موقع الخبيرالدكتور / حمادة صلاح صالح صاحب بيت الخبرة الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييمالمعتمد للتقييم بالبنك المركزي

موقع متميز لفرادة التخصص فى التقييم وكافة الخدمات اﻻستشارية للبنوك والشركات والبيع بالمزاد العلنى

 

<!-- MSTableType="layout" -->
<!-- MSCellType="ContentHead" -->
<!-- MSCellType="ContentBody" -->  

1-      رحلة الكتاب إلى أوروبا:

أيّا كان المقياس الذى يمكن أن يتخذه القارئ أو الدارس معيارا لعظمة عمل أدبى معين، فإن "ألف ليلة وليلة" سيظل فى الصدارة بين تلك الأعمال العالمية الكبيرة، ويتسع المجال الذى يضم قارئيه ليشمل الفيلسوف المتعمق، والمؤرخ المدقق، وعالم الاجتماع ، والباحث فى تطور اللغة، أو فى انتقال الأساطير، أو فى اختلاط تعاليم الديانات بعادات الشعوب، إلى جانب جمهور عريض لا يحد من طلاب التسلية والمتعة، وعشاق الرحلة فى عالم الجن والخيال، والانتقال الميسور فى المكان والزمان على أجنحة رخ "السندباد" أو أشعة مصباح "علاء الدين" أو الانغماس فى صفوف الذين يتبعون "على بابا" لاقتحام الكنز الدفين.

<!-- MSCellType="ContentBody2" --> <!-- MSCellFormattingTableID="3" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

<!-- MSCellType="ContentBody2" -->  
<!-- MSCellType="ContentBody2" -->  
<!-- MSCellType="ContentBody" -->

وكما عبر ناقد فرنسى، فإنه سوف يظل كتاب ألف ليلة وليلة "من خلال سحره ، الكتاب الوحيد فى الأدب العالمى – دون شك- الذى نرغب عندما ننتهى من قراءة صفحته الأخيرة أن نبدأ فيه من جديد، والذى يتميز بأنه أفضل نص يبلغ رسالة، دون أن يبدو عليه على الإطلاق أنه يريد ذلك"([1]).

لكن حظ الكتاب ذاته يشابه إلى حد كبير حظ كثير من أبطال حكاياته الذين حكم عليهم بأن يظلوا غرباء مغمورين فى مواطنهم ، فإذا ركبوا البحر تفتحت أمامهم سبل الشهرة والرزق والثراء، وأصبحت تتخطفهم العيون ويتنافس عليهم الملوك والأمراء ، هكذا أصبح "أبو صير" حلاق الإسكندرية الفقير و "أبو قير" صباغها المتعطل، صديقين مقربين لملك الروم، وهكذا أصبح "أبو محمد الكسلان" صبى البصرة الذى لا تعرفه غير حوائط بيته ولا يسمع إلا شتائم أمه، أغنى التجار فى بلاد الهند والسند، وهكذا أيضا أصبح هذا الكتاب المغمور "ألف ليلة وليلة" الذى لم يكن يقبل عليه إلا العامة فى موطنه، وينصرف عنه المعلمون لسهولته، ويؤثرون على قصصه قصص "مقامات الحريري" لأنها مليئة بالكلمات الصعبة التى لا تفهم، والتى تحتاج إلى الشروح والحواشى والتقارير وتصلح منهجا لتأديب الصبيان واستغراق فترة طويلة من شبابهم ، أو كتاب "كليلة ودمنة" لأن قصصه الغفل أتيح لها قلم من كبار أقلام العربية فى يد ابن المقفع ، أصبح هذا الكتاب المغمور عندما انتقل إلى أوروبا على يد "أنطون جالون" فى أوائل القرن الثامن عشر كتابا "تتخطفه القلوب والعيون " يبقى على مدى أكثر من ثلاثة قرون حتى الآن واحدا من أشهر ما فى المكتبة الأوروبية وأكثرها تناولا بالقراءة والدراسة والتحليل والتقليد والتأثير فى مجالات تتجاوز الأدب خاصة إلى الفن عامة، ثم إلى مجالات الحياة المختلفة. فكيف كانت هذه الرحلة، وما هى الخطوط العامة لهذا التأثير؟

إن هناك حقيقة تاريخية تقول: إن "ألف ليلة وليلة" طبعت باللغة الفرنسية قبل أن تطبع باللغة العربية بمائة وعشرة أعوام ، ذلك أن ترجمة أنطوان جالون قد ظهرت بدايتها فى سنة 1704 بباريس على حين أن طبعة "كلكتا" وهى طبعة عربية كانت فى عام 1814 وتلتها أول طبعة للكتاب داخل الوطن العربى نفسه فى "بولاق" بالقاهرة سنة 1835 أى بفارق مائة وإحدى وثلاثين سنة عن صدور الكتاب فى فرنسا ، وهو فارق زمنى ليس هين القيمة ولا قليل الأثر ، فلم يكن ذلك القرن كغيره فى تاريخ أوروبا ، بل كان القرن الثامن عشر "عصر التنوير" عصر "فولتير" 1694 – 1778 ، و "جان جاك روسو" 1712 – 1778 و "ديدور" 1713 – 1784، وفى الوقت ذاته كانت "ألف ليلة وليلة" فى موطنها الأصلى، روايات مشافهة متناثرة، أو مخطوطات مودعة فى خزائن الكتب العامة أو الخاصة أو فى دكاكين الوراقين.

و"أنطوان جالون" 1646 – 1715 أول من نقل "ألف ليلة وليلة" إلى أوروبا. كان سفيرا لفرنسا فى القسطنطينية، و"قارئ الملك" للآداب الشرقية، ولم تعرف أوروبا من قبله هذه "الليالى" إلا فيما يظن من نقل بعض التجار الإيطاليين العائدين من الشرق فى القرون الوسطى حكايات هذا العمل، وهو ظن مبعثه ظهور التكنيك الفنى القائم على فكرة وجود "قصة إطار" واسعة، تتخللها وتتداخل فيها قصص جزئية متلاحقة – وهو تكنيك ألف ليلة وليلة – فى بعض الأعمال الإيطالية.

