والفن بوصفه أحد جوانب هذه الحياة قد تأثر بدوره بعظمة هذا المنهج، وهو الأمر الذى لابد وأن ينطلق منه أى دارس لما يتعلق بهذا الجانب.
"الفن الإسلامى".. ذلك المصطلح الإشكالى الذى يبدأ هذا الكتاب بمناقشته، وصولا إلى أن المصطلح نفسه لم يكن دينيا لسببين:
أولهما: أن هذا الفن بتعبيراته ومواده وحوامله وأماكن عرضه لم يكن مهموما لا بإيضاح ولا بشرح، ولا بالتبشير بفكرة دينية كما هو الحال مع الفن المسيحي مثلا.
وثانيهما: إن تشخيصيته، وتمثيله للعالم تحضر فى مجالات متنوعة لا علاقة للدين الإسلامى الحنيف بها.
كان الفن الإسلامى – إذن – تعبيرا عن تلك الحضارة التي سادت والتي نتجت عن تطبيق منهج الإسلام فى الحياة، ولذا فإن التلازم بينهما – الفن والإسلام – لا يجعل منهما نتاجا واحدا، بل هي الرؤية الحياتية – الدنيوية – الناشئة فى كنف الحضارة الإسلامية. ولذلك فإن كثيرا من المؤثرات الإسلامية قد دخلت عليه، وأسهم في تطوره وازدهاره الكثيرين من غير المسلمين – العرب – وغيرهم.
والكتاب فى ذلك الصدد بحث حول الفاعلين المستترين، والعناصر المهمشة فى تاريخ الثقافة والفن فى الشرق الأوسط.
وهو يعتمد على ذلك التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والبيزنطية فى منطقة تقاطعهما الجغرافية – الشام وسورية – ذلك التأثير الذى بدأ منذ ما قبل ظهور الإسلام وانتشاره، وهو فى هذا المجال يورد الكثير من المؤثرات العربية على الفن البيزنطي ويدلل على ذلك بالعديد من الأمثلة لعل من أهمها أن المهندس الباني لكنيسة القيامة عام 326 ميلادية هو زنوبيوس، الذى لا يخفى من اسمه أنه عربي وأنه قد تم إلحاق حروف التعريف اليونانية عليه، وعلى ذلك فاسمه هو "الزبائى".
وعلى ذلك فإن الفنانين العرب فى فترة انتشار المسيحية كان لهم الأثر الأكبر فى الفن البيزنطي، كما يدلل المؤلف، وأن الحضارة الإسلامية عندما انتشرت فقد استعانت – أول ما استعانت بمثل هؤلاء الذين يمتلكون خبرة البناء والزخرفة.
هل ساهم السوريون فى الفن البيزنطي؟
يتصدى المؤلف هنا – لمحاولات بعض المستشرقين إثبات تأثير الفنون الأجنبية على الفن الإسلامى، وتجريده – خاصة فى عصره العباسي من أصالته، على اعتبار أنه واقع تحت تأثيرين، أحدهما فارسي والآخر بيزنطي، وهو ما يحاول "إتنجهاوزن" التأكيد عليه عبر العديد من التحليلات المنحازة فى الأصل إلى هذه الفرضية،
ويفند المؤلف هذا الرأي بالعودة إلى واحدة من أشهر المخطوطات التي تروى حكايات عن أباطرة القسطنطينية فى الفترة من 811 م، حتى 1057م، وهى مخطوطة ( دستور أدوية اليونان المدريدي المزين بالصور) المحفوظة فى مكتبة مدريد، والمتضمنة لمائتي وثلاث وثلاثين ورقة، وبها 574 (خمسمائة وأربع وسبعون) منمنمة موزعة. ويورد المؤلف الأدلة العديدة على أن معظم هذه المنمنمات قد رسمها فنان عربي مسيحي، فمن ضمن الرسوم الموجودة بها أقدم رسم فى التاريخ يصور العربي بزيه التقليدي وفيه يظهر الاهتمام بطريقة تثبيت العقال ورسم اللحية، وهى الطريقة التي يشير المؤلف إلى أنها مازالت موجودة حتى الآن لدى مسيحيي الأردن " هام الصورة ص28 بالكتاب"
كما أن أسلوب معظم المنمنمات ينتمي إلى ما يعرف بمدرسة بغداد من حيث التركيز على وضع الجسم الدال على الحركة ورسم الوجوه، إضافة إلى أن الاهتمام بالتفاصيل يوحي بألفة المجتمع العربي لمن قام بالرسم. ويضيف المؤلف أن التعليق على المنمنمات قد تضمن لمرات عديدة كلمة (أمير المؤمنين) مكتوبة بالنطق العربي وبحروف يونانية وهو مما يؤكد عربية الرسام كذلك.
