موقع الخبيرالدكتور / حمادة صلاح صالح صاحب بيت الخبرة الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييمالمعتمد للتقييم بالبنك المركزي

موقع متميز لفرادة التخصص فى التقييم وكافة الخدمات اﻻستشارية للبنوك والشركات والبيع بالمزاد العلنى

 

 

<!-- MSTableType="layout" -->
<!-- MSCellType="ContentHead" -->
<!-- MSCellType="NavBody" -->

   

قلتُ لمُعلمى : أتبعكَ

(1)

     قلتُ لمُعلمى: أتبعكَ.

      قالَ: حاول.

(2)

      لبستُ المُرَقـَّعَة وحاذيته فنهرنى:

      ـ مَهٍ.. ما هكذا يكونُ اللباسُ.. وما هكذا يكونُ الاتباع.

<!-- MSCellType="NavBody" --> <!-- MSCellFormattingTableID="2" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->
<!-- MSCellType="NavBody" --> <!-- MSCellFormattingTableID="4" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->
<!-- MSCellType="NavBody" -->

(3)

 

     قـَدَّمَ لى خِرقة ًَكما تـُقـَدَّمُ خِلعة أميرٍ أو سلطان أو مَلِك.

 

     قلتُ: لكنها كثيرة الخروق مهلهلة.

 

     قال: من الخروق تنفذ ُ، وبالهلهلة تفوز.

 (4)

      كنتُ جائعاً، وكنا فى الصحراء، ومِنْ غاية الأفـْق جَرَّتْ غزالة ٌشريطاً مِن غبار وركضتْ نحونا. لمَّا دَنتْ جثمتْ أمام مُعلمى فأشهرتُ حديدة  كانتْ معى ًوقلتُ:

      ـ أذبَحُها ونأكلها.

      فنظر إلىَّ نظرة ًفيها مِن الحزم ما يوازى ألمَ الجوع وقال:

      ـ إنْ أكلناها فماذا عساه أنْ يتبقى لنا، وبأى شىء نمنى أنفسنا؟

      ثم داعب رأس الغزالة َوقالَ مخاطباً إياها:

      ـ غِريرٌ هو ما يزال، فلا تأبهى له.

 (5)

     رافقتنا الغزالة ونفعتنا نفعاً كثيراً. صعـدتْ بنا كثبان وهبطتْ بنا كثبان. دلتنا على مفازات ما كنا لنكتشفها لولاها. أنقذتنا من ثعابين، وداستْ على عقارب، وأوردتنا مناهلَ لم نرتشف ماءً أعذب مما فيها؛ وإذ نتفيأ بعض العساليج مالَ إلىَّ مُُعلمى وسألنى:

     ـ ما رأيك فى غزالتنا ؟.. نذبحها..؟

     فتمنيتُ لو أنه حشى فمى رملاً ولم يسألنى هذا السؤال.

(6)

     اعترضنا قاطعُ طريق. تملاَّنا مستصغراً إيانا، ثم قال:

     ـ أما من شىء معكما يستحقُ السلب؟

     قال مُعلمى: خِرقـَتـَانا.

     فمَط َّشفتيه وقلبهما احتقاراً، ثم رأى الغزالة فقال:

     ـ آخذ الغزالة.

     بلفظتين اثنتين ردَّ عليه مُعلمى:

     ـ إنْ استطعتَ.

     أصابنى دهشٌ كبير.. يمنعنى عنها ويمنحها لقاطع طريق؟!..

      ضحكَ قاطع الطريق وهَمَّ  بالإمساك بها إلا أنها بعد أنْ جفلتْ أفلتتْ. رماها بسكين ٍفانحرفتْ، بخشبةٍ فقصرتْ، بحجرٍ فطاش. قفز فوقها فمادتْ. جرى خلفها فركضتْ، ورأيتها تلف وتدور وتدور وتلف حتى تقطعتْ فى قاطع الطريق أنفاسه فقال:

     ـ الفرار منكما غنيمة.

     وغادرنا، فيما عادتْ الغزالة تتمسح بخِرقة معلمى.

(7)

      صعدَ مُعلمى بصحبة الغزالةِ كثيباً فتبعتهما.

