واحدة لتركت جميع أصحابك فقلت نعم الله سرورك بهم ولا بد أن أحضرهم عندي يوماً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثون

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال للمزين لا بد أن أحضر أصحابك عند يوماً فقال له: إذا أردت ذلك وقدمت دعوى أصحابك في هذا اليوم فاصبر حتى أمضي بهذا الإكرام الذي أكرمتني به وأدعه عند أصحابي يأكلون ويشربون ولا ينتظرون، ثم أعود إليك وأمضي معك إلى أصدقائك فليس بيني وبين أصدقائي حشمة تمنعني عن تركهم والعود إليك عاجلاً، وأمضي معك أينما توجهت فقلت: لا حول ولا قوة غلا بالله العلي العظيم امضي أنت إلى أصدقائي وأكون معهم في هذا اليوم فإنهم ينتظرون قدومي فقال المزين لأدعك تمضي وحدك، فقلت له: إن الموضع الذي أمضي إليه لا يقدر أحد أن يدخل فيه غيري، فقال: أظنك اليوم في ميعاد واحد وإلا كنت تأخذني معك وأنا أحق من جميع الناس وأساعدك على ما تريد فإني أخاف أن تدخل على امرأة أجنبية فتروح روحك فإن هذه مدينة بغداد لا يقدم أحد أن يعمل فيها شيئاً من هذه الأشياء لا سيما في مثل هذا اليوم وهذا ولي بغداد صار عظيم فقل: ويلك يا شيخ الشر أي شيء هذا الكلام الذي تقابلني به. فسكت سكوتا طويلاً وأدركنا وقت الصلاة وجاء وقت الخطبة وقد فرغ من حلق رأسي. فقلت له: أمضي إلى أصحابك بهذا الطعام والشراب وأنا أنتظرك حتى تمضي معي. ولم أزل أخادعه لعله يمضي، فقال لي إنك تخادعني وتمضي وحدك وترمي نفسك في مصيبة لا خلاص لك منها، فبالله لا تبرح حتى أعود إليك وأمضي معك حتى أعلم ما يتم من أمرك، فقلت له: نعم لا تبطئ علي فأخذ ما عطيته من الطعام والشراب وغيره وأخرج من عندي فسلمه إلى الحمال ليوصله إلى منزله وأخفى نفسه في بعض الأزقة ثم قمت من ساعتي وقد أعلنوا على المنارات بسلام الجمعة فلبست ثيابي وخرجت وحدي وأتيت إلى الزقاق ووقعت على البيت الذي رأيت فيه تلك الصبية وإذا بالمزين خلفي ولا أعلم به فوجدت الباب مفتوحاً فدخلت وإذا بصاحب الدار عاد إلى منزله من الصلاة ودخل القاعة وغلق الباب، فقلت من أين أعلم هذا الشيطان بي؟ فاتفق في هذه الساعة، لأمر يريده الله من هتك ستري أن صاحب الدار أذنبت جارية عنده فضربها فصاحت فدخل عنده عبد ليخلصها فضربه فصاح الآخر فاعتقد المزين أنه يضربني فصاح ومزق أثوابه وجثا التراب على رأسه وصار يصرخ ويستغيث والناس حوله وهو يقول قتل سيدي في بيت القاضي ثم مضى إلى داري وهو يصيح والناس خلفه وأعلم أهل بيتي وغلماني فما دريت إلا وهم قد أقبلوا يصيحون واسيداه كل هذا والمزين قدامهم وهو يمزق الثياب والناس معهم ولم يزالوا يصرخون وهو في أوائلهم يصرخ وهم يقولوا واقتيلاه وقد أقبلوا نحو الدار التي أنا فيها فلما سمع القاضي ذلك عظم عليه الأمر وقام وفتح الباب فرأى جمعاً عظيماً فبهت وقال: يا قوم ما القصة؟ فقال له الغلمان إنك قتلت سيدنا، فقال يا قوم وما الذي فعله سيدكم حتى أقتله، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القاضي قال للغلمان: وما الذي فعله سيدكم حتى أقتله وما لي لا أرى هذا المزين بين أيديكم، فقال له المزين: أنت ضربته في هذه الساعة بالمقارع وأنا أسمع صياحه، فقال القاضي، وما الذي فعله حتى أقتله ومن أدخله داري ومن أين جاء وإلى أين يقصد، فقال له الزين لا تكن شيخاً نحساً فأنا أعلم الحكاية وسبب دخوله دارك وحقيقة الأمر كله وبنتك تعشقه وهو يعشقها، فعلمت أنه قد دخل دارك وأمرت غلمانك فضربوه والله ما بيننا وبينك إلا الخليفة أو تخرج لنا سيدنا ليأخذه أهله ولا تحوجني إلى أن أدخل وأخرجه من عندكم وعجل أنت بإخراجه فالتجم القاضي عن الكلام وصار في غاية الخجل من الناس وقال للمزين: إن كنت صادقاً، فادخل أنت وأخرجه فنهض المزين ودخل الدار، فلما رأيت المزين أردت أن أهرب فلم أجد لي مهرباً غير أني رأيت في الطبقة التي أنا فيها صندوقاً فدخلت فيه ورددت الغطاء عليه وقطعت النفس، فدخل بسرعة ولم يلتفت إلى غير الجهة التي أنا فيها بل قصد الموضع الذي أنا فيه والتفت يميناً وشمالاً فلم يجد إلا الصندوق الذي أنا فيه فحمله على رأسه. فلما رأيته فعل ذلك غاب رشدي ثم مر مس

المصدر: حقوق الطبع محفوظة للمجلس الأعلى للثفافة 2010 - 2011 . All Rights Reserved © www.SCC.gov.eg 2010 - 2011 .
consulthamadass

الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييم

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 3140 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة consulthamadass

ساحة النقاش

الخبيرالدكتورحمادة صلاح صالح www.iraegypt.com

consulthamadass
خبير التقييم المعنمد للتقييم لدي البنك المركزى المصرى خبير الملكية الفكرية بوزارة العدل للمحاكم الاقتصادية المتخصصة خبير تقييم الأثر البيئى للمشروعات وتقييم دراسات الجدوى خبيرتقييم معتمد لدى وزارة اﻻستثمار رئيس الهيئة الادارية والاقتصادية بالمجلس العربي الافريقي للتكامل والتنمية ونائب الرئيس للشئون الاقتصادية بالمجلس خبير تقييم دراسات الجدوى خبير وعضو المجلس »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

679,795