وإذا كانت هذه المخطوطة دليلا قويا على الأثر الذى تركه الفنانون العرب فى الفن البيزنطي فإن المؤلف يورد كذلك دليلا مستمدا من التاريخ، حيث حنا الدمشقي( منصور بن منصور) أحد أهم المعارضين لقرارات الإمبراطور البيزنطي "ليون" بتحطيم الأيقونات، وقد كان الدمشقي مقربا من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وكتب ( ثلاث رسائل ضد من يهاجمون الصور المقدسة ) وكانت هذه الرسائل سببا فى اتهامه بالعمالة لصالح المسلمين.
هذه الدلائل وإن أشارت إلى أثر الفنانين المسيحيين العرب فى الفن البيزنطي فإن هؤلاء العرب – بالتالي – كان لهم أثرهم الكبير فى الفن الإسلامى وهم – كذلك – سبب واضح فى وجود منطقة التقاطع بين الثقافتين، وهو ما يحاول الكتاب إثباته فى معرض الدلالة على أصالة الفن الإسلامى.
بدايات الفن الديني عند العرب
يورد المؤلف العديد من الأدلة على سبق المسيحيين العرب فى إنشاء فن ديني خاص بهم ويدعم ذلك بالاكتشافات الأثرية لعل أهمها اكتشاف رسوم (دورا – أوربوس) "المرفأ التدمري الواقع على نهر الفرات فى سورية"، والتي ظهرت قبل قيام الإمبراطورية البيزنطية بحوالى قرن من الزمان، وتحتوى رسوم (دورا) ( ومعناها الدور أو الديار) على العديد من جداريات المعابد ومنها المعبد اليهودي والمعبد التدمري – وهى الرسوم المحفوظة الآن فى المتحف الوطني بدمشق.
ويرى المؤلف أن رسوم دورا الدينية تظل مشدودة إلى رمزية ما وإلى نسق حكائي مستنبط مباشرة من الكتاب المقدس ولو بأسلوب يمت إلى الشرق القديم بصلة، فى حين إن النظر إلى الرسوم المسيحية الأولى للرومان يجعلنا نتأكد من استلهامها للأسلوب الكلاسيكي السائد حينها فى روما، وهو ما يؤكد – حسب رؤية المؤلف – أصالة رسوم دورا، بل وأثرها فى تطوير الفن الديني المسيحي، في مقابل محاولات مستشرقين مثل شلومبرجه، وجرابر اللذين حاولا بكافة السبل نفى هذا الأثر عن كل الرسوم العربية وعلى رأسها دورا. " صورة ص 66".
ومن ناحية أخرى فإن جولة بين المصادر العربية التاريخية ستجعلنا نتأكد من أن العرب – المسلمين– ومنهم الحكام قد عرفوا الرسوم التصويرية الدينية – الأيقونات – وتعاملوا معها بسماحة متناهية الحد.
وقد عرفت الأيقونات بلفظة (القونة)، وانتشرت صناعتها في الشام وتم تقديمها لإشاريتها ورمزيتها الدينية عند المسيحيين، وزينت بها الكنائس.
ويورد الكتاب العديد من القصص حول تعامل المجتمع الإسلامى وحكامه مع التقديس المسيحي للأيقونة بفهم واضح لطبيعة هذا التقديس، وقد استدل الكتاب على ذلك بمراجع تاريخية مثل: طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة، وتاريخ مختصر الدول لابن العبري، و"ميمر في إكرام الأيقونات" لثاودورس أبى قرة، والديارات لأبى الحسن على بن محمد الشابشتي، وكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، وتاريخ الأقباط للمقريزي، وتاريخ الأفعاكي، وتاريخ مكة للأزرقي، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، والعديد من المراجع التاريخية التي استفاض الكتاب فى نقل دلائله منها.
الرسم الديني في مصر
أثبتت الاكتشافات الأثرية أن المسيحيين فى القرن الأول فى مصر قد زينوا أماكن معينة كأماكن العبادة والمقابر بمناظر من الكتاب المقدس وصور يسوع والرسل والآباء الأوائل. كما أنه قد وجدت فى الفترة من القرن الأول إلى القرن الرابع صور لآلهة وثنية مرسومة على قطع خشبية وهى تعد من الأشكال السابقة على الأيقونة، وبينهما شبه يثبته المؤلف (في الملابس مثلا). كما أن معظم الأيقونات التي ترجع إلى زمن ما قبل تحطيم الأيقونات تم العثور عليها فى مصر أو ظلت محفوظة بدير سانت كاترين.