    ما إنْ تسنمناه حتى فوجئنا بهرج ومرج وعجاج. كلابُ صيدٍ وعربات جيب وأناسٌ متحفزون وبنادق.

     أصابنا هلعٌ فهبطنا مِن حيث صعدنا، فالكلاب كلاب الحاكم، والعربات عربات الحاكم، والناس بعضٌ مِن حاشية الحاكم. ارتعد بدنى وامتقع وجه مُعلمى فيما اشتد ارتعاش الغزالة.

     انسكبَ علينا ظلٌّ ثقيلٌ فرفعنا أبصارنا لنفاجأ بجـِرم الحاكم نفسه فوق الكثيب وفوقنا. نادانا كما ينادى الحاكم رعاياه:

     ـ يا أنتما.. اتركا لى هذه الغزالة.

     صمتنا.. مُعلمى وأنا.. واحتمت الغزالة بظهر مُعلمى.

     قال الحاكم:

     ـ خـَويتْ الصحراءُ مِن الطرائد.. وعيبٌ أنْ يرانى شعبى عائداً مِن رحلة صيدى خائب الرجاء.

     تغلب مُعلمى على امتقاعه وقال :

     ـ هى لك أيها الحاكم.. ليتها تكون لك.

     فعجبتُ له، منعنى عنها، ولقاطع الطريق قال إنْ استطعت، لكأنه ما ادخرها إلا للحاكم .

     مِنْ مكانه أشارَ الحاكمُ لمَنْ لا نراهم مِن خلف الكثيب فتسنموه، وبإشارةٍ أخرى منه اندفقوا باتجاهنا تقودهم كلابهم.

     مِن فورها انفلتت الغزالة ُوعَدََتْ بعيداً عنا وعنهم وعن الكثيب. صَوَّبَ الحاكمُ باتجاهها فأخفقَ، صَوَّبَ حاملو البنادق فـَرَقـَّشـُوا الرمالَ بطلقاتهم.

     ما عدنا نرى منها سوى شريط الغبار المربوط بحوافرها.

     استدار الحاكم وزأر زأرة ًاعتلتْ بعدها عرباتُ الجيب الكثيبَ، رفستْ إطاراتها الرمل ثم اندفعتْ باتجاه شريط الغبار، فتعكـَّرَ الهواءُ بغبار أكثف، بسببه اختفى الأفق وتغطت السماء، وغابت الغزالة وشريطها عن أعيننا.

     مرَّ زمنٌ ثم انبثقت العربات. شقت ستر الرمل عائدة، وإلى قمة ذات الكثيب صعدت. قبل أنْ تنحدر إلى الوراء، ميزنا علامات الخزى على وجوه راكبيها، واليأس فى حركات أذرعهم.

     لم يملك الحاكم إلا أنْ يكظم غيظه، وبكبرياء الحكام استقل عربة ًكانت إلى جواره، ورمانا بنظرة تحقير ثم مضى.

     مع ابتعاد سحاباتهم لم أدهش لمرأى الغزالة إلى جوار مُعلمى.

(8)

     أمام بوابة المدينة سألنى مُعلمى :

     ـ أما زالتْ حديدتكَ معكَ؟

     ثم انحنى إلى الغزالة وهتفَ بها أنْ تنصرف عائدة لحال سبيلها، أبتْ فدفعها دفعاً باتجاه الصحراء، رجعت فقادها بنفسه إلى أقصى ما يستطيع.

     لمَّا عاد انثنى إلى حجر مسنون فالتقطه، بعدها فرد قامته وأفرغ هواء صدره وأدخل هواءً غيره، ثم طلب منى أنْ أستعد، وبقوةٍ هتفَ بالحراس:

     ـ افتحوا البوابة.

     وإذ تنفتح ضلفتاها تطلعتُ إلى الغزالةِ فإذا بها واقفة على مقربةٍ ترنو إلينا رنو المتحسر، ففكرتُ ألاَّ أعتب بوابة المدينة وهممتُ بالهرولة إليها، إلا أنَّ مُعلمى نظر إلىَّ بوجهٍ قاس لم أعتده منه وقال:

     ـ اتبعنى.