وجاء "جالون" فدرس الآداب الشرقية فى باريس على يد "هوبرلوت"، صاحب أول دائرة معارف عن الشرق فى أوروبا، تلك الدائرة التى ظلت بالنسبة لكبار الأدباء الأوربيين منذ فولتيير حتى جوته وبايرون ونرفال: مرجعا أساسيا عن الشرق وحضاراته ودياناته ، والتى كان "جالون" نفسه هو الذى تولى إخراجها بعد موت أستاذه فرفعت اسميهما معا. عمل جالون سفيرا لفرنسا فى تركيا فى عهد لويس التاسع عشر ، وهناك أجاد التركية والفارسية والعربية، ورحل إلى جزر البحر المتوسط وسوريا وفلسطين ، وأقام بها نحو عامين وفى إحدى زياراته لمدينة حلب حمل معه مخطوطة لألف ليلة وليلة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادى ، وتتكون من ثلاثة أجزاء وتعد من أفضل مخطوطات "ألف ليلة وليلة" ، وما زالت محفوظة حتى الآن فى باريس فى المكتبة الوطنية تحت رقم: 3645.

وبدأت ترجمة "أنطوان جالون" لهذه المخطوطة تظهر ابتداء من سنة 1704. وخلال 1709 التقى جالون براهب مسيحى من حلب يسمى "حنا" كانت لديه مخطوطة تحتوى على أجزاء أخري من الليالى أهمها قصة "علاء الدين والمصباح السحري"، لكن الأكثر أهمية أن هذا الراهب كانت لدية حكايات شفوية دونها جالون عنه، وأصدرها فى أجزائه اللاحقة ، فأسهمت الطبعة الفرنسية بذلك فى تدوين ما لم يكن من قبل مدونا من هذا العمل الكبير ، ووصلت بذلك كله طبعة جالون إلى 12 مجلدا.

كيف استقبلت فرنسا ومن بعدها أوروبا "ألف ليلة وليلة":

لقد كان الاستيعاب والتمثل والتأثر أبعد كثيرا مما يظن للوهلة الأولى، ويمكن أن نشير هنا إلى مرحلتين متميزتين : مرحلة القرن الثامن عشر ، التى يمكن أن نطلق عليها مرحلة السريان والتأثر ، ثم مرحلة القرن التاسع عشر والقرن العشرين: مرحلة الدراسة والتحليل.

كان الناس ينتظرون مجلدات "ألف ليلة" بنفاد صبر، الواحد بعد الآخر، ويحدثنا جالون فى مذكراته عن نموذج بين نماذج، لقد التهم الأب "نيبوس" المجلد التاسع عند صدوره على ضوء شمعة فى عربة يجرها حصان من فرساى إلى باريس "وهى مسافة لا تتعدى خمسة عشر كيلو مترا".

وشاعت موجة لمحاكاة "ألف ليلة" تأليفا أو ترجمة ، ففى 1712 ترجم "بنى دى لاكروا" كتاب "ألف يوم ويوم" عن الفارسية، وبعدها أيضا كتب سنة 1714 "مغامرات عبد الله بن حنيف" ، وترجم "نيبون" فى نفس الفترة عن اللغة التترية ما أسماه "ألف ربع ساعة وربع". وشاعت موجة ترجمة القصص الشرقى المغولى والتترى والفارسى بحثا عن كنز دفين كالذي عثر عليه "أنطون جالون" وشاعت موجة محاكاتها من فولتير وديدور حتى الأدباء الناشئين.

على مستوى آخر من التأثير الذى أحدثته "ألف ليلة وليلة" فى الفكر الفرنسى ، بدأ الاهتمام بدراسة التاريخ والحضارة العربية والإسلامية وكتب لامار 1708 : "كنا نظن من قبل أن المجد التاريخى محصور فى الإغريق والرومان، لكن بعد أن قرأنا عن الشرق نستطيع أن نقول إن الرقى والعلم يوجدان فى كل مكان"([1]).

وامتد تأثير "ألف ليلة وليلة" إلى جوهر فكرة وفلسفة المجتمع الأوروبى فى ذلك القرن، يقول البروفسير جون لمبير: "إن شخصية شهرزاد أثرت تأثيرا حاسما فى تاريخ المرأة الأوروبية، وجعلت من القرن الثامن عشر أعظم القرون فى حياتها، وكان لجمالها وثقتها فى نفسها وتصديها وحدها لشهريار الذى عجز كل الرجال عن أن يوقفوه واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معا، كان لهذا كله أثر كبير فى تكوين شخصية المرأة الأوربية. ويضيف جون لمبير: "إن فكرة الحب فى أوربا لم تعد بعد ظهور "ألف ليلة وليلة" كما كانت قبلها، فلقد كان "ديكارت" منذ القرن السابع عشر، قد حول بفلسفته شعور الحب إلى شعور عقلى محسوب النتائج وكان "كورنى" قد أخضعه لفكرة التقاليد الكلاسيكية، وأصبح عند "راسين" لونا من الضعف ، لكن "ألف ليلة وليلة" جعلت الحب مصدر المتعة الحقيقى، حيث يبدو القانون الطبيعى سيدا يعلو على كل الحواجز والنصائح التى تحول بين الكائن البشرى وبين تحقيق ذاته"([2]).

كانت ترجمة "جالون" هى التى فتحت الباب لمعرفة "ألف ليلة وليلة" فى فرنسا، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الترجمة لم تكن ترجمة حرفية للمخطوطة التى عثر عليها "جالون" فى حلب، بقدر ما كانت "فرنسة" لحكايات هذه المخطوطة ولغيرها مما أضافها إليها فيما بعد، وهو تصرف لا يعنى الخروج على الأصل بقدر ما يعنى النجاح فى العثور على لون الأسلوب الذى يصل قارئه بالنبع السحرى لهذه الحكايات، وتوالت الترجمات بعد ذلك لتشمل معظم اللغات الأوربية. وتتبع تاريخ هذه الترجمات وتنوعها يمكن أن يشكل بحثا مستقلا فى ذاته وسنكتفى هنا بالإشارة إلى أهمها([3]):

إلى الفرنسية ترجمة Galland 1704 وترجمة Mardus 1899 وترجمة Gueme 1966 وترجمة Khawam 1967. وإلى الإنجليزية ترجمة Lane 1841 و Burron 1888 ،  Payne 1889.

إلى الألمانية ترجمة Henning 1899 وLittmen 1928.

إلى الأسبانية ترجمة Cansinos  1960.

إلى الروسية ترجمة Salier 1936.

ولا تكاد لغة من اللغات تخلو من ترجمة أو أكثر لألف ليلة وليلة.

