إن الإثبات في جرائم السب أصبح غير جائز بعد تعديل المادة 265 من قانون العقوبات طبقاً للقانون رقم 35 لسنة 1932 الصادر في 10 يوليه سنة 1932 بحذف العبارة الأخيرة من الفقرة الثالثة منها، أي عبارة "وذلك مع عدم الإخلال في هذه الحالة بأحكام الفقرة الثانية من المادة 261 عقوبات".
الحكم كاملاً
مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثالث (عن المدة بين 7 نوفمبر سنة 1932 وبين 26 أكتوبر سنة 1936) - صـ 274
جلسة 5 مارس سنة 1934
برياسة سعادة عبد الرحمن سيد أحمد باشا وحضور حضرات مصطفى محمد بك وزكي برزي بك وأحمد أمين بك وعبد الفتاح السيد بك.
(215)
القضية رقم 378 سنة 4 القضائية
سب وقذف:
( أ ) صحافة. رئيس التحرير. مناط مسئوليته.
(ب) سب وإهانة. عدم جواز إثباتهما بعد تعديل المادة 265 ع.
(المادتان 159 و265 فقرة أولى وثالثة عقوبات)
(جـ) القصد الجنائي في جرائم السب والإهانة. متى يتوافر؟
(المادة 265 عقوبات)
1 - رئيس التحرير المسئول جنائياً طبقاً لأحكام قانون العقوبات والمسئول إدارياً طبقاً لأحكام قانون المطبوعات، يجب أصلاً أن يكون رئيساً فعلياً، أي أنه يجب أن يباشر التحرير بنفسه أو يشرف عليه أو يكون في استطاعته هذا الإشراف؛ واتفاقه مع شخص آخر على القيام بوظيفة رئيس التحرير لا يدرأ عنه هذه المسئولية بعد أن أخذها على نفسه رسمياً بقيامه بالإجراءات التي يقتضيها قانون المطبوعات، وإلا لأصبح في استطاعة كل رئيس تحرير أن يتخلى عن هذه المسئولية بإرادته.
ومسئولية رئيس التحرير الجنائية مبنية على افتراض قانوني بأنه اطلع على كل ما نشر في الجريدة، وأنه قدّر المسئولية التي قد تنجم عن النشر، ولو لم يطلع فعلاً. وهو لا يستطيع دفع تلك المسئولية بإثبات أنه كان وقت النشر غائباً عن مكان الإدارة، أو أنه وكّل إلى غيره القيام بأعمال التحرير، أو أنه لم يطلع على أصل المقالة المنشورة، أو أنه لم يكن لديه الوقت الكافي لمراجعتها. ويظهر من ذلك أن المسئولية الجنائية في جرائم النشر أتت على خلاف المبادئ العامة التي تقضي بأن الإنسان لا يكون مسئولاً إلا عن العمل الذي يثبت بالدليل المباشر أنه قام به فعلاً، فهي إذن مسئولية استثنائية رتبها القانون لتسهيل الإثبات في جرائم النشر؛ ومتى كان الأمر كذلك فلا يجوز التوسع في هذا الاستثناء أو القياس عليه، ويجب قصر تلك المسئولية الفرضية على من نص القانون عليهم بشأنها. فمتى وجد رئيس التحرير، بحسب ما تقدّم بيانه، أصبح هو وحده المسئول جنائياً بهذا الوصف عن كل ما ينشر في الجريدة التي يرأس تحريرها ولا يجوز أن تتعدّى هذه المسئولية الفرضية إلى غيره ممن يقومون بالتحرير أو يتولون رياسته فعلاً. على أن هؤلاء المحررين لا يكونون بمنجاة من العقاب على ما تسطره أيديهم، بل هم مسئولون أيضاً، غير أن مسئوليتهم خاضعة للقواعد العامة في المسئولية الجنائية، فيجب لإدانتهم أن يثبت من الوقائع أنهم حرروا فعلاً المقال موضوع الاتهام أو أنهم اشتركوا في تحريره اشتراكاً يقع تحت نصوص قانون العقوبات.
2 - إن الإثبات في جرائم السب أصبح غير جائز بعد تعديل المادة 265 من قانون العقوبات طبقاً للقانون رقم 35 لسنة 1932 الصادر في 10 يوليه سنة 1932 بحذف العبارة الأخيرة من الفقرة الثالثة منها، أي عبارة "وذلك مع عدم الإخلال في هذه الحالة بأحكام الفقرة الثانية من المادة 261 عقوبات". وتلك الأحكام التي تشير إليها تلك العبارة هي الأحكام الخاصة بالطعن الجائز في أعمال الموظفين إذا حصل بسلامة نية وبشرط إثبات حقيقة كل فعل أسند إلى الموظف. [(1)]
3 - القصد الجنائي في جرائم السب والإهانة يعتبر متوفراً متى كانت ألفاظ السب وعبارات الإهانة متضمنة لعيب معين أو خادشة للناموس والاعتبار.