فى مدينة اللذة والانبساط

(1)

     تساهل آمر البوابة كما لا ينبغى لمثله ـ حسب قوله ـ أنْ يتساهل وترفق  بنا على الرغم مِن غرابة ما نرتديه، و تغاضى عن الأوراق التى طلبها منا ولم يجدها لدينا، واكتفى بقيد أجوبتنا على أسئلته فى السجل الذى يمسكه مساعده. فقط أمر فجاست أصابع جنده فوق وتحت خرقتينا، لتنتهى حديدتى وحجر مُعلمى إلى المنضدة التى يجلس إليها هو ومساعده.

      مترفعاً أشار إلى مساعده فمد يده إلى كلٍّ منا بوريقة عليها رقم وتاريخ وتوقيت.

      قال الآمرُ:

      ـ أربع وعشرون ساعة وتغادران.

      ثم أمر جنده فرفعوا العوائق وأفسحوا الطريق.

      ولم أدر كنه الابتسامة التى علقت بشفتيه لمَّا أشار بأحد ذراعيه داعياً إيانا إلى الدخول.

  (2)

      أول ما استرعى انتباه مُعلمى وانتباهى ازدحام الجادة العريضة بالمركبات مِن كل حجم ونوع ولون، واحتشاد الرصيفين المتقابلين بالمارة المتعجلين وبصور رجل مهيب ملصقة بالحوائط ومعلقة على الأعمدة.

      لم يكن دخولنا هذه المدينة هو أول عهدنا بالمدن، فأنا ابن مدينة وأحسبُ مُعلمى كذلك، لكنها المرة الأولى التى ندخل فيها سوياً مدينة غريبة على كلينا .

      مثلها مثل المدن الشبيهة، تغز عمائرها عين الشمس، لتنكسر أشعتها وتنز ظلالاً تطؤها  الأقدام وتهرسها عجلات المركبات. ومثلما يحدث فى المدن الشبيهة حَفَّ بنا الصبية والقوادون، ودسوا فى أكفنا بطاقات الحانات والمواخير، وجاء الأدِّلاء والشحاذون، وحام حولنا السائقون، وتنطع باعة التوافه.

      انصرفتُ إليهم أذبُّهم عن مُعلمى، وأنا أعجب لهم كيف لم يلحظوا أنَّ خرقتينا بلا جيوب.

     لمَّا تولوا عنا، وخلى المكان لنا، ظللنا فيه حتى اطمأن مُعلمى إلى أنَّ أحداً لن يتبعنا. قبل أنْ يبدأ بالتحرك نظر إلى وسألنى:

      ـ أتعرف وصف هذه المدينة بين المدن؟

     هززتُ رأسى الجاهل أنْ لا يا مُعلم، فقال:

      ـ مدينة اللذة والانبساط.

      ثم ابتدأنا المسير.

 (3)

      مِن جوفِ محل للعِطارة جاءنى ومُعلمى ضجيجٌ وصياح ، وكنا قد اقتربنا مِن مدخله لمَّا ارتفع نصلٌ وغارَ فى جبين العطـَّار. أصابنا رعبٌ وامتعاض فيما نظر إلينا القاتل مزهواً، وأزاحنا الشرطى ودخل.

      رأيناه يعبرُ جثة َالقتيل، وسمعناه يسأل القاتل:

      ـ لماذا قتلته؟

      ردَّ القاتلُ وهو يسحب نصله:

     ـ لم يدفع.

      قال الشـُرطِى:

      ـ فعلها معى.

      فزفرَ القاتلُ وهو يمسح النصل فى ثياب القتيل:

      ـ زمنٌ ماعَتْ فيه المعايير.

      جاءت عربة ُدفن الموتى. نزلَ سائقـُها وفوق الجثة قال:

      ـ لن أحملها حتى آخذ عِطارة المحل أجرا.

      فاحتج القاتل والشرطى وقالا:

      ـ أليس لكلينا مِن طِيبِ هذه العِطارة نصيب؟

      عند هذا الحد هتفَ بى مُعلمى:

      ـ هيا بنا.

      فانصرفنا، ومِن جوفِ المحل عاد الضجيجُ والصياح.

 (4)

     فى السوق، استحقر العامة خرقتينا، وأغروا بنا الصبيان. وفيما هم يضحكون ويتصايحون، ويشيرون بأصابع الاستهزاء إلينا، قلتُ:

      ـ الجهلُ غباء.