قلنا : إنه بدءا من القرن التاسع عشر دخل الاهتمام بألف ليلة وليلة مرحلة جديدة واكبت المرحلة السابقة، وتلك المرحلة هى مرحلة الدراسة والتحليل، وفى هذا المجال فإن كثيرا من العلماء حاولوا أن يضيفوا ما استطاعوا من "الليالى" وطرحوا كثيرا من الأسئلة وقدموا كثيرا من التصورات لحلول المشاكل.

وكان أول من افتتح هذه المرحلة "سلفستر دى ساسى" بالبحث الذى قدمه فى "جريدة العلماء" سنة 1817 حول أصول "ألف ليلة وليلة" وقد استبعد "ساسى" فى هذا البحث فكرة أن يكون المؤلف فردا واحدا ورجح أن تكون قد كتبت فى فترة قريبة من فترة اختلاط الثقافات الفارسية والهندية والعربية، وبذلك خالف "المسعودى" فى الإشارة التى كتبها فى "مروج الذهب" والتى أشار فيها إلى أن ألف ليلة وليلة ترجمة لقصص فارسية تسمى " هزار أفسانة" ومعناها "ألف خرافة" وهو الذى أشار إليه كذلك ابن النديم فى "الفهرست" ذاكرا الكتاب الفارسى، ومشيرا إلى أن "الجهشيارى" صاحب كتاب الوزراء كان يريد وضع كتاب فيه ألف حكاية من حكايات العرب والفرس والهند، وقد وضع منها أربعمائة وثمانين حكاية ومات. وقد ظلت آراء المسعودى وابن النديم موضع الاقتباس والمناقشة والتأييد والمعارضة فى كل الكتابات التى دارت حول أصول "الليالى". وفى هذا المجال فإن "وليام لانس" هو الوحيد الذى حاول أن يثبت أن مؤلف "ألف ليلة" فرد واحد وأنها كتبت ما بين عامى 1475 و 1525.

مع الدراسة التى قدمها "أوجست مولر" بدأت فكرة المصادر تأخذ([4]) نظرة أوسع، وهى إمكانية "تعدد المصادر" وقد ميز "مولر فى مقالة بين نوعين من القصص – أطلق على أحدهما القصص البغدادى وعلى الثانى القصص القاهرى أو المصرى. ووافقه على هذا الرأى "نولدكه". وظلت فكرة تعد المصادر تتسع لتضم مصادر هندية وفارسية وإشارات هلينية وقصصا عراقية ومصرية. وفى هذا الصدد انتهى "نابيا" فى البحث الذى كتبه فى مجلة الشرق الأدنى سنة 1949 إلى إمكانية تمييز عدة مراحل فى الشكل الذى انتهت إليه "ألف ليلة وليلة" وهو يرى أن الكتاب قد مر بالمراحل التالية:

1- ترجمة لكتاب "هزار أفسانه" تمت فى القرن الثامن الميلادى ، وربما كانت ترجمة كاملة ودقيقة ، ومن الممكن أن يكون اسمها فى هذه الفترة "ألف خرافة".

2- تعريب ومحاكاة إسلامية – على مستوى كلى أو جزئى – لهزار أفسانه فى القرن الثامن أيضًا.

3- كتابة "ألف ليلة" فى القرن التاسع محتوية على أهم العناصر فى المرحلتين السابقتين عربية أو فارسية.

4- كتاب "ألف سمر" الذى كتبه ابن عبدوس الجهشيارى فى القرن العاشر ، ويحتمل أن يكون قد أضاف عصره إلى الليالى السابقة.

5- كتاب قصص أخرى ألف فى القرن الثانى عشر ، واحتوى على قصص مصرية محلية ، وعلى قصص آسيوية ، وربما جاء فى هذه المرحلة كلمة "ألف ليلة وليلة" فحتى هذه الفترة كان العنوان "ألف ليلة" أو "ألف خرافة" فقط.

6- المرحلة الأخيرة التى أضيفت فيها بعض القصص المتعلقة بالحروب الصليبية أو بغزوات المغول فى القرن الثالث عشر ، وبدخول الأتراك إلى سوريا ومصر فى القرن السادس عشر.

لماذا انتهت الليالى ، بحمل عنوان "ألف ليلة وليلة":

لقد أشار"نابيا" إلى الفترة التى اكتسبت فيها هذا الرقم ولم يعلله. والثابت أن هذا العدد لا علاقة له بعدد الحكايات التى رويت ولا بعدد الليالى التى اشتمل عليها الكتاب. ويقدم "ليتمان تفسيرا تاريخيا للقضية حين يشير إلى أن رقم مائة فى العربية يدل على الكثرة ، على حين تدل "الألف" على ما لا يحصى ، وأن الليالى حملت هذا الرقم فترة طويلة ، لكن رقم "ألف وواحد" جاء من التركية حيث تدل كلمة "بن بر" فى اللغة التركية ومعناها "ألف وواحد" على ما لا يحصى ، ويشيع استخدامها فى التركية المعاصرة مثل ميدان "بن برعمودى" أى "ألف عمود وعمود فى استانبول ، أو منطقة ألف كنيسة وكنيسة فى الأناضول ، وكذلك "بن طرز" ألف طراز وطراز فى الدلالة على كثرة الأشكال ، و "بن بر" شكل فى الدلالة على نفس المعنى ، وهو تركيب شائع فى التركية مما يؤكد قوة الفرض الذى يربط عنوان "ألف ليلة وليلة" بالعصر التركى.

لقد ظل الاهتمام بهذا العمل الرائد العالمى يتجدد بتجدد مدارس البحث فى فروع المعرفة الإنسانية المتعددة التى يمكن أن تثيرها "ألف ليلة وليلة". ووجد كل باحث جانبا يعمقه ، فالدراسات المقارنة امتدت بالقصص الشعبى فى الكتاب لتبحث عن نظائره فى الآداب القديمة ، وفى الحضارات التى ورثها الإسلام ، والدراسات التاريخية توقفت كثيرا لتقرأ ما وراء السطور ولتكتب ما لم يكتبه المؤرخون انطلاقا من إشارات وردت "فى الليالى" عن الحياة فى القاهرة أو بغداد ، ودراسات فى النقد الأدبى درست هذا الشكل المتميز "الحكاية" ورصدت جانب عبقرية وبساطة البناء الفنى. ودراسات التراث العربى وقفت أمام ظاهرة الشعر الذى بلغت قصائده ومقطوعاته فى الكتاب ألفا وأربعمائة وعشرين قصيدة، أمكن الرجوع ببعضها إلى شعراء معروفين ، وظل كثير منها مجهول النسبة ، والدراسات النفسية والاجتماعية واللغوية وجدت لها كذلك مجالات غنية فى هذا العمل الكبير ، وما تزال جوانب كثيرة فى هذا العمل بحاجة إلى الوقوف أمامها بالدرس والتحليل.

