كيف يصبح التنوع مدخلا للتعايش لا الصراع؟..الهوية الثقافية واستراتيجيات التفاعل مع الآخر الحضاري يكتبه: صــلاح ســالـم 0 182 طباعة المقال
يولد المرء بمفرده, ويموت بمفرده, ولكنه لا يحيا إلا مع الآخرين وللآخرين. وسواء قلنا مع سارتر: إن الجحيم هو الغير.
أم قلنا مع جوته: ليس ثمة عقاب أقسي علي المرء من العيش في الجنة بمفرده, فالمؤكد أن الوجود بدون الآخرين يبدو نوعا من المستحيل.
وسواء أكان الغير هو الخصم الذي أصطرع معه وأتمرد عليه, أم كان هو( الصديق) الذي أتعاطف معه وأنجذب نحوه, فإنني في الحالتين لا أستطيع العيش بدونه, ولا أملك سوي أن أحدد وجودي إزاءه. ولعل هذا هو ما ذهب إليه الحكيم الصيني لاوتسو مؤكدا علي أن الذات الإنسانية المتفتحة تنطوي علي الأنا والآخر معا, وأنها الطريق الوحيد لبناء حياة كونية حقيقية.
ومن ثم فإن ثقافة الكراهية لا تنبع قط من حقيقة الاختلاف مع الآخر, لأن الاختلاف نفسه يمنح الحياة ثراء وتعددا, بل من طريقة التعرف عليه, والتي تجعل منه صديقا أو عدوا. ولعل مفهوم الهوية, يمثل أحد التجليات الكبري لتلك الحقيقة النفسية, فالهوية الثقافية بمثابة عملية تشكيل كبري تنطوي علي عمليتين فرعيتين متداخلتين, تجريان في آن واحد:
العملية الأولي تتمثل في إدراك الذات الحضارية نفسها, أي الوعي بالجواهر المؤسسة لها, بقصد إنمائها وتكريسها. وكذلك تحديد ما هو عرضي فيها, طارئ عليها, قد يكون معطلا لمسيرتها, ومن ثم يمكن الإسراع في تبديله بهدف تجديدها, وتحقيق انسجامها الدائم مع حركة التاريخ, إذ لا يمكن تنمية شخصية حضارية من دون إدراك جواهرها وأعراضها, والتعاطي المرن والفعال مع مقتضيات الثبات, وعوامل التغير.
أما العملية الثانية فهي التعرف علي الآخر بقصد تعامل خلاق معه, إذ يصعب التفاعل الإيجابي مع ذات حضارية أخري دون إدراك طبائعها العامة, وفهم نقاط ضعفها التاريخية, بل ومواطن عقدها النفسية التي تثقل كاهل شخصيتها بغرض الابتعاد عن إثارتها, وفي المقابل فهم مصادر قوتها التي تعتز بها, ومن ثم إبداء الإحترام لها; فالأمم, كالأشخاص, تحتاج الي التقدير المعنوي, تحب من يمنحه إليها, وتكره من يحرمها منه, عندما يتعالي عليها إزدراء أو إحتقارا.
في هذا السياق تتمايز الثقافات والأمم, وتتعدد مناهجها في ممارسة هاتين العمليتين الفرعيتين بحسب رؤية كل ثقافة/ أمة للتاريخ, وحجم دورها فيه, ومدي فاعليتها في تشكيل الواقع المحيط بها, فإذا ما امتلكت موارد التأثير في حركته, كانت رؤيتها لغيرها من الجماعات والثقافات أكثر تفتحا وتسامحا.
أما إذا افتقدت إلي ذلك الموقع وتلك الموارد, وتهمش دورها في تشكيل العالم المحيط بها, كانت رؤيتها للآخر أكثر سلبية وانطوائية.
دورة حياة الأمم ودورة حياة الأشخاص تمر الأمم, كالأشخاص, بدوره حياة كاملة من الطفولة والشباب إلي الكهولة والشيخوخة, غير أن طفولتها ميلاد سياسي,
وشبابها نماء حضاري, وكهولتها نضوج قومي, فيما شيخوختها تدهور في القوة والمدنية معا ينتهي لا بالموت كآحاد الناس, بل بانبعاث جديد داخل هذا العالم, في دورات حضارية متجددة. ففي طفولتها تكون الأمم بريئة مثل طفل, ترغب في التعلم من المحيطين بها دون أحقاد عليهم, أو عقد نفسية تنمو نحوهم, فالآخرون بالنسبة لها معلمون ورواد, آباء كانوا أو غرباء. وفي شبابها, تكون مثل رجل يانع قادر علي الحب ومفعم بالأمل, منفتحة علي غيرها من الأمم, قادرة علي التثاقف معها وليس فقط التعلم منها, تأخذ وتعطي واثقة من نفسها, وإن احترمت غيرها, فالعالم لديها أجمل والمستقبل أوعد وأرحب.
أما في كهولتها, فتصبح الأمم مثل رجل يدرك أن أجمل أيامه صارت خلفه, حتي أن الجديد لم يعد يثير تطلعه, فلا شهوة المعرفة باقية, ولا دهشة التساؤل قائمة, ولا ألق الكشف باد, بل دخل كل شيء إلي حيز( العادي).