الوقائع
اتهمت النيابة العمومية هذين المتهمين بأنهما في المدّة الواقعة بين أول مارس سنة 1933 و26 مايو سنة 1933 بدائرة مدينة القاهرة، الأوّل بصفته رئيساً لتحرير جريدة الصريح، والثاني بصفته مؤلفاً لعبارات الإهانة والقذف الآتي ذكرها والقائم بنشرها مع علمه بما فيها: (أولاً) أهانا وسبا علناً هيئة مجلس الوزراء بأن نشرا في الأعداد الثالث والرابع والخامس والسادس من السنة الثانية من الجريدة المذكورة الصادرة في 2 و9 و16 و23 مارس سنة 1933 والتي طبعت وعرضت للبيع على الجمهور مقالات وصورة تحت عنوانات "واجب الأمة" و"أحلام وآمال" و"لو" و"سياسة الإشاعة" و"السير برسى لورين ومشاكله" نسبا فيها إلى الوزارة أنها تستمد وجودها من الإنجليز وأنها بغيضة من الأمة وتعمل على الحجر على الحرّيات وإيذاء أغلبية الشعب بشتى ضروب القهر والإعنات وجوّها جو مظلم حالك لا تسود فيه الطمأنينة ولا تستقر النفوس وأقامت في الحكم ثلاثة أعوام كتم المصريون فيها الدم على الصديد وصبروا صبر أيوب الحكيم. وقد تمكن السير برسى لورين من الحصول منها على فوائد ومزايا لا يمكن الحصول عليها من سواها إلى غير ذلك مما ورد في المقالات والصورة من ألفاظ السب والإهانة. (ثانياً) قذفا علناً حضرة صاحب السعادة عبد الفتاح صبري باشا وكيل وزارة المعارف بسبب أداء وظيفته بأن أسندا إليه كذباً أموراً لو كانت صادقة لأوجبت احتقاره عند أهل وطنه نشراها في العدد الخامس عشر من السنة الثانية من الجريدة المذكورة الصادر في 25 مايو سنة 1933 الذي طبع وعرض للبيع على الجمهور وذلك بأن نشرا في الصفحة الثانية والعشرين من العدد المشار إليه مقالاً تحت عنوان "الميردي ديو" أسندا فيه لسعادة عبد الفتاح صبري باشا الجهل بعلم التربية إذ أقرّ ونفذ نظرية لا تتفق مع ما قرّره علماء هذا العلم وهي أن المذاكرة وحفظ الدروس غير ضروريين في تعليم البنات. (ثالثاً) قذفا علناً حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا وحضرة صاحب العزة الدكتور محمد بك حسين هيكل وحضرة صاحب السعادة حمد باشا الباسل بأن أسندا إليهم أموراً لو كانت صادقة لأوجبت احتقارهم عند أهل وطنهم نشراها في العددين الخامس والثالث عشر من الجريدة المذكورة الصادرين في 16 مارس سنة 1933 و11 مايو سنة 1933 واللذين وزعا وعرضا للبيع على الجمهور، وذلك بأن نشرا على غلاف العدد الخاص صورة تمثل شخص حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا والدكتور محمد حسين هيكل بك؛ ونشرا في الصفحة الخامسة من العدد الثالث عشر صورة تمثل شخص حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا وصاحب السعادة حمد باشا الباسل، وكتبا أسفل هاتين الصورتين تحت عنوان "على دار المندوب السامي" وعنوان "مزاد" عبارات أسندا فيها وفي الصورتين إليهم أنهم مترامون على أعتاب دار المندوب السامي يعرضون على الإنجليز خدمتهم ومتهافتون على تأليف الوزارة وسالكون لذلك طريقة مساومة الإنجليز وممالأتهم والاتفاق معهم. وطلبت من محكمة جنايات مصر محاكمتهما بالمواد 159 و261 فقرة أولى وثانية وثالثة و262 فقرة أولى وثالثة و148 فقرة أولى وخامسة و166/ 1 مكررة و168 من قانون العقوبات. ومحكمة جنايات مصر بعد أن سمعت هذه الدعوى حكمت حضورياً بتاريخ 28 أكتوبر سنة 1933 عملاً بالمادة 50 من قانون تشكيل محاكم الجنايات ببراءة المتهمين مما أسند إليهما. فطعن حضرة رئيس نيابة مصر في هذا الحكم بطريق النقض في 12 نوفمبر سنة 1933 وقدّم حضرته تقريراً في 14 منه بأن الحكم لم يختم في الميعاد ودعمه بشهادة من قلم الكتاب، ثم قدّم تقريراً بالأسباب في 12 ديسمبر سنة 1933.