      فطوقنى مُعلمى بذراع وقال:

      ـ والعلمُ بلاء.

      ثم راح يذبُ عنى وعنه أذى الصبيان.

 (5)

      طفقَ رجلٌ يتحدث إلى رهطٍ مِن الناس عن أمرٍ غاية فى التفاهة وقعَ له. نملة رآها تمشى فوق كتفه باتجاه رقبته، وكيما لا تتكرر قصة النملة وأذن الفيل نترها بضربة إصبع وبحث عنها فوق بلاط الرصيف وسحقها بحذائه الذى هو بالمناسبة مصنوع من جلد تمساح متين.

      وخرج مِن الحديث عن النملةِ التى جعلها عبرةً لسائر النمل، والتمساح الذى صُنعَ مِن جلدِه حذاؤه، إلى الحديث عن الجليل المبثوثة صُوَرُه فى كل مكان؛ وبعد أنْ أفاض فى الحديث عن أخص خصائصه، خاض فى أمورٍ أجَلَّ فأجَلَّ، حتى كاد يزعم، بل أقدمَ فعلاً على الزعم، بأنه فعل كلَّ شىء، وخَبَرَ كلَّ شىء، وفازَ فى كلِّ مَحَجَّةٍ، وفكَّرَ فى كل ما ينبغى أنْ ينشغل به الفكر.

      عندئذ التفتَ إلينا ـ باعتبارنا غريبين ـ واحدٌ من الرهط وقال وقد طفح على ملامحه فيضٌ مِن الملال:

      ـ آهٍ من حظنا العكر.. صرنا هدفاً لمادحى أنفسهم؟

      فسمعه المتحدث ومِن فوره طفقَ يقول:

      ـ  كلامكَ صحيح كل الصحة، لقد صار مادحو أنفسهم مثارَ كلِّ شكوى، مع أنهم لو نظروا إلىَّ، واقتدوْا بى، وفعلوا مثلما أفعل، لما وصلوا إلى هذا الحد، فأنا لا أمدح نفسى أبداً؛ ومع أننى ثرى ابن أثرياء، وكريم ابن كرماء؛ ويقر الجميع بأننى جَوَّادٌ، ذو ذكاء وافر، ومكانة عظيمة، فإننى لا أذكر فى أحاديثى شيئاً عن هذا كله، فالحياء والإيثار والتواضع ثلاث مِن الخلال التى أوقرها أيما توقير. 

     عندئذ مالَ علىَّ مُعلمى وزفر وقال:

     ـ ما أسخف أنْ يمدح المرء نفسه.

 (6)

      ملامح وسحنات القوادين والسماسرة متشابهة وإنْ اختلفت المدنُ. جذبتْ أحَدَهَم خرقتانا فاقترب وقال:

      ـ أضعكما فى مكان تتكففان فيه أثرياء السائحين وأغنياء المدينة ونتقاسم ما تحصلان عليه.

      عندئذ صَعَّدَ مُعلمى فيه نظَرَه وابتسم، وأعقب الابتسامة بضحكة، وكاد يُكمل الضحكة بقهقهة، لكنه تدارك فتركَ الرجلَ غارقاً فى دهشته، وقال لى:

      ـ ألم أخبرك بأننا فى مدينة اللذة والانبساط؟.. ها قد أنالنى هذا التيس بعض الانبساط.

 (7)

     مررنا باثنين يتعاركان، أحدهما يقول بأزلية الفناء والآخر يقول بأزلية البقاء، وحولهما كان جمع كثيف. استوقفانا لمَّا رأيانا وسألانا أى القولين أصدق، فأشرتُ لهما أنْ وجِّها هذا السؤال إلى مُعلمى، فكرراه عليه، فمسحهما والجمعَ بنظره، وقال وبحة الاستنكار فى صوته:

     ـ لِمَ تشقان على نفسيكما وتـُضيعان أوقات هذا الجمع الساذج؟

      وبدون جهد فى التفكير أعقب:

      ـ هما أمرٌ واحد.

      ثم قادنى، وعنهما وجمعهما، انصرفنا.