فعندها تتعانق الأمم مع المألوف, وتتشبث فقط بالبقاء علي قيد الحياة داخل عالم لم يعد فيه جديد, يسير كل شيء فيه بانتظام رتيب. وعندما تبلغ الأمم شيخوختها, تصير كالشيخ, إذ تيبست قوته العضلية, وشاب القصور ملكاته الذهنية, فتراجعت إرادته الطلقة, وأخذ يهرب من الناس والزمان حنينا إلي شبابه وماضيه, فالحنين لديه أقوي من التطلع, يهاجسه قلق الموت, وتخاطبه نداءات رحيل خفية, فصار لا يلوي علي شئ ولا يتطلع إلي شئ. وهكذا الأمم حينما تتجاوز ذروة تمدينها وتبدأ رحلة أفولها, إذ لم يعد يومها علي رحابة أمسها, ولا غدها علي قدر يومها, وهنا لا يبقي عالمها منتظما رتيبا, بل يصير موحشا وكئيبا, يمتلأ بالأعداء, فالآخرون هنا وحوش بالضرورة, يلتفون حول جسدها الذي يصير كهفا ضيقا, بعد أن كان فضاء واسعا.
وهكذا فإن لحظة تاريخية معينة عام كذا من قرن كذا, أو حقبة ممتدة من التاريخ تعكس بعدا من أبعاد الزمن, قد تكون بمثابة عصر نهضة لدي أمة, وعصر انحطاط لدي أخري. فمثلا قد تكون إحدي الحقب الزمنية الثلاث الأساسية( العصور القديمة) بمثابة عصر فردوسي لدي أمة في الشرق الأدني القديم كمصر الفرعونية أو بابل السومرية, فيما هي عصر بدائي لدي أمة أخري في شمال أوروبا التي كانت بربرية, أو غرب الأطلنطي حيث الأمريكيتان التي لم يكن تاريخهما القديم يمثل للعالم أو للإنسانية شيئا يذكر رغم وجود أجناس كانت تحيا فيهما.
كما تقع الحقبة الثانية( العصور الوسطي) علي أذن السامع وقعا يبلغ درجة التناقض بين العالمين: العربي الإسلامي, والأوروبي المسيحي. ففي السياق العربي ثمة ميلاد حضاري علي قاعدة دين إسلامي, ونمو سياسي علي أرضية توسع إمبراطوري, وتطور ثقافي بإلهام رؤية توحيدية للوجود. أما في السياق الأوروبي, فلا تعدو هذه العصور أن تكون زمن انحطاط كبير علي خلفية تدهور سياسي للإمبراطورية الرومانية, وانهيارها العسكري أمام القبائل الجرمانية, وتفتت ثقافي للوعي اليوناني, فكل مجالات الحياة تسير إلي أفول وتلاش, اللهم سوي بنية إقطاعية أخذت تنمو بالتحالف مع إدراك أرثوذوكسي للمسيحية رعته الكنيسة, كي تخضع به شعوبها إلي تصور مغترب عن الإنسان وإحساس بليد بالزمان.
وأما العصر( الحديث) فيبلغ درجة التناقض نفسها ولكن في اتجاه نقيض.
فعلي الجانب الغربي نجد أنه عصر الكشوف الجغرافية وبزوغ العالم الجديد في الأمريكيتين.. وعصر النهضة الذي بدأ بإحياء الموروث اليوناني الأدبي والفلسفي, وانتهي بتفكيك الإقطاع القروسطوي وبنيته النفسية, ليولد علي أنقاضه إنسان حديث تواق إلي الحرية, يشبه اليوناني القديم في أساطيره التأسيسية ذات الروح البطولية, التي اندفع خلالها إلي تحدي الآلهة بحثا عن مفرادته واستقلاله!. وأيضا عصر الثورة العلمية, حيث ساد منطق جديد للمعرفة قوامه التجريب, وعلاقة جديدة مع الطبيعة قوامها الكشف والتوظيف. وكذلك عصر الثورات الكبري التي كرست الديمقراطية الليبرالية, وأنتجت المذهب الإنساني, ليصبح الفرد غاية كبري للمجتمع, وهدفا محترما للدولة, بعدما كان ذرة ضائعة في إقطاعية تنضوي تحت إبط إمبراطورية, يحكمها الأباطرة والقياصرة بحق إلهي مقدس, ورثته الدولة التنين, أي الحديثة ولكن المستبدة, وحاولت أن تصبغه بصبغتها الدنيوية, ومبرراتها العملية, قبل أن تنتزعه منها الدولة الديمقراطية الحديثة, التي صارت, بحق, ملكوت الإنسان الحر.
في المقابل, ومن وجهة النظر العربية, يحمل هذا العصر( الحديث) كل معالم السلبية, فالكشوف الجغرافية الغربية, لا تعني للعرب سوي حصار شواطئهم, وقطع طرق تجارتهم, وتدهور حواضرهم الكبري, ناهيك عن سقوط أندلسهم, موطئ قدمهم علي الشاطئ الشمالي, وعلامة هيمنتهم علي العالم الأوروبي. أما عصر النهضة فليس إلا عصر الهيمنة العثمانية, وما تبعه من سيطرة إقطاع رعوي جديد أخذ يكمل دور الإقطاع التتري القديم معطلا انطلاقة العرب الجديدة لثلاثة قرون أخري علي الأقل. وأما الثورة العلمية فلم يضاهها لدي العرب إلا تراجع واضح في جدوي الموروث العلمي الذي كانوا قد راكموه علي قاعدة المنهج الاستنباطي التقليدي, المؤسس علي المنطق الأرسطي( الصوري), وعجز بالغ عن ملامسة المنهج العلمي التجريبي, المؤسس علي المنطق الجدلي الجديد, حتي بدا العرب عيالا علي الغرب, غرباء في دنيا الحضارة. وأما الثورات السياسية الكبري فلم يعرفها تاريخنا عبر قرون أربعة شغلت العصر الحديث, ولم نبلغها إلا في القرن العشرين, والحقبة الحديثة تقترب من الأفول, تاركة موقعها في الزمان للحقبة المعاصرة, ولذا استمر تخلف العرب السياسي المفعم بالاستبداد, حتي صاروا علي صعيد الحرية محض استثناء عالمي, وحتي عندما هبت العاصفة الأخيرة, التي تصورها الحالمون ربيعا للحرية, سرعان ما جعلها المهجوسون بالهوية, المتعصبون للماضي خريفا للعقلانية ومأزقا للشخصية العربية, وكأنها, مثل جهامة الشيخوخة, لا يتسع صدرها لمرح الطفولة.