المحكمة
بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانوناً.
من حيث إن الطعن قدّم وبينت أسبابه في الميعاد القانوني فهو مقبول شكلاً.
ومن حيث إن محصل الطعن فيما يختص بالتهمة الأولى أن الحكم المطعون فيه قسم المطاعن الواردة بالمقالات والصورة موضوع تلك التهمة إلى قسمين قسم خاص بتصرفات الوزارة الإدارية وقسم خاص بالتصرفات السياسية، وصرفت المحكمة المطاعن الواردة بالقسم الأوّل إلى تصرفات معينة لبعض الموظفين قائلة إن الكاتب قد قصدها بكتابته، وأباحت له نقدها بالصورة التي وردت في المقالات. وقالت عن القسم الثاني إن المطاعن الواردة به خالية مما يخدش شرف وكرامة أشخاص الوزراء. أما ما فيها من المساس باعتبار الوزارة السياسي فلا عقاب عليه لأن التطاحن السياسي يبرره. وقد أخطأت المحكمة فيما ذهبت إليه خاصاً بالمطاعن الواردة بالقسمين، وقد تكفلت محكمة النقض بإظهار هذا الخطأ في الحكم الصادر منها بتاريخ 14 مارس سنة 1932 في القضية رقم 66 سنة ثانية قضائية. فضلاً عن أن النظرية التي ذهبت إليها المحكمة في تبرير المطاعن الواردة في القسم الثاني لا تتفق مع رغبة المشرع الظاهرة في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 97 سنة 1931 فالمشرع قد تعمد القضاء على النظرية التي أخذت بها المحكمة؛ ومتى كانت رغبة المشرع ظاهرة فيجب على القاضي أن يتقيد بها وليس له أن يحيد عنها. أما فيما يختص بالتهمة الثانية فقد حكمت المحكمة ببراءة المتهمين بدعوى أن الخبر موضوع هذه التهمة خال من القذف إذ أن الذي يدل على الجهل بقواعد علم التربية منسوب صدوره ابتداءً إلى كريمة المجني عليه لا إلى المجني عليه ذاته، وهذا التخريج خاطئ إذ ظاهر من الاطلاع على الخبر أن الكاتب له قصد نسبة الجهل إلى المجني عليه وكيل وزارة المعارف بإقراره نظرية لا تتفق مع ما قرره علماء علم التربية وهي أن استذكار الدروس غير ضروري في تعليم البنات وتنفيذ هذه النظرية في كريمته، فأخبار كريمة المجني عليه لا تعني أحداً ولا مصلحة لأحد في نشرها وإنما اتخذها الكاتب وسيلة للنيل من والدها وقذفه كما هو مدلول العبارة وسياق الكلام.
وفيما يختص بالتهمة الثالثة قد حكمت المحكمة ببراءة المتهمين منها بحجة أن الأمور المسندة إلى المجني عليهم فيها هي مجرّد تجريح لهم في رأي سياسي ارتأوه على اعتبار أنهم من الرجال السياسيين الذين يحل انتقادهم في آرائهم السياسية بمثل هذا التجريح للاعتبارات التي سبق ذكرها عند الكلام على المطاعن السياسية التي وجهت إلى الوزارة في المقالات السابقة. وتقول النيابة إن هذا خطأ انساقت إليه المحكمة بالنظرية الخاطئة التي أخذت بها وبان خطؤها في الشطر الثاني من التهمة الأولى. ثم اختتمت النيابة مطعنها هذا بأن القضاء قد استقر على أن لمحكمة النقض حق تقدير مرامي العبارات في جرائم النشر لأنه وإن عدّ ذلك في الجرائم الأخرى تدخلاً في الموضوع إلا أنه في جرائم النشر وما شابهها يأتي تدخل محكمة النقض من ناحية أن لها بمقتضى القانون تعديل الخطأ في التطبيق على الواقعة كما هي مثبتة في الحكم، وما دامت العبارات المنشورة هي بعينها الواقعة الثابتة في الحكم صح لمحكمة النقض تقدير علاقتها بالقانون من حيث وجود جريمة فيها أو عدم وجودها، وإنه بناء على ذلك تحتكم النيابة العمومية إلى محكمة النقض طالبة منها تطبيق القانون تطبيقاً صحيحاً.
ومن حيث إن المتهمين دفعا ببطلان الطعن شكلاً بالنسبة للتهمتين الأولى والثالثة لعدم بيان أسباب الطعن فيهما ولاكتفاء النيابة بالقول إن محكمة الموضوع أخطأت في تأويل القانون وتطبيقه، ولم تذكر وجه هذا الخطأ بالنسبة للتهمتين المذكورتين.