قصة الإطار - دراسة مقارنة

أتيح لنا عند الحديث عن كليلة ودمنة أن نشير إشارة عابرة إلى المفهوم الفنى لقصة الإطار والمدى الذى تحقق منه هناك. ورأينا كيف انعدم الربط القصصى وحل محله الربط الفلسفى والحكمى على مستوى الإطار العام. ثم كيف يتحقق لون من الربط القصصى على مستوى كل باب على حدة.

ولكن قصة الإطار فى ألف ليلة تأخذ اتجاها أشمل فهى تفتتح الصفحة الأولى من الليالى وتختم الصفحة الأخيرة منها ، فالملك شهريار انتقاما منه لخيانة زوجة له قرر أن يتزوج كل يوم فتاة جديدة ويقتلها قبل أن تطلع الشمس لئلا تتمكن من خيانته ، وتتقدم ابنة الوزير شهرزاد ، فتطلب من أبيها أن يرشحها للزواج من الملك ، وتصطحب معها فى ليلة الزواج أختها "دنيا زاد" وتوعز إليها أن تطلب منها حين تبدأ سهرتها الأخيرة مع الملك أن تقص عليها فى ليلة الوداع حكاية مما كانت تمتعها به من قبل ، وتستأذن شهر زاد الملك الذى يسمح لها ويشارك فى سماع الحكاية ، ويطلع الصباح وشهر زاد عند نقطة مشوقة من حكايتها فتضطر إلى التوقف لكى ينفذ فيها الملك حكمه ، لكن الملك يمهلها إلى الليلة التالية حتى تكمل حكايتها ، ولا تكاد الحكاية تنتهى حتى تتفرغ وتدخل سامعيها فى حكاية أخرى ، ويظل شهريار ودنيا زاد ، المستمعان الدائمان لشهرزاد ، يطلبان منها المزيد ، ويتأجل قرار موتها ليلة بعد ليلة وتزداد صلتها بالملك وحبه لها وتنجب له الأطفال والحكايات مستمرة خلال ذلك كله حتى تصل شهرزاد إلى ليلتها الأولى بعد الألف ، وعلى حد تعبير الراوى فى ألف ليلة: "فلما فرغت من هذه الحكاية قامت على قدميها وقبلت الأرض بين يدى الملك وقالت: يا ملك الزمان وفريد العصر والأوان، إنى جاريتك ولى ألف ليلة وليلة وأنا أحدثك بحديث السابقين ومواعظ المتقدمين فهل لى فى جانبك من طمع حتى أتمنى عليك أمنية ، فقال لها الملك: تمنى تعطى يا شهرزاد ، فقالت "هاتوا أولادى وهم ثلاثة ذكور واحد يمشى وواحد يحبو وواحد يرضع. فلما جاءوا بهم قدام الملك وقالت: يا ملك الزمان إن هؤلاء أولادك وقد تمنيت عليك أن تعتقنى من القتل إكراما لهؤلاء الأطفال ...

فعند ذلك بكى الملك وقال: يا شهرزاد. والله إنى قد غفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد. ثم نادى على وزيره وقال له: سترك الله حيث زوجتنى ابنتك الكريمة التى كانت سببا لتوبتى عن قتل بنات الناس".

على هذا النحو تمتد قصة الإطار فى ألف ليلة وليلة لتشمل العمل كله ولتكون فى الوقت ذاته سببا للحكايات ونتيجة لها ، ولكى تضفى عليها طابع الوحدة وهو طابع يزداد تأكدا من خلال ملمح فنى آخر يتمثل فى وحدة الراوى ووحدة السامع على طول امتداد هذا العمل الكبير ،
فشهر زاد هى دائما الراوية ، وشهريار ودنيا زاد هما دائما المستمعان.

وهذه الخصائص الفنية لقصة الإطار فى ألف ليلة وليلة تكاد تجعلها متميزة بالقياس لما عرف فى الآداب العالمية من أعمال أدبية أخرى تعتمد بدورها على قصة الإطار ، وأشهر ما يمكن أن تقارن به ألف ليلة وليلة من هذه الراوية عملان كتبا فى القرن الرابع عشر فى أوربا أحدهما للكاتب الإيطالى بوكاشيو Boccace والثانى للشاعر الإنجليزى تشوشر Chaucer.

فى سنة 1348 اجتاح إيطاليا وأوربا كلها مرض الطاعون ، وساد الفزع والموت فى كل مكان ، وبعد أن هدأت عاصفة الوباء ، كتب عنه بوكاشيو عملا قصصيا بعنوان "دى كاميرون" Decameron، وقد بدأ فصور الطاعون وأثره على الناس وكيف كان يدفعهم الفزع إلى الإتيان بتصرفات لا تند عنهم فى حياتهم العادية ، وإلى الهرب من الموت فى أى اتجاه ، وتحت هذا التأثير يلتقى جماعة من الهاربين من وباء مدينة فلورنسا ، سبع نساء وثلاثة رجال فيواصلون السير معا حتى يلجأون إلى بيت ريفى هادئ ، وعندما تبدأ إقامتهم فى هذا البيت يقترحون قتلا للوقت أن يتولى كل فرد من الحاضرين رئاسة الجماعة يوما يطلق عليه فيه الملك أو الملكة ، وان يكون له فى ذلك اليوم حق أن يقترح على الجميع موضوعا ، ويطلب من كل واحد من الحاضرين أن يحكى لهم قصة حول هذا الموضوع ، وعلى هذا النحو طرح الملكات والملوك العشرة عشرة مواضيع مختلفة واستمعوا فى كل واحد منها إلى عشر قصص مختلفة([5]) ، وقد اعتبر هذا المدخل فى ذاته قصة إطار أتاح لبوكاشيو أن يروى حكايات كثيرة تدور حول نقطة واحدة.