الهوية الموجبة..
حركة من الذات إلي الآخر
يمكننا التمييز بين إستراتيجيتين نقيضين تماما, لكل منهما نقطة انطلاق تميزها, وطريق خاص بها يحكم توجهها سواء في تعريف نفسها أو في التفاعل مع الآخر المحيط بها: إما عبر مسار موجب ينطلق من الذات متجها نحو الآخر, أو من خلال مسار سالب يبدأ من الآخر متجها إلي الذات.
نصف هذه الإستراتيجية بـ( الموجبة), إذ تنطلق من الذات إلي الآخر, بحيث يكون إدراك المكونات الأساسية اللغوية والثقافية والعرقية والدينية للذات بمثابة عملية مستقلة تسبق التعرف إلي الآخر, بمعني أن الأمة هي وحدها التي تصوغ خصوصيتها في ضوء تاريخها وقسماته المميزة بكل حرية وثقة. ومن هذه النقطة, أي بعد إدراك الذات, تبدأ محاولة التعرف علي الآخر والذي يحوز في كل الأحوال تكوين مغاير بأقدار متفاوتة لتكوين الذات, ولكن من دون أن يكون هذا التفاوت عائقا عن التواصل معه أيا كانت درجة غيريته, مادامت الذات واثقة بنفسها, واعية بمقوماتها, ناجحة في توكيدها, متفائلة بنموها مستقبلا. فهنا تسود رؤية إيجابية للتاريخ, تؤمن بيقين بأن الآخر, مهما يكن قويا أو متقدما, غير راغب بالضرورة وربما غير قادر أساسا علي تهديد وجودها.
تستند هذه الإستراتيجية إلي أحد إدراكين أساسيين لظاهرة الثقافة نفسها وهو الإدراك( السوسيولوجي) المستند إلي علم الأنثروبولوجيا, كما هو لدي المدرسة الاجتماعية الفرنسية بزعامة إميل دوركهايم. والثقافة لديه نمط عيش وأسلوب حياة تسقط فيه الرموز علي الوقائع مباشرة وتندمج فيه حركة الصور والشخوص وتنتفي فيه إلي حد كبير المسافة الفاصلة بين الرؤي والسلوك. وهنا يصبح فعل( المعاش) هو المؤسس لفعل( التأمل) في حياة البشر إذ أن حركتهم هنا لا تصدر عن رؤية سابقة بالضرورة, وإن أمكن استخلاص هذه الرؤية من التجربة الفعلية للجماعة الإنسانية في واقعها التاريخي.
هذا الإدراك يهتم بالقواعد العامة في الخبرة الإنسانية المشتركة أكثر من التعويل علي الخصوصيات النفسية والاستثناءات الفردية. ولأنه ينبع من المشترك الإنساني الذي تؤسس له وحدة الجنس البشري, فهو القادر علي حفز النزعات الفكرية ذات الطابع الإنساني والكوني, إذ رغم انطلاقه من روافد موضوعية وليست مثالية, فإن تفتحه للتجربة الواقعية, والخبرة البشرية, ينتهي به إلي مواقف أكثر تسامحا ونزوعا إلي الانفتاح علي التاريخ والآخر.
هذا الإدراك السسيولوجي يتجاوز ما يسميه كارل بوبر( أسطورة الإطار) التي تدعي أن المناقشة العقلانية والمثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية أو يتفقوا, في الحد الأدني, علي مثل هذا الإطار لكي تسير المناقشة. وهي الأسطورة التي يرفضها بوبر نفسه رغم أنها سادت قبله حتي اتخذت صورة المبدأ المنطقي. وهنا يميز بوبر بين الإطار كمبدأ منطقي, وبين بعض التوجهات التي قد تكون بالفعل شروطا أولية للمناقشة, من قبيل الرغبة في الوصول إلي الصدق, أو الاقتراب منه, أو الاستعداد للتشارك في المشاكل, أو تفهم أهداف ومشاكل الآخرين. وما يقصده بوبر هنا هو أن التناقض الكامل في الإطار المرجعي بين أي ثقافتين يجعل الحوار بينهما صعبا جدا, بينما التوافق الكامل/ وحدة الإطار يجعل الحوار سهلا جدا ولكنه ممل أيضا, لأن عائده يكاد يكون صفرا, فما قيمة التوافق بين أشباه متماثلين. وهنا تكمن قيمة الإدراك السسيولوجي للثقافة, الذي يعول علي الحكمة العملية للمجتمعات, والتي تمثل بدورها أطرا مختلفة ولكنها محكومة في النهاية بالمشترك الإنساني, الذي يجعل الحوار ممكنا, وفي الوقت نفسه منتجا.
وفضلا عن الإدراك السسيولوجي للثقافة تستند هذه الإستراتيجية إلي مفهوم( التقدم) كمنطق تاريخي إنساني وليس كإيديولوجيا غربية استعلائية, حيث تتبدي حركة التاريخ العام أقرب إلي مفهوم التقدم منه إلي أي مفهوم آخر إذا ما لاحظنا التقدم في مجاله الواسع الذي يسمح بالاطراد الزماني, والمكاني ولم نحصره في حلقة ضيقة أو تجربة تاريخية واحدة( دولة/ حضارة) فما انهزم التقدم مرة لدي أمة إلا وكان ينتصر في أخري معاصرة تجاورها في المكان, أو لاحقة تتلوها في الزمان.