ومن حيث إن النيابة العامة بينت في تقريرها أسباب طعنها بأن أحالت على حكم محكمة النقض الصادر في مثل التهمة الحالية لبيان وجه خطأ محكمة الموضوع في تطبيق القانون، ثم احتكمت لمحكمة النقض طالبة منها تطبيق القانون على الوقائع الثابتة في الحكم؛ ولا يطلب من النيابة أن تزيد على هذا البيان خصوصاً وإن الخلاف في جرائم النشر محدود وقاصر على تأويل عبارات السب والإهانة والقذف، وقد احتكمت النيابة لمحكمة النقض في هذا التأويل، ولذلك يكون هذا الدفع على غير أساس.
ومن حيث إن المتهم الثاني دفع بأنه غير مسئول جنائياً عن المقالات والصور موضوع الاتهام لأنه ليس رئيس تحرير مجلة الصريح التي نشرت المقالات والصور المذكورة ولم يكن الكاتب لها وإنما هو مدير للمجلة المذكورة فقط، وقد أثار هذا الدفاع أمام محكمة الموضوع ولكنها لم تتعرّض له في حكمها.
ومن حيث إن النيابة العامة رفعت هذه الدعوى على المتهمين بصفة الأوّل رئيساً لتحرير جريدة الصريح وبصفة الثاني مؤلفاً لعبارات الإهانة والقذف والقائم بنشرها مع علمه بما فيها. فلما سئل المتهمان أما المحكمة اعترف أولهما بأنه رئيس التحرير وأنه مسئول عن كل شيء خاص بالجريدة، وأنكر الثاني أنه رئيس تحرير كما أنكر اطلاعه على المقالات قبل نشرها، وقرر بأنه مدير الجريدة فقط. وعند ذلك صرحت النيابة بأن المتهم الأوّل هو رئيس التحرير المسئول، وأن المتهم الثاني رئيس التحرير الفعلي وليس مؤلفاً، ودللت على أنه رئيس تحرير فعلي بعقد اتفاق بين المتهمين ضبطته عند تفتيش إدارة الجريدة وتقول إنه يفيد ذلك المعنى، وأنكر المتهم الثاني تنفيذ هذا العقد، ثم صدر الحكم المطعون فيه خالياً من الإشارة إلى هذا الدفاع؛ ويظهر أن المحكمة لم تر حاجة لبحثه ما دام أن موضوع التهمة في نظرها لا جريمة فيه.
ومن حيث إن القول من النيابة العامة إن المتهم الأوّل رئيس تحرير مسئول وإن الثاني رئيس تحرير فعلي قد يشعر بأن رئيس التحرير المسئول يصح أن يكون غير رئيس التحرير الفعلي مع أن رئيس التحرير المسئول جنائياً طبقاً لأحكام قانون العقوبات والمسئول إدارياً طبقاً لأحكام قانون المطبوعات يجب أصلاً أن يكون رئيساً فعلياً أي أنه يجب أن يباشر التحرير بنفسه أو يشرف عليه أو يكون في استطاعته هذا الإشراف، وقد اعترف المتهم الأوّل بأنه رئيس التحرير وأنه المسئول عن كل ما يرد بجريدته وأنه قام بما يوجبه عليه قانون المطبوعات من الالتزامات أي أنه يعترف صريحاً بأنه رئيس التحرير الفعلي. ولا يقلل من قيمة هذا الاعتراف أنه اتفق مع المتهم الثاني على القيام بوظيفة رئيس التحرير لأن هذا الاتفاق مع فرض تنفيذه فعلاً لا ينفي أن المتهم الأوّل يشرف على التحرير وأنه يوجهه كيف يريد.
ومن حيث إنه متى ثبت أن المتهم الأوّل هو رئيس التحرير المسئول قانوناً سواء باشر بنفسه أم بواسطة غيره عمل التحرير يبقى معرفة مركز المتهم الثاني من الوجهة الجنائية بفرض أنه نفذ عقد الاتفاق متقدّم الذكر وأنه يقوم بمهمة التحرير فعلاً.