وبهذا العمل تأثر الشاعر الإنجليزى تشوشو فى قصائده القصصية التى كتبها تحت عنوان "قصص كانتربرى" The Canterbury Tales، وقصة الإطار التى تخيلها تشوشر فى كانتربرى تدور حول مجموعة من الحجاج إلى بعض الأماكن المقدسة وهم يلتقون فى إحدى الخانات فى حى ساوث وورك من ضواحى لندن ويواصلون الرحلة معا، وتتكون القافلة من ثلاثين مسافرا ينتمون إلى مختلف الطبقات الفكرية ؛ فارس وراهب وتاجر وطالب فى أكسفورد وقاض وصباغ وبائع سجاد وبحار وطباخ وطبيب .. إلخ ويقترح أحدهم تسلية للرحلة أن يحكى كل مسافر حكايتين فى الذهاب وحكايتين فى الإياب وأن تنمح جائزة لأحسن الحكايات ، وأن تكون هذه الجائزة عشاء فاخرا فى خان ساوث وورك عندما يعودون من رحلتهم([6]).

بهذه الطريقة أيضا يختار تشوشو قصة الإطار على غرار قصة بوكاشيو التى كانت قد كتبت من قبله وتأثر بها ، ويعد هذان العملان من أشهر الأعمال الأدبية التى اعتمدت على قصة الإطار فى الآداب الأوربية الوسيطة، ولكن مقارنتها مع ألف ليلة وليلة من هذه الزاوية تؤكد توافر كثير من عناصر الحبكة الفنية فى قصة الإطار فى ألف ليلة وليلة وغيابها فى هذين العملين ، وأول هذه العناصر – كما أشرنا من قبل – وحدة الراوى ، فالرواة عند بوكاشيو عشرة وعند تشوشو ثلاثون ، ولكن شهرزاد هى راوية ألف ليلة وليلة الوحيدة ، ويضاف إلى ذلك قوة التشويق الموجود فى ألف ليلة وليلة النابعة من العنصر المجهول فى قصة إطارها وهو النهاية ، فعلى حين أننا مع "بوكاشيو" نعلم سلفا أن الحكايات ستنتهى بعد عشرة رواة او بعد ثلاثين عند تشوشو فإن النهاية غير متصورة سلفا فى قصة شهرزاد ، والحكايات تمنح واحدة بعد واحدة ويتجدد الشوق إليها فى كل مرة ، وتزيد من أهمية غموض النهاية الجزاء أو العقاب الذى سيترتب عليها ، فعلى حين أن الهدف عند بوكاشيو أو تشوشو هو تسلية الطريق وقتل الوقت وأن الجزاء المترتب على ذلك قد يكون عشاء فاخرا أو إبعادًا للملل فإن العقاب المنتظر فى حالة شهرزاد هو قتل الراوية إذا لم تنجح فى إقناع شهريار – عن طريق فن الحكاية – بالعدول عن قراره فى قتل كل النساء.

أما الجزاء الذى تصل إليه قصة الإطار فى ألف ليلة وليلة فهو شراء الحياة بالفن ، تحيا شهرزاد وتنقذ بنات جنسها إذا استطاعت أن تصوغ حكاية جميلة وهذا المعنى يتكرر فى كثير من حكايات ألف ليلة وليلة([7]) حيث تتحول القصة إلى فداء ، فكثير ما يهم القوى بقتل الضعيف ، ولكن الضعيف يحكى له قصة فيطلق سراحه([8]) والدلالة البعيدة وراء ذلك أن قيمة العمل الأدبى فى المجتمع الذى نبتت فيه هذه الحكايات كانت كبيرة وكانت تمثل فى وقت واحد الثراء الحضارى للراوى وأهلية السامع لأن يوجَّه إليه جزء من هذا الثراء.

على أن قصة الإطار العامة فى ألف ليلة وليلة تتخللها أيضا كثير من قصص الإطار الداخلية ، فكثيرا ما نجد مجموعة من الحكايات يضمها جميعا إطار واحد وتتفرع بدورها عن الحكاية الرئيسية التى تمثل قصة الإطار ، وفى هذا الملمح تتفق ألف ليلة وليلة مع القصص الداخلية فى كليلة ودمنة.

حكاية " أبو صير وأبو قير"

دراسة مقارنة

بعد أن توقفنا أمام الرحلة العالمية لكتاب ألف وليلة، وأمام الخصائص المقارنة التى يمكن أن نشف عنها قصة الإطار مقارنة بالأعمال المماثلة فى الأدب الإيطالى والأدب الإنجليزى والخصائص المشتركة مع كليلة ودمنة التى تنتمى إلى الهندية والفارسية والعربية نود الآن أن نختار واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة لنقدم لها تحليلا من وجهة نظر الدراسات المقارنة.

ولا بد من التذكر هنا بأن هناك منهجين فى دراسة الأدب المقارن وقفنا عندهما من قبل هما المنهج التاريخى والمنهج النقدى، وسوف تتم دراستنا هنا على أساس المنهج الثانى، أى إن التركيز لن يكون موجها إلى الوسائط التاريخية التى ربطت بين عملين متشابهين فى أدبين أو أكثر وإنما إلى الظواهر المشتركة بينهما ودلالاتها فى التحليل النقدى للأعمال الأدبية.

والحكاية التى سوف نقف أمامها تنتمى إلى الفترة المتأخرة من حكايات ألف ليلة وليلة، فهى تعود من الناحية التاريخية إلى القرن السادس عشر، وتنتمى من الناحية المكانية إلى الحكايات المصرية فى ألف ليلة، وتنتمى من حيث مسرح الأحداث الذى تجرى عليه إلى الإسكندرية وجزر البحر الأبيض المتوسط أو جنوب أوربا، وكل ذلك يجعل الحكاية تنتمى إلى الفترة التى تراكمت فيها الاتصالات بين الشعوب العربية والمجاورة، فى جزر البحر المتوسط أو على شواطئه الشمالية وهى اتصالات سمحت بتسرب الفكر من ناحية إلى أخرى، وتركت آثارها على هذه الحكاية– كما سنرى- وجعلتها بذلك صالحة للدراسات المقارنة.