  (8)

     نادتنا الواقفة أمام مدخل أحد البيوت، وقالت:

      ـ فوق العمولة سأمنحكما متعة الاستحمام وقضاء ليلة مشتركة فى فراشى كل أسبوع إنْ جئتمانى بأربعة مِن الزبائن فى الليلة الواحدة، فما قولكما؟

      فتجاهلها مُعلمى وقال لى مستكملاً كلامه القديم:

     ـ .. وهذه عينة مِن لذائذ هذه المدينة.

(9)

     دخلنا حديقة المدينة وكانت مكتظة بالمتكلمين، وكانت الحشود تشرئب وتستمع، فيما تناثر فوق رأسينا كلام فى شئون الحرب والسياسة والاقتصاد، وكانت صور الجليل المثبتة على جذوع الشجر قد بدأت تهتز وتُنتزع، فاستهوتنى هذه الأمور وبدتْ لى سهلة ميسورة، فارتقيتُ حجراً وطفقتُ أتكلم مثلى مثلهم، إلا أنَّ الناس رَمَوْنى بمعطوب الثمر ودقيق الحجارة، فقال مُعلـِّمى:

     ـ أما علمتكَ ألا تأكل إلا عن جوع، ولا تتكلم إلا عن ضرورة؟!

(10)

      قادتنا الضوضاءُ وزرافات المهرولين إلى ميدان فسيح مكتظ بالناس والجنود. وكان الناس يجأرون بهتافات تندد بالحاكم وأساليب الحكم، ومنهم نساء رفعن أرغفة الخبز فوق رؤوسهن، ونساء حُملن فوق كواهل نساء، وفتيان وشيوخ قبضوا أكفهم ولوحوا بها منذرين؛ وفوقهم رفرفت رايات ونُشرت لافتات مكتوب عليها عبارات وشعارات تطالب بإقصاء الحاكم ومَن يشاركونه، مِن رجال ونساء، عن سُدَّة الحُكم؛ وكانت ثمة حوائلٌ مِن أسلاك وقواطع ومتاريس تسد عدداً مِن المداخل والمخارج، وفى الطرف تراصت صفوف الجنود القابضين على أعنة الكلاب والهراوات والبنادق المزودة بكؤوس إطلاق القنابل وغير المزودة.

      ورأيتُ فى جسد مُعلمى اختلاجات أعرفها، وأعرف ما يتبعها، وقد حدث. ارتقى بعض أشياء وخطب فى الجموع المحتشدة بما لم أتمكن من سماعه، لانشغالى بدفع المحتشدين عنه حتى لا يسقط أو يصيبه أذى، لكننى لاحظتُ أنه أزاد التهاب الميدان التهاباً، وتمكنتُ مِن التقاط ما ختم به خطابه فقد قال:

     ـ بوركتَ مِن شعبٍ لا يفرط فى حقه، ويحرص على محاسبة حكامه.

     وكأنه نطق بما نطق لحيظة بلوغ السيل الزبى، فما أسرع ما ماج الميدان بتلاطمات الأجساد والمعادن ونهشات الكلاب وضربات الهراوات. ومن جوف الميدان وفى سمائه فرقعتْ رصاصات وتصاعدت أدخنة وظهرت عربات والتوت خراطيم مياه وقُذفتْ أحجارٌ وطارت مقاعد وأثاثات، وصار الناس والجنود يتساقطون والعربات تحشر بالمجروحين ومهشمى العظام. وعلى الرغم من حرصى نالت مُعلمى ضربات مِن هراوة تلقاها بين حقويه وفوق ساقيه. ضربات لو مسنى بعضها لهويتُ، لكنه تحامل علىّ وحجل، واجتاز بى الجثث والرايات واللافتات المكومة وصُور الجليل الممزقة، وأخرجنى مِن الميدان مِن حيث لم ندخل.

    وإذ أريض أنفاسى عجبتُ لماذا لم تُشَل اليدُ التى ضَربتْ مُعلمى، لكننى ما لبثتُ أنْ اطمأننتُ إلى أنَّ نجاتنا مِن هذه المقتلة هو إعجاز يهون أمامه أى إعجاز.

