الحقوق المشتركة بين الزوجين (1)

الحب المتبادل بينهما (1)


الخطبة الأولى

انتهينا في الأجزاء السابقة من سلسلة أركان الأسرة، من حقوق الزوجة على زوجها، التي أجملناها في سته حقوق: حق الإنفاق عليها بالمعروف، وحق الإحسان إليها، وحق حفظ دينها، وحق الغيرة عليها، وحق التحبب إليها، وحق الصبر عليها. وانتهينا من حقوق الزوج على زوجته المتمثلة في: حق طاعته في المعروف، الذي فرعناه - بدوره - إلى ستة مظاهر: حفظه في الشهادة والغيب، وطاعته في قضاء حاجته الفطرية، وخدمته بالمعروف، وأن لا تخرج من البيت إلا بإذنه، وأن لا تُدخلَ بيته أحدا يكرهه، وحسن معاملة أهله وبخاصة أمَّه.

 

وننتقل - اليوم إن شاء الله تعالى - إلى الحق الأول مما يندرج ضمن الحقوق المشتركة بينهما، حق تتهم المجتمعات العربية والإسلامية بافتقاده، وعدم الاهتمام به، مع أن الإسلام أرسى دعائمه، ووضع أسسه، وحث على الاعتناء به، لما له من أهمية قصوى في زرع الدفء بين أركان الأسرة، وتحقيق الود بين أفرادها، ونشر السعادة في جنباتها. إنه حق الحب المتبادل بينهما، حق تعبير كل طرف عن رضاه بالآخر، والسكون إليه، الشعور بمحبته، وإكنان المودة له. وهذا - لعمري - من أعظم مقاصد الزواج في الإسلام. يقول تعالى: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. قال في البحر: "أي: جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج". وقال في الوجيز: "يعني: الأُلفة بين الزَّوجين". وقال الشيخ الطنطاوي: "أي: محبة ورأفة، لم تكن بينكم قبل ذلك، وإنما حدثت عن طريق الزواج الذى شرعه - سبحانه - بين الرجال والنساء، والذى وصفه - تعالى - بهذا الوصف الدقيق، في قوله - عز وجل -: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾.

 

وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ فقال: "عائشة" متفق عليه. وكان يقول لها: "كنت لكِ (أي: في المحبة والرعاية) كأبي زرع لأم زرعٍ" متفق عليه. فكانت - رضي الله عنها - أقرب الناس إلى قلبه، وأعظم من يكن له الود والمحبة من النساء، كما كان أبوها أبو بكر الصديق احب الرجال إليه.

 

وربما عبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حبه لزوجته حتى بعد موتها، كما كان يفعل بخديجة - رضي الله عنها -. تقول عائشة - رضي الله عنها -:"ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول:"(إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد)" البخاري.

 

وكانت عائشة - رضي الله عنها - تبادل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعور نفسه، فتعتني بما يسعده، وتترك ما يحزنه، لا تسعى له في نكد، ولا تكون له سببا كرب، فتمكن حبها من قلبه، وعلم الصحابة ذلك، حتى إنهم إن كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ عَائِشَةَ" البخاري.

 

حتى إذا غضبت هجرت اسمه، ولم تهجر محبته. يقول لها النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إِنِّي لأَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ". قَالَتْ: "وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ: "إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً قُلْتِ: بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ". فقَالَتْ: "أَجَلْ، لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلاَّ اسْمَكَ" البخاري.

 

فقارن هذا بالذي يهجر زوجته الشهور ذوات العدد، وبالتي تتعمد هجران زوجها الشهور ذوات العدد، هي لا تكلمه، وهو لا يكلمها، إمعانا في الأنفة والأنانية، ومبالغة في العناد والندية.

 

وقد بين استطلاع للرأي في البرازيل، أن نسبة 90% من الزوجات يَرَيْنَ أنّ الرجال يتغيّرون كثيراً بعد الزواج، من حيث عدم تقدير أحاديث المرأة. كما أثبتت دراسة صادرة عن "مؤسسة الزواج" البريطانية أن 45% من الأزواج الذين تزوجوا لأول مرة خلال العام الحالي 2013، يتجهون إلى الطلاق، كل ذلك له نصيب من جفاف الحياة العاطفية، وطغيان توتر الحالة العصبية.

 

إن المرأة الصالحة هي التي تعرف ما يغضب زوجها فتتركه، وما يفرحه فتفعله، لأنها تعلم أن سعادته سعادة للأسرة، وكآبته كآبة للأسرة. ولذلك لما أوصت أُمَامة بنت الحارث ابنتها عند زواجها، فبينت لها كيف تحظى بمحبة زوجها لها، وكيف تأخذ بلبه، وتستحوذ على قلبه، فقالت لها: "فلا تعصين له أمرًا، ولا تُفشِين له سرًّا، وإياك والفرحَ بين يديه إن كان مهتمًّا، والكآبةَ بين يديه إن كان فرِحًا.. وإذا قابلتِ زوجك، فقابليه فرِحة مستبشرة، فإن المودة جسمٌ، رُوحه بشاشةُ الوجه.. ولا تغفلي عن نظافة بدنك، فإن نظافته تضيء وجهَك، وتحبِّب فيك زوجَك.. فالمرأة التَّفِلة (كريهة الرائحة) تمجها الطباع، وتنبو عنها العيون والأسماع".