ومن حيث إن مسئولية رئيس التحرير الجنائية مبنية على افتراض قانوني بأنه اطلع على كل ما نشر في الجريدة وأنه قدّر المسئولية التي قد تنجم عن النشر ولو لم يطلع فعلاً. فلا يستطيع دفع تلك المسئولية بإثبات أنه كان وقت النشر غائباً عن مكان الإدارة أو أنه وكّل غيره بالقيام بأعمال التحرير أو أنه لم يطلع على أصل المقالة المنشورة أو أنه لم يكن لديه الوقت الكافي لمراجعتها. ويظهر من ذلك أن المسئولية الجنائية في جرائم النشر أتت على خلاف المبادئ العامة التي تقضي بأن الإنسان لا يكون مسئولاً إلا عن العمل الذي يثبت بالدليل المباشر أنه قام به فعلاً. فهي إذن مسئولية استثنائية رتبها القانون لتسهيل الإثبات في جرائم النشر، ومتى كان الأمر كذلك فلا يجوز التوسع في هذا الاستثناء أو القياس عليه، ويجب قصر تلك المسئولية الفرضية على من نص القانون عليهم بشأنها. فمتى وجد رئيس التحرير بحسب ما تقدّم بيانه أصبح هو وحده المسئول جنائياً بهذا الوصف عن كل ما ينشر في الجريدة التي يرأس تحريرها ولا يجوز أن تتعدّى هذه المسئولية الفرضية إلى غيره ممن يتولون فعلاً التحرير. على أن هؤلاء المحررين ليسوا بمنجاة من العقاب فيما تسطره أيديهم، فهم مسئولون أيضاً ولكن مسئوليتهم خاضعة للقواعد العامة في المسئولية الجنائية، ويجب إذاً لإدانتهم أن يثبت من الوقائع أنهم حرروا فعلاً المقال موضوع الاتهام أو أنهم اشتركوا في تحريره اشتراكاً يقع تحت نصوص قانون العقوبات.
ومن حيث إن النيابة العامة لم تثبت من جهة أخرى أن المتهم الثاني حرر المقالات ورسم الصور موضوع الاتهام أو أنه اشترك في وضعها بأية طريقة من طرق الاشتراك.
ومن حيث إنه مما تقدّم يخلص أن المتهم الثاني لا تمكن إدانته على أساس أنه رئيس تحرير فعلي كما تقول النيابة ولا على أساس أنه حرر أو اشترك في تحرير المقالات والصور موضوع الاتهام، ولذلك يكون الحكم الصادر ببراءته في محله ويتعين رفض الطعن بالنسبة له.
عن التهمة الأولى:
ومن حيث إن المتهم الأوّل بصفته رئيس تحرير جريدة الصريح نشر في العدد الثالث من الجريدة المذكورة الصادر في 2 مارس سنة 1933 مقالاً بعنوان (واجب الأمة - استقالت وزارة صدقي باشا أو لم تستقل) جاء فيه "إن الأمة تملكتها رغبات تجيش بنفوس أبنائها أن لو تستقيل وزارة صدقي باشا ينتهي هذا الجوّ المظلم الحال وتسود الطمأنينة وتستقر النفوس والواقع أنه ليس أحب إلى هذه الأمة من أن تسقط هذه الوزارة وأن لا ترى وجهها إلى الأبد ولا وجه أية وزارة أخرى تشبهها في الحجر على الحرّيات وإيذاء أغلبية الشعب بشتى ضروب القهر والإعنات". ونشر في العدد الرابع الصادر في 9 مارس سنة 1933 صورة دولة صدقي باشا رئيس الوزارة وقتئذ جالساً على مقعد ويتولى المندوب السامي إدارة آلة للنفخ تتصل برجل صدقي باشا وأمامها أثقال حديدية كتب على الأوّل منها الدفع بالذهب وعلى الثاني شركات إنكليزية وعلى الثالث المصالح الأجنبية وعلى الرابع خزان تسانا وعلى الخامس جبل الأولياء. وقد علق على هذه الصورة بعبارة تحت عنوان "أحلام وآمال" نصها: "انفخ - انفخ وشدّ حيلك قوي... برده ببركة أنفاسك الطاهرة انتع دول وأجعص من دول... بس إياك مكدونالد ميفرحش فينا العدا". ونشر في العدد السادس الصادر في 23 مارس 1933 مقالاً تحت عنوان (سياسة الإشاعات. هل استفادت مصر من ورائها) جاء فيه أن "شهدت مصر من وراء هذه الوزارة فوق ما شهدت من صنوف الكيد والعدوان والقهر والطغيان وسائل غريبة في الدعاية لبقائها في الحكم بواسطة صحفها وبواسطة صحف أخرى تحمل أسماء مصرية".