ورغم صخب الاحتكاك الجاري يمكننا سحب هذا المنطق التقدمي علي التاريخ الثقافي, خصوصا علي العلاقة بين العالمين العربي الإسلامي, والمسيحي الغربي, والتي لا تعدو كونها علاقة تثاقف مزدوجة الأوجه والسياق تتطور نحو الأرقي في خط طويل صاعد وإن حدثت بعض التراجعات. ففي هذا الإطار ـ التقدمي الصاعد ـ ثمة عوامل جذب وتعاون, وثمة عوامل قطيعة وتنافر, غير أن عوامل الجذب في كل مرحلة تاريخية تبدو أعمق مما كانت في سابقتها, كما أن عوامل القطيعة والتنافر تبدو في كل مرحلة من المراحل أبسط من سابقتها, وهذا هو معني التقدم الصاعد في هذه العلاقة.
ولا يتنافي مع هذا الفهم اعترافنا بوجود لحظات تأزم تبدو صدامية علي نحو يفوق السياق التاريخي الممتد فيما قبلها, علي منوال ما كان مثلا إبان الحروب الصليبية, أو الهجمة الاستعمارية, أو فوبيا صدام الحضارات بعد أحداث11 سبتمبر. فما يحفظ لفهمنا التقدمي صدقيته هو أن كلا من هذه اللحظات الصدامية تبدو أقل تعقيدا من اللحظة السابقة عليها رغم كونها أكثر تعقيدا من السياق الطبيعي الممتد فيما قبل كلا منها, إذ يمكن الكشف عن نزعة تبسيطيه في جوهرها تمتد بين العقد الثلاث المتوالية تاريخيا:
ـ فمثلا تنطوي لحظة الحروب الصليبية علي تناقض مركب ديني ـ سياسي ـ اقتصادي, إذ أنها تنطلق باسم الصليب نحو أرض الهلال ولو علي المستوي التبريري, كما أنها تتضمن وبالأساس أهدافا عملية سياسية من قبيل السيطرة والتحكم وبناء المجد للنبلاء الأوروبيين وخاصة في الممالك الصاعدة آنذاك, إضافة الي الهدف الاقتصادي حيث الطمع في الموارد العربية وخاصة في القدس/ أورشليم التي ذاع عنها أنها الأرض التي تفيض عسلا ولبنا, فضلا عن كونها الأرض المقدسة.
ـ بينما تنطوي لحظة الهجمة الاستعمارية علي تعقيد أقل, إذ تأتي في سياق تاريخي أوروبي تجاوز مركزية الدين الذي بقي حبيس الكنيسة وصدور المتدينين يثير الأشواق ويحرك المشاعر دون أن يحفز السياسات أو يوجه الجيوش, إلي مركزية الدولة القومية التي تحفز هذه وتوجه تلك, بينما ظل الدافعان السياسي والاقتصادي مهيمنين حيث الطموح إلي السيطرة والازدهار محركين للظاهرة الاستعمارية التي تغطت بأردية كثيفة فكرية وأخلاقية دارت جميعها حول أفكار المركزية الغربية ذات الطبيعة العنصرية الاستعلائية كرسالة الرجل الأبيض في ترقية العالم.
ـ وأما مقولة صدام الحضارات فجسدت تناقضا ثنائيا أيضا, ولكن في مجال جغرافي أضيق. ذلك أنها لا تأخذ الدين, حقيقة, علي محمل الصدق وإن تدثرت بغطائه أو رأت في ظواهره السياسية تجليات يمكن توظيفها لها قابلية الحضور ونجاعة التأثير في تحقيق هدفها الحقيقي/ الاستراتيجي في تكتيل الغرب خلف الولايات المتحدة والتي كانت مراكز التفكير الاستراتيجي لديها, وكذلك مثقفوها العضويون أمثال دانيال بابيس, روبرت كاجان, وليم كريستول, فوكوياما, فضلا عن الراحل صامويل هانتنجتون, قد اضطلعت في ظل سيطرة اليمين المحافظ بمهمة البحث في كيفية اغتنام الحدث الكارثي في إعادة صياغة النظام العالمي بما يكرس التفوق الاستيراتيجي الأمريكي, ويضمن إطالة عمره إلي قرن جديد.
ويعني هذا أن التناقض في هذه اللحظة لم يعد مركبا( دينيا ـ سياسيا ـ اقتصاديا) كما كان إبان الحروب الصليبية بل ثنائي فقط سياسي ـ اقتصادي. كما لم يعد بين العالم الإسلامي الواسع, وبين الغرب كله كما كان إبان الهجمة الاستعمارية, بل صار مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط هذه المرة, وهو ما فطن إليه الضمير الأوروبي شرق الأطلسي, وأدركه البابا يوحنا علي رأس الفاتيكان عندما رفض بشجاعة وباسم الكاثوليكية العدوان علي العراق بذريعة الحرب علي الإرهاب, وهو ما فعله اتحاد الكنائس الإنجيلية بالولايات المتحدة نفسها, ما أظهر الحرب كمحض اختيار أمريكي لا غربي, قومي لا حضاري, نفعي لا قيمي, سياسي لا ديني. الأمر الذي جعل عقدة الصدام في هذه اللحظة الثالثة أخف وطأة من اللحظة الأولي لأنها أبسط في تركيبها, وأقل تمددا من اللحظة الثانية لأنها أضيق في مجالها الجغرافي, وهو ما يؤكد علي فهمنا العام المتفائل للحركة التاريخية والقائم علي مفهوم التقدم بمعناه الانساني, وفي فضائه الواسع.