ولنبدأ أولا بتلخيص وقائع الحكاية قبل أن نقف على الزوايا التى تهتم بها الدراسات المقارنة: "يحكى أن رجلين كانا فى مدينة الإسكندرية، وكان أحدهما صباغا واسمه أبو قير وكان الثانى حلاقا واسمه أبو صير، وكانا جارين لبعضهما فى السوق، وكان دكان الحلاق بجانب الصباغ وكان الصباغ نصابا كذابا صاحب شر قوى كأنما صدغه منحوت من الجلمود أو مشتق من عتبة كنيسة اليهود" على هذا النحو تبدأ الحكاية([9]) ثم تستمر فتصف كيف كان هذا الصباغ يعتمد على التحايل على الناس، فهو يستقبل زبائنه ويأخذ من أحدهم الثوب الذى يريد صباغته، ثم يأخذ منه الأجر مقدما لكى يشترى به أدوات الصباغة ويعطى لصاحب الثوب موعدا يسلم له فيه ثوبه، فإذا أتى صاحب الثوب فى الموعد اعتذر الصباغ بمشاكل فى البيت وأجله إلى الغد، فإذا أتى الغد وجد عذرا آخر ويستمر يؤجله يوما بعد يوم وتتجدد الأعذار، حتى يخرج له فى النهاية بورقته الأخيرة فيقول له إن الثوب قد سرق بعد أن أتم صباغته على أحسن وجه ونشره أمام الدكان لكى يجف. وينصرف أصحاب الشأن إلى غير عودة، ويستقبل الصباغ زبونا آخر ليكرر معه نفس القصة ويصل معه إلى نفس النتيجة وجاره الحلاق الطيب يلاحظ كل ذلك ويسأله يوما إذا كان اللصوص حقا يسرقون منه كل الأثواب؟ فيجيب الصباغ بأنه لا يوجد لصوص وإنما هو الذى يبيع الأثواب بعد أن يأخذ أجر صباغتها وينفق ذلك كله على مأكله ومشربه ويعلل سلوكه بضيق ذات اليد، ويستمر الأمر على هذا النحو حتى يقع الصباغ يوما فى قبضة واحد من رجال الشرطة فيقرر إغلاق المصبغة.

يعرض الصباغ على جاره الحلاق أن يسافرا معا إلى خارج مصر حيث العمل المتاح والأجر الوفير، ويتخوف الحلاق الذى لم يتعود أبدا على الغربة من مفاجأتها ومشاكلها، ولكن الصباغ يعقد معه اتفاقا مؤداه أن يكونا معا على الخير والشر وأن من وجد منهما عملا يقاسم الآخر أجره ومن وجد منهما طريقا للنجاح يشد الآخر إليه، وأن يضعا ما يوفرانه فى صندوق ويقتسمانه معا عند العودة إلى الإسكندرية.

"أصبحا مسافرين ونزلا فى غليون فى البحر المالح، ومنذ اللحظة الأولى بدأ الحلاق أبو صير يمارس مهنته، ويقدم له ركاب الغليون المائة والعشرون الطعام والأجر، وهو يحمل كل ما يأتيه فيقدمه إلى رفيقه أبى قير الذى كان قد آثر النوم وهو يلتهم كل ما يحمله صديقه ثم يعود إلى النوم مرة أخرى، وتستمر رحلة البحر (المتوسط) عشرين يوما" حتى رسا الغليون على مينة مدينة فطلعا من الغليون ودخلا تلك المدينة وأخذا لهما حجرة فى خان وفرشها أبو صير واشترى جميع ما يحتاجون إليه" وهنا يبدأ الفصل الثانى فى علاقتهما، فأبو صير قد اشترى من مدخراته فى رحلة السفينة فراش الحجرة وواصل العمل والكسب منذ نزلا إلى المدينة، وأبو قير يواصل النوم لأنه متعب من أثر الرحلة، ويظل أبو صير يعمل ويكد ليوفر له ولصديقه القوت حتى يصاب بالإجهاد ويقع مريضا، فيطلب من صديقه أن يأخذ النقود التى معه ويذهب لكى يشترى له دواء ولهما طعاما، أما أبو قير فإنه يأخذ المال ويخرج بلا عودة، ويشتد المرض على "أبو صير" ويظل مهملا فى حجرته عدة أيام حتى يكتشف صاحب الخان أمره فيعطف عليه ويقدم له الطعام والدواء ويعتنى به حتى تعود إليه صحته ويخرج لمحاولة العمل والكسب.

أما أبو قير فإنه خرج بأموال أبى صير فاشترى ببعضها ملابس له واحتفظ بالباقى وقرر أن يبدأ فى البحث عن العمل، ولقد لفت نظره – وهو الصباغ- أن جميع ملابس أهل المدينة تتكون من اللونين الأزرق والأبيض فقط فذهب إلى مصبغة لكى يكتشف الأمر فقيل له إن أهل هذه المدينة لا يعرفون إلا هذين اللونين، فعرض على أصحاب المصابغ خبرته الواسعة فى صناعة الألوان ولكنهم أفهموه أن أهل هذه الصناعة فى هذه المدينة عددهم أربعون صباغا، وهم قد تعاهدوا على ألا يقبلوا بينهم غريبا أبدا، ويذهب أبو قير إلى الملك فيأمر الملك أن تبنى له مصبغة وأن يوفر له من الأعشاب ما يطلب حتى يتمكن من إدخال فنه فى الصباغة إلى المدينة، ويتم البناء ويبدأ أبو قير فى صباغة ملابس الملك والأمراء والوزراء بألوان لم يعهدوها من قبل، ويقبل عليه كبار القوم ويغمرونه بالأموال ويلتف الناس كل يوم حول منشر المصبغة لكى يروا هذه الألوان الزاهية التى لا عهد لهم بها من قبل.

فى المرة الأولى التى خرج فيها أبو صير من مرضه ليحاول العمل وصل إلى الميدان الكبير فى المدينة فاكتشف تجمع الناس حول أقمشة ذات ألوان زاهية، وعندما سأل قيل له هذه هى المصبغة الجديدة التى أنشأها رجل قادم من الإسكندرية، وسعد أبو صير، ونظر فإذا أبو قير يجلس على كرسى عال أمام المصبغة وحوله العمال والخدم، واقترب منه لكى يهنئه، ولكن عندما لمحه أبو قير صاح بعماله: اقبضوا على هذا اللص فهو الذى سرق من قبل ملابس من مصبغتنا وأعطوه علقة ساخنة حتى لا يعود إلى هذا المكان.