 (11)

     بلهاثى وعَرجة مُعلمى دخلنا الجادة المتمركزة فيها مؤسسات الإدارة والحكم، عرفنا هذا مِن شموخ مبانيها وأسوارها وبواباتها والحراسات المكثفة حولها، قبل أنْ نقرأ لافتاتها الفخيمة.

     وعند التقاء أحد الشوارع الجانبية بالجادة، رأينا فى ركن يكفل الظهور ويحمى مِن أعين الحراس رجلاً يجلس تحت صورة الرجل الجليل متربعاً فوق بلاط الرصيف وقد خاط شفتيه وعلق فى رقبته لوحةً مكتوب عليها "أحتج". الخيوط المُدَمَّاة دكن لونُها فبانت غُرَزُها وعُقدُها فوق الشفتين خفيفتى الزرقة مِن طول انطباقهما ورسمتْ لوحة ًتضج بالمعانى الواضحة.

     فوق رأس الرجل قال مُعلمى:

     ـ صوت هذا الرجل يصم الآذان..

     ثم نظر إلى المؤسسات المتراصة بطول الجادة وأكمل:

     ـ .. لكن المؤسسات التى اعتادت سماع دبيب النمل صُمَّتْ عن صراخ هاتين الشفتين المُطبقتين.

(12)

     فى نفس الجادة تقابل مبنيان. مبنى مجلس النواب، ومبنى المجلس الحكومى.

     مبنى مجلس النواب قصير، مُقبب، وبه شىءٌ من ملوسة، وبابه كالشق وهو فى مجمله يشبه الحِر. أما مبنى المجلس الحكومى فخشن، طويل، منتصب، والحرس أسفل منه كثيفٌ كالشعر فوق الصَفَن، وهو فى مجمله يشبه الإيْر.

     هكذا وصفتُ المبنيين لمُعلمى بطلبٍ منه. وعلى الرغم مِن أننى كنتُ جاداً ومُكدَّرَاً بسبب ما نالنى مِن تعب ونال مُعلمى مِن ضربات إلا أنَّ مُعلمى ابتسم وقال:

     ـ ربما تكون قد اكتشفتَ سر التذاذ هذه المدينة وانبساطها.

(13)

     فيما بعد الغسق، فى ميدان عام بمكان قصى، مُدَّتْ شاشة عرض ضخمة انطبعتْ عليها صورة الرجل الجليل، وقد تكاثفت أمام المنصة التى يجلس إليها لاقطات الصوت، وملامحه هى ملامح كل الأجلاء عندما يواجهون الأزمات ويبشرون كالعادة بحلها، ولم يكن بالميدان سوى أنفار قلائل ومِن بينهم كلانا: مُعلمى وأنا، وسمعناه وشاهدناه يقول:

     ـ على الرغم مِن أنَّ الوضعَ صعبٌ، والمشكلات عويصة، فإننى أعتقد أنَّ العلاج ممكن وميسور، ولا أقول إنَّ الأمرَ سهلٌ جداً، فالوقت وقت التصارح، ولن تجدوا حاكماً يصارح شعبه بالقدر الذى أبديه لكم. لذا فإننى أقول لكم إنَّ الآفات قد التهمت بالفعل مزروعاتنا، والآخرون باتوا يصنعون مِن حبوبهم، التى كانوا يبيعونها إياها، وقوداً يسمونه الوقود الحيوى؛ ونحن لا ننتج ما نأكل أو نلبس، لأن هذه هى طبيعتكم، وأعداد أبنائنا تتزايد، وجهاز السوق لدينا مختل، وأعداؤنا يتربصون بنا الدوائر، يحاصروننا ويكسبون كلَّ يوم صديقاً.. هل مِن بعد ما سمعتم مصارحة؟.. لكننى كحاكم وصديق لكل فرد مِن أفراد شعبى أقول لا تستمعوا إلى المأجورين والمخدوعين والقلة المندسة والغوغاء ومثيرى الشغب، لا تستمعوا إليهم لأنهم لا يبغون سوى تخريب حيواتكم وتدمير مدينتكم، وأبشروا.. أبشروا يا أفراد شعبى فالصورة لن تظل على هذه الدرجة مِن القتامة، لأننى - من فرط انشغالى بكم وبقضاياكم ـ تمكنتُ مِن تأليف روايتين رومانتيكيتين تمجدان أصالتكم، وقرضتُ دستة مِن القصائد الملتهبة حماساً، وأتابع الآن بالجد والصرامة الواجبتين طبع ومراجعة الروا يتين، وتلحين القصائد وتوزيع موسيقاها واختيار المغنيين الذين سيصدحون بها؛ وإننى لعلى يقين مِن أنكم يا شعبى المثابر ستجدون فيها العون العظيم لتجاوز الأزمة والانطلاق صوب المستقبل بخطى وثابة وقلوب مفعمة بالرضا والطرب.