وهنا نستطيع أن نجرد ما يشبه القانون العام قائلين: أن التناقضات الثقافية المركبة( العقد الحضارية) إنما تسير دوما نحو التبسيط داخل التاريخ الممتد, بينما يصير هذا العالم نفسه نحو تعقيد بنيوي داخل التاريخ نفسه, حيث ترتبط درجة التقدم الحضاري بتزايد في مستوي تركيب ودرجة تعقيد البنية التاريخية!. وهنا نصبح بحاجة إلي إجابة علي تساؤل من قبيل: كيف تنتج بنية حضارية تزداد رقيا ومن ثم تركيبا في التاريخ, عقدا حضارية تزداد بساطة أو تقل تعقيدا في التاريخ نفسه؟.
ثمة تناقض ظاهري يزول مع إدراكنا لطبيعة المنطق المزدوج لحركة التاريخ:
فهي من ناحية تسير إلي تعقيد علي مستوي البنية بتأثير دوافع موضوعية من قبيل الثورات المعرفية المتوالية, والموجات الديمقراطية المتنامية. فهذان المعلمان( العلم والحرية) قد صنعا العالم الحديث في كتله التاريخية, وأنماطه الإنتاجية, وطبقاته الاجتماعية, وهياكله السياسية, وحتي نشاطاته وانشغالاته الفكرية. وجميعها في تداخلها وتكاملها هي التي تحرك جدلية التقدم والتخلف في عالمنا الحديث, وهي تزداد تعقيدا كلما ابتعدت سواء عن تلك الركائز الأولية التي صاغت العالم البدائي كالخرافة والسحر والعرق والتكوين البيولوجي, أو تلك الركائز التقليدية التي شكلت العوالم القديمة كالعقيدة الدينية, والانتماءات القومية.. وهكذا.
وهي من ناحية أخري تسير الي تبسيط علي مستوي الأهداف التاريخية التي تثير التناقض والصراع بين الجماعات البشرية, وهو تبسيط ينجم عن التغير في ركائز تشكيل العالم عبر التاريخ. فمع الانتقال من ركائز أولية فطرية إلي أخري حديثة, يتم الانتقال تدريجيا علي صعيد الصراع التاريخي من أهداف مثالية ذات طابع أخلاقي, وجوهر ميتافيزيقي كالانتصار لله, أو تحقيق المجد للملوك المتألهين المفوضين بالحق الإلهي المقدس, وجميعها أهداف لا يمكن التنازل عنها إلا بجرح المشاعر الدينية, إلي أهداف عملية سياسية واقتصادية وإستراتيجية ذات طابع نسبي إذ تقوم علي تبادل أو حتي احتكار المصالح والمنافع ومن ثم يمكن التفاوض حولها والمساومة عليها والوصول إلي حلول وسط بشأنها دون جرح للمشاعر أو إهدار للكرامة.
وعلي سبيل المثال لو أننا حاولنا إقامة حوار حول أي من الركائز الأساسية للدين, وخاصة حول عقيدة الذات الإلهية فالمؤكد أنه سوف يفشل في تقريب المواقف إن لم يفجرها تماما, فلدي كل دين, كالمسيحية والإسلام مثلا, نقاط جوهرية صلبة, لا تطرح للمناقشة ناهيك عن إمكانية الحسم فيها. وبمعني آخر فإن طرفا من الأطراف لا يمكن أن يتنازل عنها أو يرضي المساومة عليها.
وفي المقابل لو أننا حاولنا بنزاهة وتجرد ودونما غطرسة أو هيمنة من طرف علي آخر إجراء مثل هذا الحوار حول إحدي القضايا السياسية أو الاقتصادية المنتمية إلي واقعنا المعاصر مثل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية أو قبل ذلك منظمة التجارة العالمية لوجدنا قدرة أعلي علي التوافق رغم وجود مظالم أو تحيزات تضر بالبعض أو تقلص من مصالحهم, ولكن من دون إهانة لهم أو جرح لكبريائهم سواء علي صعيد النظام السياسي, أو علي صعيد الوجدان الإنساني. فلم يشعر العرب والمسلمون مثلا بإهانة من قيام منظمة التجارة العالمية حتي وان كانت تمثل تحيزا اقتصاديا ضدهم كجزء من العالم النامي أو المتخلف كالتي شعروا بها عند قيام الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي بانتقاد الرسول محمد( ص) والتشكيك في قدسية القرآن الكريم وذلك في روايته المعروفة( آيات شيطانية). ولم تترك الحرب الإسرائيلية علي لبنان, رغم قسوتها, من المرارة العميقة قدر ما تركته اتهامات البابا للرسول الكريم بعد الحرب بشهر واحد, أو ما كانت الرسوم الدانمركية المسيئة قد خلفته قبل ذلك بعام تقريبا.
والمهم في هذا السياق هو أن تراجع مركزية الانتماءات الأولية للعرق والطائفة والدين, تلك لا يمكن التفاوض بشأنها أو المساومة حولها أو بصددها دونما إحداث شروخ في مكونات الهوية, في مقابل نمو مركزية الانتماءات الحديثة للطبقة الاجتماعية والحزب السياسي, وللهويات الواسعة كالوطن والأمة, إنما يسمح بزيادة مساحة التوافق إذ يزيل بعض أعقد أسباب التناقض بين العالمين, ويبقي بعضها الآخر قابلا للحلول الوسط إذ صارت تدور حول الأهداف النسبية السياسية والاقتصادية, الأمر الذي يجعل العقدة الحضارية الدافعة إلي الصدام أكثر بساطة وأقل تعقيدا في كل مرحلة عنها في المرحلة السابقة, وهي البساطة التي تكاد تكون المعادل الموضوعي لتعقيد التركيب التاريخي.