ومن حيث إن العبارتين الواردتين بالعددين الثالث والسادس بالكيفية المتقدّمة فيهما إهانة وسب صريح لهيئة الوزارة بأن نسب إليها فيهما أنها تعمل على الحجر على الحرّيات وإيذاء أغلبية الشعب بشتى ضروب القهر والإعنات وجوّها مظلم حالك، وكل ذلك يمس كرامة الوزارة وشرفها ويسند إليها عيوباً معينة، كما أن الصورة المنشورة في العدد الرابع تشمل سباً صريحاً في دولة صدقي باشا بأن نسبت إليه أنه يعمل على إرضاء المندوب السامي في مسائل الدفع بالذهب والشركات الإنكليزية والمصالح الأجنبية والخزانات ليبقى في الحكم. وهذا مما يمس شخصيته وكرامته وشرفه.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه برأ المتهم من التهمة الأولى لما تبين للمحكمة من أن الكاتب للمقالتين المذكورتين قصد بهما وصف ما ذاع خبره عند الكافة من حوادث التعذيب التي وقعت من بعض رجال الإدارة في أثناء تأدية وظائفهم بمديريتي أسيوط والفيوم والتي حصل الخلاف بشأنها بين وزير الحقانية ورئيس الوزراء على الوجه الذي أدّى إلى استقالة الوزارة وإعادة تشكيلها من جديد دون أن يدخل فيها وزير الحقانية المذكور ولا من ناصره من زملائه في وجهة النظر التي ارتآها في التدابير القانونية والتشريعية التي تكفل عدم تكرار مثل هذه الحوادث، كما تبين أن الكاتب قصد وصف ما ذاع خبره عند الكافة أيضاً مما كانت تتخذه الحكومة من الإجراءات القهرية في صدّ رجال الوفد عن عقد الاجتماعات التي كانوا يعقدونها للدعايات السياسية. ثم أردف الحكم هذه العبارة بأن وصف الكاتب لهذه الإجراءات بأنها حجر على الحرّيات وضرب من ضروب الإعنات، لا إثم فيه لأن صيغة النقد التي جرى عليها المتهم هي وصف الفعل بنتيجته التي يتظلم منها على اعتبار أن هذا الفعل كان بحسب ما تقدّر في عقيدته ماساً بالكفالة التي كفل بها الدستور حرية الرأي والاجتماع. ثم بين الحكم بعد ذلك أن المطاعن التي بالقسم الثاني ليس فيها سب ولا إهانة لأنها انتقاد على المسلك السياسي الذي تسلكه الوزارة مع الإنجليز. وقد نبه الشراح إلى أن هذا الاعتبار السياسي يكتسب في البلاد الدستورية منحة من جمهور الأمة فأجازوا للأقلام أن تتناوله بالنقد على ما تريده من الصراحة التي يقتضيها المقام حتى يسترشد هذا الجمهور إلى التصرف في هذه المنحة على الوجه المطابق لمصلحته.
ومن حيث إن محصل تلك الأسباب أن المحكمة لم تر أي إثم فيما سطره المتهم الأوّل من عبارات السب والإهانة التي تقدّم ذكرها لأنها وصف ونقد لأعمال مخالفة للقانون يقول المتهم إن الوزارة أتتها. والمحكمة إذ سلكت هذا السبيل قد أخطأت في تطبيق القانون لأن إثبات السب والإهانة أصبح غير جائز بعد تعديل المادة 265 من قانون العقوبات طبقاًً للقانون رقم 35 لسنة 1932 الصادر في 10 يوليه سنة 1932 بحذف العبارة الأخيرة من الفقرة الثالثة منها أي عبارة (وذلك مع عدم الإخلال في هذه الحالة بأحكام الفقرة الثانية من المادة 261 عقوبات). وتلك الأحكام التي تشير إليها تلك العبارة هي الأحكام الخاصة بالطعن الجائز في أعمال الموظفين إذا حصل بسلامة نية وبشرط إثبات حقيقة كل فعل أسند إليه. وقد بينت المذكرة الإيضاحية لهذا القانون سبب هذا الحذف فقالت إنه حيث لا يكون إسناد واقعة لا يمكن أن يتصوّر إثبات واقعة وإن التعميم الذي هو من أخص طبائع السب لا ينقلب إلى تخصيص بوقائع معينة جائز إثباتها بسبب ما يرد بعد ذلك على لسان المتهم عند التحقيق معه فإن أقواله في الواقع إنما تكون على سبيل ضرب الأمثال وإن المصلحة العامة من حيث الكشف عن سيئات الموظفين لا تكسب من استعمال ألفاظ السب وإنما تكسب من إيراد وقائع القذف حتى يمكن إثبات صحتها وبالعكس فإن في إباحة إثبات ألفاظ السب العامة بوقائع خاصة لا تذكر إلا في التحقيق تشجيعاً على الغض من كرامة الموظفين والوظائف - أخطأت المحكمة إذن في السماح للمتهم بإثبات عبارات السب وفي الاستناد على وقائع لم يرد لها ذكر في تلك العبارات، كما أخطأت في قبول الإثبات في عبارات الإهانة وفي الاستناد على وقائع لم ترد في العبارات المذكورة لأن القانون حرّم هذا الإثبات في جرائم السب كما هو محرّم من قبل في جرائم الإهانة. فإذا تقرر هذا سقط تدليل المحكمة من نفسه على صحة عبارات الإهانة والسب وعلى أنها نقد مباح سواء أكان ذلك خاصاً بالطعن على الوزارة في مسلكها الإداري أو في مسلكها السياسي لأن النقد لا يرد إلا على وقائع معينة، والعبارات والصورة المنسوبة للمتهم خالية من ذكر أية واقعة معينة، فهي ألفاظ عامة من السب والإهانة لا أكثر ولا أقل.