وقد استمر رسم الأيقونات فى مصر بعد الفتح الإسلامى لها عام 641 م، وهو الأمر الذي جعل الباحثين يستخلصون أن الفن القبطي عند الفتح العربي يعتبر حلقة اتصال بين الفنون المصرية القديمة والفن الإسلامى، وخصوصا أن استخدام الأيقونات للخط العربي المكتوبة به نصوصها يعمق توطنها فى الثقافة العربية، فالكتابة هنا ليست أداة توصيل فحسب لكنها تلعب دورا جماليا ودورا مرجعيا لأنها تحيل على فضاء ثقافي عربي " صور ص 78، 79".
ويشير المؤلف هنا إلى أن الخطاب الأوروبي عن مسيحيي مصر يعانى من خلل بنيوي ظاهر، فالباحث "لوروا" يميز بين ( قبط) و (عرب) متناسيا أن سكان مصر من المسلمين الحاليين كانوا أصلا من الأقباط الداخلين فى الإسلام، ما عدا الموجات القليلة التي جاءت مع الفتح من الجزيرة. إضافة إلى ذلك فإنه من المستحيل أن نفرق الأعمال الفنية القبطية –من الناحية الجمالية- عن أعمال التصوير الإسلامى. حيث الأسلوب موحد يشترك فيه جميع الفنانين المصريين لأنه ينتج عن طبيعة ثقافية واحدة. وهو الأمر الذى يسلمنا إلى ملاحظة الاندراج المسيحي العربي ضمن الحضارة الإسلامية.
اندراج المسيحيين العرب فى الحضارة الإسلامية
يرى المؤلف هنا أن هذا الاندراج لا يمثل أى نفى لتقاليدهم الدينية، أو تقليل من شأنها، وأن سبب ذلك هو وجود ذلك التشابه التاريخي والجغرافي والإنساني بين المسيحيين العرب وأقرانهم من المسلمين حيث أنهم أبناء حضارة واحدة، وثقافة واحدة ذات تشعبات وظلال. كما أن ردود فعل المسيحيين العرب إزاء الإسلام لم تكن متوترة على الإطلاق، بل إن تاريخ الحضارة الإسلامية يشهد اندغاما مسيحيا فى جميع الفعاليات الثقافية و الاقتصادية، وسنرى – إذا استقرأنا هذه الحضارة – العديد من الأسماء المسيحية لمشاهير المترجمين والأطباء، وعلى ذلك فقد أدرجت الأعمال الفنية المعمولة على يد فنانين وحرفيين مسيحيين ويهود ضمن منجزات الحضارة العربية الإسلامية، من طرف البحث العلمي. وهو الأمر الذى يمكن معه ملاحظة العناصر العربية والإسلامية فى المنمنمات وهى – كما يوردها المؤلف:
1- العقال والعمامة والزى العربي، واللحى، وأزياء المحاربين، وهى أشياء تظهر بكثرة وبدقة لا يمكن تجاهلها (صورة ص 101) وبإلحاح على صورة بصرية موحدة للعربي نتجت عن ألفة الرسام لها.
2- الإشارات الجسدية: وهى إشارات درامية تتشابه – حسبما يرى المؤلف – مع المدرسة العراقية وتظهر إما بالأيدي أو العيون أو الوضعية العامة للشخوص، ويمكن التمثيل عليها بالمنمنمة ( صورة ص 109) التي تصور أميرا عربيا وفى حضرته سفير أجنبي وإشارة إصبع الأمير لأعلى تدل على دعوته للسفير لعبادة الله الأعلى الأحد.
3- معالجة الفضاء: كانت الخلفية المعمارية في المنمنمات الإسلامية عمارة رمزية أكثر مما هي حقيقة، فالصورة مفهومية من جهة الفضاء، ثم تطور الأمر – داخل هذا النطاق حيث إن حدود وأطراف الأبنية المرسومة تغدو كأنها مجرد إطارات خارجية للشخوص لأنها تظل مجرد ديكورات.