يلازم أبو صير الفراش مرة أخرى، فى رعاية صاحب الخان بعد أن يقص عليه غدر صديقه به، وعندما يستأنف العمل، يجد أن جسده المتعب فى حاجة إلى الذهاب إلى واحد من الحمامات العامة، فيسأل الناس عن مكان الحمام، ولكنه يكتشف أن هذه المدينة لا تعرف الحمامات وأن الملك نفسه يستحم فى البحر، ويعجب أبو صير لذلك ويذهب إلى ملك المدينة ويعرض عليه أن يبنى فى وسط المدينة حماما عاما كالذى تعرفه مدينة الإسكندرية، ويسر الملك بالفكرة التى لم يكن قد سمع عنها من قبل، ويوفر لأبى صير كل الإمكانيات. ويبنى الحمام ويدخله الملك أولا فيزداد سروره وعطاؤه لأبى قير، ويدخله الأمراء والوزراء ويدرب أبو صير العمال والعاملات، لكى يستقبل فى حمامه الرجال والنساء من كبار القوم، ويصبح أبو صير من أصدقاء الملك المقربين ومن أغنياء المدينة المعدودين.

وتدخل الغيرة فى قلب "أبو قير" وهو مع ذلك يذهب إلى الحمام، ويستقبله أبو صير بشيء من العتاب، وأبو قير يقسم له إنه لم يكن يعرفه حين أمر بضربه ويقبل الرجل الطيب الاعتذار، ويوجه أبو قير لأبى صير "نصيحة مسمومة" يوصيه بأن يضع للملك مع ماء الحمام نقط دواء من الزرنيخ يساعد على إزالة الشعر الزائد فى الجسد حتى تكتمل سعادة الملك عند دخوله الحمام، ويقبل أبو صير الفكرة بسرور ويشكر صديقه عليها.

يذهب أبو قير لمقابلة الملك، ويفهمه بأن "أبو صير" ليس مخلصا له كما يعتقد ولكنه جاسوس مدسوس عليه لكى يقتله، وأنه أعد لقتله دواء من الزرنيخ مدعيا أنه يزيل الشعر وأنه سيقدمه له فى المرة القادمة، ويقول أبو قير للملك إنه علم بذلك فأراد أن يحذر الملك من شر هذا الرجل، وإن الملك يستطيع أن يذهب إلى الحمام لكى يرى بنفسه صدق ما يقول.

يذهب الملك إلى الحمام فيعرض عليه أبو صير فكرة أن يدهن جسده بالزرنيخ لإزالة الشعر، وهنا يأمر جنوده بالقبض على هذا "الجاسوس" ويأمر قائد حرسه بأن يضع "أبا صير" فى زكيبة مملوءة بالجير، وأن يغلقها عليه ويضع الزكيبة فى قارب يمر به فى البحيرة الموجودة أسفل قصر الملك، فإذا أعطاه الملك إشارة بيديه ألقى الزكيبة فى الماء فيموت أبو صير حرقا وغرقا فى وقت واحد.

يأخذ قائد الحرس أبا صير ولكنه لا يصدق أن هذا الرجل الطيب جاسوس فيضع فى الزكيبة بدلا منه حجرا ثقيلا ويلقيه فى البحيرة أمام الملك أما أبو صير فيظل مختبئا فى حجرة قائد الحرس الموجودة فى أطراف شاطئ البحيرة ويتسلى أثناء ذلك بصيد الأسماك من البحيرة ويتجمع لديه قدر كبير منها، وعندما يجوع يتناول واحدة منها لكى ينظفها ويشويها، وعندما يفتح بطنها يجد فيه خاتما ذهبيا فيضعه فى أصبعه.

يعود قائد الحرس من مهمته فيكتشف الخاتم فى أصبع أبى صير ويعرف على الفور أنه خاتم الملك، وأن من يلبسه تصير فى يده قوة خارقة يستطيع بها إخضاع جميع المملكة له، ومن يفقده يفقد كل أسباب القوة، وكان الملك قد سقط منه الخاتم فى البحيرة عندما أعطى إشارة للقائد بإلقاء حمولته فى الماء وابتلعت الخاتم السمكة التى اصطادها أبو صير.

يأخذ القائد أبا صير إلى الملك وأمامه يحكى الملك ما قاله له أبو قير ويحكى أبو صير قصته مع هذا الصديق الغادر منذ البداية ويرد أبو صير الخاتم إلى الملك، ويأمر بإحضار أبى قير ويحقق فى الأمر فيكتشف صدق ما قاله أبو صير، ويأمر الملك أن يوضع أبو قير أمام عينيه فى زكيبة الجير وأن يلقى به فى الماء.

ويعرض على أبى صير أن يكون وزيرا ولكنه يفضل العودة إلى الإسكندرية حزينا رغم كل ما كسب من الأموال، وهناك على شاطئ البحر يلمح ذات يوم "زكيبة تدفعها الأمواج إلى الشاطئ ويوصى عماله بأن يجذبوها ويفتحوها ويكتشف أن فى داخلها جثة أبى قير، فيقرر أن يبنى له قبرا فى هذا المكان وأن يدفنه فيه ومن يومها أصبح اسم هذا المكان من شاطئ الإسكندرية "أبو قير".

هكذا تنتهى الحكاية فى ألف ليلة وليلة، وهى حكاية تكاد أن تشتمل على حكايات متداخلة، وقد أمكن للدراسات المقارنة([10]) أن تكتشف العلاقات بين بعض أجزاء هذه الحكاية وحكايات أخرى فى الآداب التترية والهندية والبربرية واليهودية والإيطالية والتراث الإسلامى، ويمكن الوقوف أمام هذا التشابه واكتشاف التقاء وافتراق الآداب المختلفة فى التعبير عن المواقف المماثلة. واكتشاف الفروق الفنية بين طريقة وأخرى، والقدر الذى يضيفه كل أدب إلى التراث الإنسانى العام فى هذا الإطار.

والطريقة التى يمكن أن تقودنا إلى تحقيق ذلك الهدف تمكن أولا فى تقطيع هذه الحكاية إلى مشاهد وتتبعها من خلال ذلك التقسيم لا للوقوف على خط مباشر يربط بين مشهد ما، ومشهد مماثل فى حكاية أخرى، ولكن على الأقل لإثبات لون القرابة بين عملين يبدوان كفرعين من أبناء العمومة تباعدا ولكن ظلت بينهما مشابه تعود بهما معا إلى الجد المشترك، وفى هذا الصدد يمكن الإشارة إلى ثلاث قصص قديمة.