علي أساس هذا الإدراك الموضوعي للثقافة, استطاع القطبان الحضاريان الكبيران, العالم العربي والعالم الغربي, كل في لحظة صعوده, أن يقدم الآخر إلي نفسه من خلال اكتشاف تراثه هو, أي تراث الآخر, وتعريفه به علي نحو يتيح له أن يبدأ في مرحلة إعادة البناء: العرب فعلوا ذلك مع أوروبا في العصر الوسيط عندما قام ابن رشد والفارابي وغيرهما بترجمة ودراسة الأعمال الكبري في الفكر اليوناني والإضافة إليها عبر محاولة التوفيق بينها وبين الإسلام. ومن خلال تلك الترجمات والدراسات تم وصل العقل الأوروبي بجذره اليوناني القديم. وفي المقابل قام الأوربيون بالمهمة نفسها في العصر الحديث من خلال أعمال المستشرقين, الجادين والأكثر نزاهة قطعا, وجهود الأثريين الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين والتي أسهمت في إعادة تعريف العرب المعاصرين بكثير من جوانب تراثهم كمقدمة للنهضة العربية الثانية. بل أن قيام شامبليون بفك رموز' الهيروغليفية' هو ما فتح لنا الباب إلي كهف الحضارة الفرعونية الأولي وقدم مساهمة كبري في تعريفنا بأنفسنا, خصوصا بعد أن أخذت مصر موقعها في قلب الحضارة العربية الإسلامية.
هكذا وبحسب مفهوم بوبر عن( الأطر الثقافية), ومفهومنا عن( التقدم الثقافي), تبقي الحضارتان الغربية والعربية, قادرتين علي تجسيد إستراتيجية إيجابية للهوية, والنهوض بحوار بناء ينجز تعايشا حقيقيا وينفي كل مبرر للحديث عن صدام حضارات لا يمثل حتمية منطقية من أي نوع, ويفتح الطريق واسعا أمام تجاوز خلاق للصياغة الحدية( شرق ـ غرب) قبل أن تتحول إلي ثنائية أقنومية راسخة ونهائية.
الهوية السالبة..
حركة من الآخر إلي الذات
نصف هذه الإستراتيجية بـ( السالبة), لأنها تنطلق في مسار عكسي, من التعرف علي الآخر أولا نحو إدراك الذات ثانيا. بمعني أن الأمة لا تستطيع أن تحدد مكوناتها هي إلا بالتعرف علي مكونات الآخر أولا, قبل أن تقوم في مرحلة ثانية بوضع نفسها موضع السلب الكامل لكل ما يمثله, لتصبح مجرد نقيض له علي صعيد الرؤي والمواقف والأدوار التي تصورها الآخر لنفسه.
هذه الإستراتيجية السالبة تستند إلي الإدراك النقيض( الذاتي/ المثالي) لظاهرة الثقافة, والذي يستند بالأساس إلي النظم الفكرية المغلقة التي يتوفر لها الشمول كالدين في فهمه الضيق, أو التي تدعي هذا الشمول كالفلسفات المثالية ذات الطابع الميتافيزيقي, والإيديولوجيات السياسية الكبري. والثقافة حسب هذا الإدراك هي بناء عقلي شامل ونظام صارم للأفكار يفسر نفسه بنفسه, تستطيع أن تجد داخله كل الحقيقة إذا ما حاولت وكنت أكثر إيمانا/ الدين, أو وعيا/ الفلسفة, أو ثورية/ الإيديولوجيا. أما الحقيقة لديه فليست خبرة حية تكتشف في التجربة, بل رؤية تصدر عن تأمل ذاتي سابق علي التجربة. والتأمل نفسه قد يكون فعلا إنسانيا خالصا, أي إبداعيا محكوما في سقفه الأعلي بوعي البشر وإلهاماتهم التي تجدها في فكره فلسفية أو تعبير أدبي. وقد يكون فعلا تأويليا فقط ينطلق من, أو يستند إلي نص مقدس ابتداء ويخضع فقط لتفسيرات البشر عندما يحاولون أن يصوغوا به ومن خلاله رؤاهم الفكرية والسياسية بأقدار متباينة من التفرد والخصوصية.
وتبدأ مشكلة هذا الإدراك عندما ينشغل فقط بتأكيد مبدأ الخصوصية, غير مكترث بالمشترك الإنساني, إذ يتغذي علي ما هو ذاتي ينبع من الروافد المثالية كالعقيدة الدينية, والمذهب الفلسفي, والروح القومية, والإيديولوجيا السياسية, كما يسعي إلي التعبير عن الخصوصية والاستثنائية, ومن ثم تكون المفارقة في أن الفكر الذي ينبع من روافد مثالية, هو نفسه الذي ينتج وعيا استبعاديا, وربما لا أخلاقيا, لا يكترث بالتواصل بل يفرط في الأنانية.