     عند نهاية هذه الجملة مِن الخطاب الذى لم تبد نهايته قريبة تأهب مُعلمى للانصراف فسألته قبل أنْ يتحركَ عن حقيقة ما شاهدناه على الشاشة وسمعناه مِن مكبرات الصوت:

     ـ أهى نكتة يا مُعلم ؟

     فرَدَّ على سؤالى بسؤال:

     ـ وهل رأيته يبتسم؟

      ثم غادر الميدان وأنا معه وفى إثرنا أخلى الأنفار القلائل الميدان.

(14)

     جعلتُ مِن زندى متكأً لمُعلمى لمَّا وقف أمام المتجمهرين فى المكان القصى الخالى إلا من صورة الجليل وأنشأ يخطبُ، ولا ينى يشير إلى الصورة مِن حين إلى آخر، وختم خطبته فقال:

     ـ .. أى شىء تُراه سيفعله مِن أجلكم ذلكَ الذى أهطعتم لإرادته أعناقكم، وأخضعتم لسطوته أقداركم؟.. وهل مِن بادرة خير واحدةٍ تتوقعونها مِن ذلكَ الذى مِن أجله جمعتم نضار البَرِّ ولؤلؤ البحر؟.. إذا ما أصابته عطسةٌ أو لفحةٌ مِن هواء، وتحول إلى هر فاجأه صيبٌ، فتكوَّرَ مبلولاً فى أضيق ركن من فراشه الوثير، بأية أوامر سيأمر؟.. هل سيأمر بإعادة الحق لأهله؟.. هل سيطلب الصفح منكم؟..أم سيجأر فى أطبائه: داوونى.. عالجونى.. أنقذونى، ثم يأمر آمرى جنده: ابحثوا عمن عكَّرَ الهواءَ فأعطسنى، وبَرَّده فأمرضنى؟..

     هذا ما لا أقطع بأنه تاه عنكم.. لكننى أقطع بأنكم ما عدتم بقادرين على الامتثال.. تظاهركم يشى ويُفصح، ومسلكه يكشِف ويَفضَح.. فماذا أنتم فاعلون بعد التظاهر؟

     عندئذ دهم المكان جندٌ كثيف، واختلط الحابل بالنابل، فعمدتُ إلى مُعلمى أحميه، وانكفأتُ عليه لئلا تطوله ضربات الهراوات، لكنها طالتنى وطالته، وبأكفهم رفعونا مِن خرقتينا، وحشرونا بين مَن اقتنصوهم فى صندوق واحدة مِن عرباتهم.

(15)

     فى السجن قرنتنا ـ أنا ومُعلمى ـ الأصفاد، وجمعتنا وآمر البوابة القضبان.

     سأل آمرُ البوابة مستنكراً، وقد غمَّه ما آل إليه حاله:

     ـ أهذا جزاء إحسانى إليكما؟

     فردَّ مُعلمى وهو ينظر إلى الضوء المنهمر بين قضبان النافذة الصغيرة:

     ـ كم مِن مُبتلى فى سمعه وبصره ونطقه تخلص مما ابتلى به وهو يئن مِن قسوة ضربات السجان..

     وتنهد وبصره ما زال معلقاً بضوء النافذة ثم قال:

     ـ .. السجون مشاف..

     بعدها التفتَ إلى الآمر المغموم وأكمل:

     ـ .. وإننى لأرجو أنْ تخرج مِن هنا بسمع سليم، وبصر حديد، ولسان قويم.