ومن حيث إنه لما تقدّم يتعين نقض الحكم بالنسبة للمقالتين والصورة المتقدّم ذكرها وعقاب المتهم عنها بالمادتين 159 و265 فقرة ثالثة من قانون العقوبات. أما باقي ما نسب إلى المتهم من عبارات السب والإهانة في التهمة الأولى الواردة في العدد الخامس في المقالة التي عنوانها (ولو) التي جاء فيها أنه كفى الوزارة أنها أقامت في الحكم ثلاثة أعوام كتم المصريون فيها الدم على الصديد وصبروا صبر أيوب، وفي المقالة الواردة في العدد السادس تحت عنوان السير برسى لورين ومشاكله التي ورد فيها على لسانه في باب الدفاع عن نفسه أنه تمكن من الحصول من صدقي باشا على مزايا وفوائد لا يمكن الحصول عليها من سواه فلا ترى المحكمة ما يستوجب إدانة المتهم لعدم ظهور عبارات السب والإهانة فيها.
عن التهمة الثانية
ومن حيث إن المتهم نشر بالعدد الخامس عشر من جريدة الصريح الصادر في 25 مايو سنة 1932 مقالاً تحت عنوان (الميردي ديو) يقول فيه الكاتب إن كريمة سعادة عبد الفتاح باشا صبري وكيل وزارة المعارف ارتأت أن تحصيل العلم لا تلزم فيه المذاكرة ولا الحفظ، وأن سعادة والدها وافقها على هذا الرأي ووافق على نقلها من مدرستها وهي كلية قصر الدوبارة إلى مدرسة الميردي ديو، وأنه بعد دخولها في هذه المدرسة بشهرين لقيتها إحدى زميلاتها وسألتها عن حالتها في المدرسة الجديدة فأجابتها بأن وزنها نقص اثنين كيلو من المذاكرة، وأنه زاد عليها حفظ الإنجيل. وقد استنتجت النيابة من هذا المقال أن الكاتب ينسب لسعادة عبد الفتاح باشا الجهل بعلم التربية، ولم تر محكمة الموضوع في هذا المقال المعنى الذي فهمته النيابة، ولا ترى أيضاً محكمة النقض فيه ما يفيد المعنى المذكور، خصوصاً وأن هذا المعنى أي الجهل بعلم التربية لا يستقيم مع ما ذكره الكاتب من أن المجني عليه نقل كريمته إلى مدرسة أخرى فيها استذكار الدروس وفيها حفظ الإنجيل. ولذلك يكون الطعن بالنسبة لهذه التهمة على غير أساس ويتعين رفضه.