ورغم أنه قد ينزع إلي طموحات عالمية, ويمتلك دعاوي رسالية بحكم مثاليته, إلا أنه غالبا ما يصل إلي نتائج نقيضه لطموحه إذ يفتقد لتعددية وسائل التعبير عن رسالته, ولا يتصور لها سوي صيغته هو, مهدرا الجزء الأكبر من الخبرة الإنسانية( التاريخ) التي تمثل مرجعا له وإطارا لتجربته, فلا يمكن الحكم علي أي نظام للأفكار بالصلاحية أو العكس إلا بمقدار ما يثمره في حركة الواقع, مهما كانت جاذبيته اللفظية أو هندسته العقلية, فمن دون معيار الصلاحية العملية والقدرة علي التحقق في الواقع يكون هذا الإدراك الثقافي بابا لا للحفاظ علي الخصوصية أو إثرائها, بل إلي الانغلاق والتقوقع في كهوف الزمان, وسراديب المكان, ما يمثل وصفة للتخلف, ناهيك عن القطيعة مع الآخر, حيث تواجه الذات الثقافية المتمركزة حوله مشكلتين أساسيتين:
المشكلة الأولي
هي المبالغة في إبراز التناقض مع الآخر, لأنها إذ تنطلق من الآخر نحو ذاتها, تتصور أن كل عامل مشترك مع الآخر يعني إذابة الذات فيه, ولأنها تنطلق من تصور طهراني للثقافة وخلاصي للهوية, لا تتصور وجود عوامل مشتركة معه ولو بأقدار مختلفة نتيجة تواصل ما تاريخي قد يرجع إلي جذر ديني ولو بعيد, أو جذر عرقي ولو فرعي, أو قربي لغوية ولو جزئية, فطالما وجد عامل مشترك فلا معني لوجوده غير أنها قد ذابت في الآخر وتأثرت به أو' انسحقت' أمامه, وهذا أمر يفزعها ويدفعها, من ثم, إلي نفي هذا المشترك والنأي بنفسها عنه من خلال تحديد ذاتها بنقيضه, فتكون لغتها مجرد سلب للغة الآخر, ودينها مجرد سلب لدين الآخر.. الخ. وهنا وإزاء حركة السلب هذه نكون بصدد عملية ليست فقط تلقائية بل ومتنامية لإبراز التناقض باعتباره الطريق الوحيد لتأكيد الذات.
ولقد عبرت حالة السلب هذه عن نفسها في الأديان الثلاث التي صاغت الحضارتتين الكبيرتين: العربية ـ الإسلامية, والغربية اليهو ـ مسيحية, وذلك من خلال فكرات ثلاث أساسية:
ففي الرؤية اليهودية للعالم ثمة فكرة الاختيار, تلك التي صنعت حاجزا بين اليهود والأغيار امتد بعمق تاريخهم, وشوه جل تفاعلاتهم, وربما صنع عقدتهم الوجودية. لقد عاش اليهودي تاريخه بإحساس ملتبس, ففي ردح قصير من الزمن بدا' متعاليا'علي الآخرين بقوته التي ظنها نابعة من خيريته, حتي إذا ما دالت دولته, وجدناه يحيا' آسفا متألما' إذ يجد نفسه' عاديا' في التاريخ منذ سبي البابليين أجداده, وفتك بهم الرومان, وبالأخص منذ جاء المسيح إلي الأرض نبيا للرحمة لا القتال رافضا أن يكون ملكهم المقدس, فاتحا شريعة موسي ودين الرب( يهوه) لجميع الناس/ الأغيار/ الأمم, ومانحا الخيرية لجميع المؤمنين من بينهم, المنتمين لإبراهيم بالروح لا الجسد, بالعقيدة لا العرق.
وحينئذ صار اليهودي لا يري في التاريخ سوي مجرد لص قام بسرقة خيريته, ومن ثم فقد عاش من أجل الثأر كلص جديد يسعي إلي سرقة الآخرين حتي يعود المسيح إلي الأرض المقدسة مستردا له خيريته. ولهذا نلاحظ كيف أن الشخصية اليهودية ظلت تراوح بين طبائع وأمزجة متناقضة, فهي شديدة الانسحاق, والعزلة والانطواء حينا, وهي شديدة الغرور والغطرسة والعدوانية حينا آخر وعندما تجد في التاريخ ما يبدو وكأنه فرصة أو تحول يعيد إليها تلك الخيرية المدعاة والتي لا يمكن لها أن تري الزمن إلا من خلالها إما احتفاء بحضورها, أو حسرة علي غيابها.
وفي الثقافة الإسلامية ثمة نزعة ماضوية لدي فصيل نحيف بين المسلمين يسقط علي الإسلام في مرحلة الأزمة, فهمه وتأويله المنغلقين, وحنينه إلي الماضي الأول, داعيا إلي العمل بأدواته نفسها مستخدما العنف في غير محله معتبرا إياه وسيلة مثلي أو طبيعية لتغيير الواقع, أو بلوغ الحقيقة ولو نال من الآخر وأدي إلي القطيعة معه, وذلك علي الرغم من الروح العالمية الكامنة في الإسلام, ونزعته العميقة إلي التسامح. وإذ ينسب هذا التيار نفسه إلي الإسلام, ويلبس عنفه العبثي أحيانا والعدمي أحيانا أخري ثوب الجهاد, فإنه يسيء إلي إحدي أهم الظواهر التي صاغت مسيرة الحضارة الإنسانية وهي الجهاد الإسلامي' الحضاري' ذا المنزع الإنساني والغاية التحريرية للتاريخ من قبضة الوثنية والشرك والانحطاط والفوضي. وهو أمر يستغله التيار العنصري في الوعي الغربي ويدفع به إلي مرحلة أعلي حيث يتم النيل من الإسلام كله كدين احتوي هذه الظاهرة, التي يتم اختزالها في المكون العسكري, وربطها بأعمال عنف سياسي وإرهاب وخروج علي القانون والشرعية في مجتمع معاصر متمدين لا يمت بحال أو صلة للبيئة التي نشأت ونمت فيها ظاهرة الجهاد الإسلامي بمعناها الرائق, قفزا علي تاريخها ومحاكمتها بمعايير القرن العشرين.
وفي الوعي الأوروبي الحديث ثمة نزعة التمركز حول الذات, تلك التي نمت منذ القرن الثامن عشر, وهيمنت علي التاسع عشر وبداية العشرين استنادا إلي افتراضين اختزاليين: أولهما هو مركزية الاستثنائية الإغريقية في التاريح الفلسفي, لدرجة تصبح معها الجذر الوحيد لكل عقلانية ممكنة, فلا توجد عقلانية أخري خارجها. وثانيهما هو المفهوم العنصري للثقافة والذي يتصور بقاء هذه الفلسفة أصلا نقيا لفكر غربي خالص لم يرفده مكون ثقافي سابق لها, كما لم يلوثها أي بناء فكري لا حق عليها. ومن هذين الافتراضين أنتجت الثقافة الغربية إيديولوجيا متكاملة ادعت عبر توليفات نظرية وتحيزات علمية تبلغ حد التزييف بسمو الغرب عرقيا ودينيا وفكريا بل بوحدته واستمراريته منذ بداية تاريخه وحتي الآن متمتعا بالطهر المعرفي والنقاء العرقي.