     وكأن ما رجاه مُعلمى قد تحقق مِن توه ، فقد رقَّتْ ملامح آمر البوابة، وتحرك وجهه باتجاه النافذة فغمره الضوء الباهر، وهتف مخاطباً نفسه:

     ـ كم هو بشع ذلكَ الذى ظنناه جليلاً.

     ونهض فصلصلت القيود فى يديه وقدميه.

(16)

     قال المحقق:

     ـ أنتما متهمان بتحقير الجليل، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بمناوأة الحكومة، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بالحض على كراهية نظام الحكم، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بتكدير الأمن العام، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بتأليب طبقة على طبقة، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بترويج شائعات تمس سمعة أعضاء الحكومة، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بإثارة الشغب فى مجتمع المدينة، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     ومتهمان بمقاومة السلطات، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     وطفق يوجه إلينا التهمة إثر التهمة حتى ظننا أنه ما عادت هناك تهم فى سجلات القضايا لم توجه إلينا، لكن جعبته مع هذا لم تنضب، ومع تلاطم التهم وثبات العقوبة بدأت أشعر باللذة، وبدأتْ انقباضة حالى فى الانبساط، وأحسبُ أنَّ مُعلمى قد سبقنى إلى هذه الحال. توقف المحقق هنيهة وسلَّط عينيه علينا كأنما يسألنا أنْ نتكلم، ولمَّا لم نتكلم وجه إلينا تهمة جديدة:

     ـ  أنتما متهمان بعدم التعاون مع جهة التحقيق، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     وكانت مشاعر اللذة والانبساط قد بلغت عند مُعلمى وعندى إلى منتهاها فطفقنا نضحك ونقهقه كما لم يحدث معنا من قبل. وإذ يقتلعنا الجنود مِن أمام المحقق جاءنا صوته الحانق:

     ـ أنتما متهمان بإهانتى، وعقوبة هذه التهمة فصل الرأس عن الجسد.

     وعند الباب سمعناه يعنف كاتبه:

     ـ يا ويلكَ لو أغفلتَ تدوين تهمة واحدة.

     ولم ننقطع عن القهقهة.

(17)

     عندما اقتادونا إلى ساحة تنفيذ العقوبة، وانتظم المنفذون فى تطبيق المراسم، وبدأتْ الطبول تُقرع، وصُفَّ حاملو البنادق، حَطَّمَ شعبٌ كثيفٌ أسوار السجن فتحررنا والسجناء. وفهمنا أنَّ الثورة قد قامت فى المدينة، وأنَّ الجليل لم يعد جليلاً. والجميل أنَّ آمر البوابة اصطحبنا بعد أن تخلص مِن أصفاده إلى بوابة المدينة، وهناك حرص على استرجاع الوريقتين المدون عليهما تاريخ ووقت دخولنا، ولم ينس أنْ يعيد إلىّ حديدتى وإلى مُعلمى حجرَه وودَّعَنا مبتسماً، لكننا لم نبتسم إلا بعدما واجهنا الصحراء ولمحنا الغزالة واقفة على كثيب بعيد تنتظرنا.

قاسم مسعد عليوة

       

   
<!-- MSCellType="ContentFoot" --> <!-- MSCellFormattingTableID="3" -->
<!-- MSCellFormattingType="content" -->

 

حقوق الطبع محفوظة للمجلس الأعلى للثفافة 2010 - 2011 .

All Rights Reserved ©  www.SCC.gov.eg 2010 - 2011 .

المصدر: المجلس الاعلى للثقافة
consulthamadass

الامناء الاستشاريون للخبرة والتقييم

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 153 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة consulthamadass

ساحة النقاش

الخبيرالدكتورحمادة صلاح صالح www.iraegypt.com

consulthamadass
خبير التقييم المعنمد للتقييم لدي البنك المركزى المصرى خبير الملكية الفكرية بوزارة العدل للمحاكم الاقتصادية المتخصصة خبير تقييم الأثر البيئى للمشروعات وتقييم دراسات الجدوى خبيرتقييم معتمد لدى وزارة اﻻستثمار رئيس الهيئة الادارية والاقتصادية بالمجلس العربي الافريقي للتكامل والتنمية ونائب الرئيس للشئون الاقتصادية بالمجلس خبير تقييم دراسات الجدوى خبير وعضو المجلس »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

679,829