4- أزياء النساء: لم يكن تصوير معظم الرسامين أزياء النساء -المفترض أنهن بيزنطيات- سوى تصوير دقيق لملابس الفلاحات الشاميات التي يمكن أن نراها اليوم فى لبنان وسورية وفلسطين والأردن وشمال العراق ( صورة ص 122). كما أن بعضهم في تصويره للعذراء مريم يصورونها بلباس عربي، وهو ما أثر على فناني الغرب حين عالجوا الموضوع نفسه فصوروا السيدة مريم مرتدية ما يشبه العقال الخفيف أو رداء يشبه أزياء المغرب العربي مثل أعمال "دومينيكو" و "لانداجو" الإيطالى المتوفى سنة 1494 ( صورة ص 124، وأخرى ص 123).
الفن الإسلامي واستلهام مشاهد إنجيلية
لم يقتصر الأمر بطبيعة الحال على مجرد تأثير أفراد مسيحيين فى الفن الإسلامى وطبيعته، بل إن التسامح الديني قد بلغ ذروته للدرجة التي نجد بها العديد من الفنانين المسلمين يتأثرون بالتراث المسيحي العربي بوصفه مكونا مهما من مكونات التراث والثقافة العربية. وبالتالي فإن الفن الإسلامى قد استلهم مشاهد إنجيلية. ويورد المؤلف أمثلة على ذلك مثل الحوض الكبير الذى يحمل اسم ولقب الملك الصالح أيوب، سلطان مصر والشام، وهو مزين بمشاهد مأخوذة من الإنجيل. وكذلك زخرفة أحد الشمعدانات المصنوعة عام 1248 من قبل فنان من الموصل التي استعارت مشاهد من حياة السيد المسيح.
وأبرز مثال على ذلك "طست" موجود الآن بمتحف اللوفر، ومسمى معمرانية القديس لويس، وهو يحمل توقيع الفنان المسلم محمد بن الزين الذى وقع عليه ست مرات – ربما لتأكيد إسلامية الصانع وتأكيد مدى السماحة التي عاش فيها أصحاب الدينين.
ولم يقتصر الأمر على هذا الجانب بل إن الكتاب يورد – كذلك – العديد من الأمثلة على توقيعات فنانين مسيحيين على أعمال تندرج ضمن الفن الإسلامى وذلك مثل: يعقوب ابن اسحق الدمشقي الذي وقع بالخط الكوفي على مبخرة تظهر فيها السمات الإسلامية – القرن الثامن الميلادي – (صورة ص 163). ودليل بن يعقوب النصراني المتوفى سنة 852، وهو مهندس المنارة الملوية للمساجد، والتي تعد نمطا نادرا ومهما في الفن الإسلامي ( صورة ص 165)
كما يورد الكتاب – كذلك – أحد عشر اسما لفنانين مسيحيين اشتهروا بأعمالهم الفنية الإسلامية، وهو الأمر الذي يستدل به المؤلف على كون المجتمع الإسلامى فى اتساع دولته وتطور حضارته مجتمعا متعدد الديانات.
ختام ..
الموقف من التصوير التشخيصي
يورد الكتاب العديد من المواقف حيال التصوير التشخيصي لعل أهمها موقف الإمبراطور البيزنطي "ليون" المعادى لهذا النوع، ورد ابن منصور عليه. وهو يورد هذا الأمر بوصفه قضية مسيحية فى الأساس لكن فى الوقت ذاته عندما يناقش موقف الإسلام – بوصفه شريعة – من الرسم التصويري فإنه يستدل على رأيه – المناصر للتصوير بالطبع – بآراء الفلاسفة ابن سينا والفارابي وابن رشد، وحتى فى استشهاده الوارد بالحديث النبوي الشريف الوارد فى رياض الصالحين للإمام النووي "عن ابن عباس رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله (ص) يقول: كل مصور فى النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه فى جهنم – قال ابن عباس : فإن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر ومالا روح فيه" متفق عليه. يورد المؤلف هذا الحديث معلقا بأن اعتراض أبى حرة على تصوير الشجر موجه إلى علماء المسلمين الذين يبيحون تصوير الشجر.
وهذا خلط بين الرسول عليه الصلاة والسلام وعلماء الفقه، كما أن المؤلف يستدل به على أن الموقف المعارض للتصوير التشخيصي كان لدى المسيحيين أعنف وأشد تطرفا من المسلمين وهو ما يوحى بالفكرة الرئيسية التي يدور حولها الكتاب من وحدة المجال الثقافي الذي تحرك فيه كل من المسلمين والمسيحيين داخل إطار الحضارة الإسلامية.
ساحة النقاش