ولم يتوقف تمركز الغرب حول نفسه عند حدود إنتاج صورة نقية لذاته, بل تجاوزها إلي حدود تركيب صورة مشوهة للآخر, فالعالم خارج نطاق أوربا نظر إليه بوصفه سديما غامضا, وبدائيا وخاضعا لعلاقات اجتماعية تحتاج إلي تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيه. ويقوم خطاب هيجل كدليل علي هذه الرؤية المشوهة للآخر, إذ يري أن الأفريقيين والآسيويين أشد التصاقا بالدونية التي تميزهم في كل شئ عن الغربيين, أما السكان الأمريكيون الجنوبيون فقد اعتبر هشاشة التكوين الطبيعي لبلادهم كافية للترفع عن الحديث عنهم.
وهكذا قامت المركزية الغربية باختزال التاريخ كله في هذا الحاضر كبعد' راهن' من أبعاده الثلاثة, وذلك من خلال تثبيت معطياته المستجدة كمرجعية لباقي عصور التاريخ, تقاس إليها بل وتحاكم بها الثقافات والحضارات الأخري. ومن ثم صارت نزعة إقصائية تستند إلي العنف واحتقار الآخر, إلي درجة تبرر لها نشر ما اعتبرته رسالتها التحضيرية, والتي استبطنت فرض هيمنتها العالمية, ولذا كانت هي الجذر الذي خرج منه الفكر الكولونيالي وظاهرة الإحتلال ناهيك عن العنصريتين: النازية والفاشية, ولا تزال تنتسب إليه جل التيارات العنصرية واليمينية في الثقافة الأوروبية المعاصرة.
أما المشكلة الثانية
فهي الإغراق في كراهية الآخر كلما زاد تقدمه, واستطاع الولوج إلي فضاءات جديدة ومستويات أرقي علي صعيد التجربة الإنسانية; ذلك أن الذات الحضارية هنا تقع بين شقي رحي: فإما مماثلة الآخر في هذه الآفاق جميعا ما يعني لديها الذوبان فيه, وإما النأي بنفسها عنه, واعتبار هذه الآفاق مساحات غريبة علي ما تعتقده أصالتها, وربما غير أخلاقية قياسا إلي ما تتصوره فضيلتها. غير أنها لا تقوم بهذه العملية عن ثقة بل عن خوف, وليس عن تسام أخلاقي بل عن اغتراب نفسي, وليس عن زهد حقيقي بل عن شعور عميق بالحرمان. وإزاء كل تلك المشاعر السلبية بالخوف والاغتراب والحرمان, وبتصور أن الآخر هو من فرض تلك المشاعر عليها, لا يكون ثمة طريق سوي كراهيته والنزوع إلي القطيعة معه. ومع استمرار حال تفوق هذا الآخر, وتمكنه من السيطرة طويلة الآجل علي حركة الواقع, تبدأ الذات الحضارية في كراهية حاضرها, والتشاؤم إزاء مستقبلها, فلا يبقي لها من أبعاد الزمن سوي الماضي لتلوذ إليه بدعوي وجود تجربة سابقة فيه تنم عن السبق, وتشي بغير العجز, فإذا بها تمعن في تبجيله حتي تحيله إلي أسطورة متعالية علي التاريخ.
وربما كانت هذه التجربة محض أوهام في بعض الحالات, وربما كانت حقيقية أو حتي فذة في ريادة الإنسانية في حالات أخري, ولكن المشكلة التي تبقي قائمة في كلي الحالين أن تجربة الماضي غير قادرة سواء علي ملء فراغ الحاضر, أو علي زيادة الأمل في المستقبل, لأنها ببساطة غير قابلة للاستعادة ولا فائدة حقيقية لها إلا في حالة واحدة هي النجاح في تفكيكها والنفاذ إلي القيم الإيجابية المؤسسة لها بقصد إعادة إنباتها في تربة العصر.
غير أن المفاجأة المدوية التي سرعان ما تتبين لهذه الذات التعسة, أو للتيار الغالب فيها, أن تلك القيم الإيجابية التي صاغت تجربتها الزاهية في الماضي, هي نفسها العناصر الدينامية التي تصنع تقدم الآخر في الوقت الراهن, ولو صيغت في أشكال حديثة ومسميات معاصرة, وأنها جميعا محض سنن يودعها الله في التاريخ حاكمة لحركة البشر, تكاد تشبه, ولكن من دون حتم, تلك القوانين التي يبثها في الطبيعة, حاكمة لحركة الكون.
أما المفاجأة الصادمة حقا, فهي أن اكتشاف مثل هذه الذات الحضارية لهذه الحقيقة الأساسية ربما لا يسعدها إذ تري في هذا الاكتشاف انتقاصا مما تعده خيريتها الخاصة, ومن ثم تتنكر له لأن التفاعل مع معطياته سوف يماهي بينها وبين الآخر, ويذيب هويتها فيه فلا تعدو قادرة علي التعرف إلي نفسها, ومن ثم فهي غالبا ما تتنازل عن الكشف الجديد حفاظا علي هوية قديمة, وتتخلي عن الحاضر والمستقبل حتي لا تغترب عن ماضيها الذي تصورته أصالتها وهو, في الحقيقة, لا يعدو غربتها في الزمن وهلعها المرضي من الآخر.
ساحة النقاش