عن التهمة الثالثة:
ومن حيث إن المتهم نشر بالعدد الخامس من جريدة الصريح الصادر في 16 مارس سنة 1933 صورة الدكتور حسين هيكل وصورة دولة محمد محمود باشا وهو يضع يده على مسن ووقف أمامهما خادم وكتب تحت هذه الصورة تحت عنوان "على باب دار المندوب السامي" عبارتين الأولى منسوبة للدكتور حسين هيكل يقول فيها للخادم "قل لسيدك إحنا هنا في الخدمة ما ينساناش" والثانية منسوبة لدولة محمد محمود باشا يقول فيها للخادم "واديني بسن اليد الحديدية وبحضرها لوقت الطلب"، كما نشر بالعدد الثالث عشر الصادر في 11 مايو سنة 1933 صورة لدولة محمد محمود باشا وسعادة حمد باشا الباسل واقفين أمام صورة جون بول وفي يده ناقوس يدق به ويعرض بجانبه ملابس رسمية مطرزة وكتب تحت هذه الصورة بعنوان "مزاد - بمناسبة ما يشاع عن قرب استقالة الوزارة وتأليف وزارة جديدة وتهافت الوزاريين على مقاعد الحكم" عبارتين الأولى منسوبة للأحرار الدستوريين والمنشقين يخاطبون "جون بول" بقولهم "وده كان اتفاقنا برده يا خواجة إحنا مش قدّمنا العطا وأنت قبلت. يعني عايز تخليها كده علني واللي ما يشتري يتفرج" والعبارة الثانية منسوبة لجون بول يقول فيها "ده بيع وشرا يا حبيبي. واللي يرسى عليه العطا يتفضل يستلم. حنبيع. مين له غرض. بدلة رئيس وزارة وبدل وزرا. ألا أونا ألا دوا". فرفعت النيابة الدعوى العمومية على المتهم باعتبار أنه قذف دولة محمد محمود باشا والدكتور محمد بك حسين هيكل وسعادة حمد باشا الباسل بأن أسند إليهم أموراً لو كانت صادقة لأوجبت احتقارهم عند أهل وطنهم. فبرأته المحكمة من هذه التهمة على أساس أن الأمور المسندة إلى المجني عليهم لم تكن من الأمور الواقعية، على الوجه الظاهر في الرسم والكتابة المذكورتين، بل هي عبارة عن أمور تخيلية قصد بها المتهم انتقاد المجني عليهم فيما تداولته الألسنة الحزبية في ذاك الحين من اعتزامهم قبول كراسي الوزارة خلافاً لميثاقهم مع رجال الوفد، وليس في هذا شيء مما يحط من كرامتهم أو يخدش بشرفهم واعتبارهم على الوجه المشترط في القانون إذ هو عبارة عن مجرّد تجريح لهم في ذلك الرأي السياسي الذي ارتأوه على اعتبار أنهم من الرجال السياسيين الذين يحل انتقادهم في آرائهم السياسية بمثل هذا التجريح.
ومن حيث إن الصورتين المذكورتين والعبارات المنشورة تحتهما تشملان سباً صريحاً للمجني عليهم نسب فيه الكاتب إليهم أنهم مترامون على أعتاب دار المندوب السامي يعرضون على الإنجليز خدمتهم متبعين في ذلك طرق المساومة مع الإنجليز وممالأتهم والاتفاق معهم على حساب وطنهم، وكل ذلك لتشكيل الوزارة منهم، وهذا طعن صارخ في ذمة وشرف المجني عليهم يستوجب عقاب فاعله. أما ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من أن هذا السب لا يحط من كرامة المجني عليهم ولا يخدش شرفهم لأنه تجريح لهم في رأي سياسي - ما ذهب إليه الحكم في ذلك لا قيمة له لأن نقد الآراء السياسية مهما حصل التسامح فيه لا يبرر السب بأقذع الألفاظ وأفحش المثالب.
ومن حيث إنه لما تقدّم يتعين نقض الحكم عن هذه التهمة وعقاب المتهم الأوّل عنها بالمادة 265 فقرة أولى من قانون العقوبات على أساس أنها سب لا قذف كما رأت النيابة لأن العبارات التي صدرت من الكاتب عبارات عامة لا تخصيص فيها.
ومن حيث إن المتهم الأوّل يدفع بحسن نيته فيما كتب وفيما صوّر، وهو قول هراء لأن القصد الجنائي في جرائم السب والإهانة يعتبر متوفراً متى كانت ألفاظ السب وعبارات الإهانة متضمنة لعيب معين أو خادشة للناموس أو الاعتبار. ولا شك في أن الصوّر وعبارات السب والإهانة التي وجهها المتهم إلى المجني عليهم والتي تقدّم بيانها مقذعة بذاتها خادشة للشرف والكرامة.
فلهذه الأسباب
وبعد الاطلاع على المواد المذكورة.
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع أوّلاً برفض الطعن بالنسبة للمتهم الثاني عبد الحليم محمود علي أفندي ثانياً بنقض الحكم المطعون فيه بالنسبة للمتهم الأوّل عبد الوهاب فهمي أفندي فيما يتعلق بالتهمتين الأولى والثالثة وتغريمه عن كل منهما عشرين جنيهاً ورفض الطعن فيما عدا ذلك.
[(1)] صدر مرسوم بقانون رقم 28 سنة 1935 وبمقتضاه ألغيت المواد 151 و160 و160 مكررة و162 و163 و164 و165 ثالثة و167 مكررة و168 من قانون العقوبات واستبدلت بها مواد أخر. كما ألغيت الفقرة الثالثة من المادة 265 المعدّلة. وقد نقل إلى مكان المادة 160 الملغاة الفقرة الثالثة من المادة 265 التي تعاقب على السب الموجه إلى موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة بسبب أداء الوظيفة أو النيابة وبسط بمقتضاها حق إقامة الدليل إلى مادة السب حيث تكون جريمة السب مرتبطة بجريمة قذف ارتكبها ذات المتهم ضدّ من وقعت عليه جريمة السب.
ساحة النقاش