1-   قصة من الأدب التترى القديم تجمل عنوان "المسافران".

2-   قصة من أدب اليهود التونسيين تحمل عنوان "المعمارى والرسام".

3-   قصة من الأدب الإيطالى يرجع تاريخها إلى سنة1360.

وسوف نعرض أولا للخطوط الرئيسية لقصة "المسافران"([11]).

"كان هناك اثنان من الإخوة الفقراء، أحدهما يؤمن بأن خير وسيلة للحياة هى الكذب والتحايل، وثانيهما يرى بأنه ينبغى اتباع طريق الصدق والشرف، وكان الكذاب يجد عادة وبسهولة ما يريد الحصول عليه، بينما يجد "الصادق" مشقة فى توفير أصغر الأشياء، وتناقشا كثيرا: أيهما على حق، وأخيرا اتفقا أن يرحلا معا، وأن يحتكما إلى أول ثلاثة يلقيانهم على الطريق، وأن يرضيا بحكمهم، وكان أول من قابلهم واحد من "رقيق الأرض" فسألاه: قل لنا يا أخى: أى المنهجين ينبغى، الصدق أو الكذب، فقال الرقيق: إننى لو اتبعت الصدق فى حياتى لما استطعت أن أستريح من عناء العمل الشاق وأوامر السيد المرهقة ساعة واحدة، وإننى لا بد أن أكذب وأقول: إننى مريض حتى يدعنى أنصرف من الغابة... طبعا طريق الكذب هو الأفضل، وتركاه وانصرفا، فالتقيا بعد ذلك بواحد من التجار وطرحا عليه نفس السؤال، فأجابهما بأن الكذب هو الأفضل، وأنه لولاه لما راحت تجارته ولما استطاع حتى أن يجمع القوت الضرورى له ولأولاده... وكان الثالث قسيسا تتريا فسألاه: أى الطريقين ينبغى أن يسلك المرء فى حياته: الصدق أو الكذب، فقال لهما إن طبائع الناس جعلت اللجوء إلى الصدق محالا، وإن الإنسان لو صدق حتى مع أهل بيته لوجد من المصاعب ما هو فى غنى عنها... قال الكاذب للصادق: هل علمت الآن أننى كنت على حق، وأننى على حق دائما؟ وسافرا معا.. وأخذ الكاذب يحصل على كثير من الطعام دون أن يبذل كثيرا من العناء بينما يكد الصادق نفسه ولا يحصل إلا على الفتات أياما متتالية وعضه الجوع، فطلب لقمة من "الكاذب" ولكن ذلك قال له وما المقابل الذى سوف تعطيه لى؟ قال الصادق أنت تعلم أنى لا أملك شيئا. قال "الكاذب": دعنى إذن أفقاً إحدى عينيك وأعطيك لقمة. ولم يجد الآخر بدا من القبول، ففقأ "الكاذب عينه"، وأعطاه لقمة لم تكف حتى لشبعه، وعندما عضه الجوع مرة أخرى، وطلب لقمة ثانية، كان رد "الكاذب" دعنى أفقأ عينيك الأخرى... فقال له: وكيف إذن أسير! ما أقساك! قال: سأسحبك... أما عن القسوة فإن لم تكن موافقا فدعنى وشأنى وأخيرا وافق الصادق، الذى أصبح بعد ذلك أعمى.. ولم يلبث الكاذب أن تركه وحده فى الصحراء ومضى...

أخذ الأعمى يتخبط فى الصحراء على غير هدى، وقد أحس بوحشة ورعب شديدين، ولكنه سمع فجأة صوتا يأمره بأن يتجه صوب نبع على بعد خطوات منه، وأن يشرب منه ويغسل وجهه وعينيه، وسوف يرتد بصيرا، وفعل "الصادق" ذلك وعاد إليه بصره، ويأمره الصوت المجهول مرة أخرى أن يتوجه ناحية شجرة معينة فى الغابة وأن يتسلقها، ويسترق حديث الأرواح الخفية من خلالها، وهناك يعلم من خلال ذلك الحوار أن واحدة من الأميرات أصيبت بداء عضال، وأن لا أمل فى شفائها إلا من خلال أيقونة معلقة على باب أحد التجار ويلتقط "الصادق" اسم التاجر من خلال حوار الأرواح الخفية: ويجد حتى يلتحق بخدمته ويعمل عنده ثلاث سنوات، وبعدها يسأله التاجر عن هدية يختارها بنفسه جزاء إخلاصه فى العمل ويطلب "الصادق" الأيقونة المعلقة على الباب... ولا يتردد التاجر فى تقديمها له... ومن ثم يذهب إلى قصر الملك معلنا أن معه دواء الأميرة.. وكان الملك قد أعلن أن من يشفى الأميرة يصبح زوجا لها.. وينصح "الصادق" بأن تنزل الأميرة إلى الحمام، وأن توضع معها الأيقونة، وتزول أمراضها جميعا، وتزف إلى "الصادق" الذى يصبح أميرا.

ويسمع "الكاذب" عن الثراء والخطوة والشهرة التى لقيها أخوه فيسارع إلى الحضور والاعتذار إليه ويطلب منه الصفح عنه، فيصفح "الصادق".. ثم يسأله "الكاذب" عن السر الذى وصل به إلى ما وصل.. فيحدثه عن قصة الصوت الخفى والأرواح والشجرة التى تسمع من خلالها ويصف له مكانها.. ويقرر "الكاذب"

المصدر: حقوق الطبع محفوظة للمجلس الأعلى للثفافة 2010 - 2011 . All Rights Reserved © www.SCC.gov.eg 2010 - 2011 .
consulthamadass

الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييم

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 5011 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة consulthamadass

ساحة النقاش

الخبيرالدكتورحمادة صلاح صالح www.iraegypt.com

consulthamadass
خبير التقييم المعنمد للتقييم لدي البنك المركزى المصرى خبير الملكية الفكرية بوزارة العدل للمحاكم الاقتصادية المتخصصة خبير تقييم الأثر البيئى للمشروعات وتقييم دراسات الجدوى خبيرتقييم معتمد لدى وزارة اﻻستثمار رئيس الهيئة الادارية والاقتصادية بالمجلس العربي الافريقي للتكامل والتنمية ونائب الرئيس للشئون الاقتصادية بالمجلس خبير تقييم دراسات الجدوى خبير وعضو المجلس »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

674,735