 

يقول الإمام أحمد بن حنبل في زوجته عباسة بنت المفضل: "أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة".

 

وسأل الشعبي شيخه القاضي شريحا - يوما - عن حاله في بيته فقال: "من عشرين عاماً لم أر ما يغضبني من أهلي". وذلك أنه من أول ليلة صلى ركعتين، وسلم، فوجدها بجنبه تصلي بصلاته، وتسلم بسلامه، ثم حمدتِ الله وأثنت عليه، وقالت له: "أما بعد: فإني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيَه، وبين لي ما تكره فأتركَه". فقال لها شريح: "لقد قلتِ كلاماً، إن ثَبَتِّ عليه يكنْ ذلك حظكِ، وإن تَدَعيه يكن حجةَّ عليكِ، فإني أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيتِ من حسنةٍ فانشريها، وما رأيت من سيئةٍ فاستريها". فقالت له: "كيف محبتك لزيارة أهلي؟". قال: "ما أحب أن يَمَلني أصهاري". قالت: "فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذنَ له، ومن تكرهُ فأكرَه". قال: "بنو فلانٍ قوم صالحون، وبنو فلان قومُ سوء". قال شريح: "فَمَكَثَتْ معي عشرين عاماً، لم أعتب عليها في شيء، إلا مرة، وكنت لها ظالماً".

 

ومن نادر ما روي عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال: "وقفتُ على بَزَّاز (بائع الثياب) بمكة اشتري منه ثوبا، فجعل يمدح ويحلف، فتركته وقلت: لا ينبغي الشراء من مثله، واشتريت من غيره. ثم حججت بعد ذلك بسنتين، فوقفت عليه، فلم أسمعه يمدح ولا يحلف، فقلت له: وأي شيء أخرجك إلى ما أرى؟ ما أراك تمدح ولا تحلف. فقال: كانت لي امرأة، إن جئتها بقليل نَزَّرته، وإن جئتها بكثير قلَّلته، فنظر الله إلي فأماتها، فتزوجت امرأة بعدها، فإذا أردت الغُدُو الى السوق، أخذَتْ بمجامع ثيابي ثم قالت: يا فلان، اتق الله، ولا تطعمنا إلا طيباً، وإن جئتنا بقليل كثرناه، وإن لم تأتنا بشيء، أعنَّاك بمغزلنا".

 

لهذا قلت مشاكلهم، وضعفت خصوماتهم، وندر التشنج بينهم، وسعدت حياتهم، وحسنت تربية أبنائهم، الذين كان منهم العلماء، والفقهاء، والقراء، وغيرهم.

 

الخطبة الثانية

ومن علامات المحبة بين الزوجين، أن يتزين أحدهما للآخر، وأن يتجمل له بأحسن الثياب، ويكون على أفضل هيئة يرتاح لها الآخر، لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، فالزوجة تحب من زوجها ما يحبه هو منها، فلا يدخل عليها ورائحة الدخان تنبعث من فمه، أو آثار العرق تفوح من أطرافه، أو أوساخ العمل بارزة على ثيابه.

 

يقول يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي:"أتيت محمد بن الحنفية، فخرج إلي في ملحفة حمراء، ولحيته تقطر من الغالية (خليط من أفضل الطيب). فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهي منهن".

 

وفي حديث أم زرع في الصحيحين، تقول إحدى النسوة مادحة زوجها: "زوجي: المَسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرْنَب (نباتٌ طيِّب الرائحة)".

 

ولم يكن السلف الصالح يجدون غضاضة في أن يتزينوا لزوجاتهم، ولم يكونوا يرون ذلك مذمة ونقصا، أو تذللا وضعفا. يقول ابن عباس - رضي الله عنه -: "إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة، كما أحب أن تتزين لي، لأن الله - تعالى - يقول: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.

 

وكان مما يتزين به الرجال: ترجيل الشعر، واستعمال الطيب، والاكتحال، ونظافة الجسم، ولبس حسن الثياب، وتطهير الفم بالسواك. وفي الحديث الشريف: "إن الله جميل يحب الجمال" مسلم. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ" مسلم.

 

وكان - صلى الله عليه وسلم - يوصي الرجال أن لا يدخلوا على زوجاتهم ليلا إذا رجعوا من السفر ويقول: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ، فَلاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلاً" البخاري.

 

وحتى إذا اضطر لذلك، فليعلم زوجته، حتى لا يجدها متبذلة، ليس عليها من مظاهر الزينة شيء. فعن جابر - رضي الله عنه - قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فلما قدِمنا المدينة، ذهبنا لندخل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً - يعني: عِشاءً - لكي تمتشط الشَّعِثَة، وتستحد المُغِيبة" متفق عليه.

 



   


 



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/56789/#ixzz2zMwlCdq9
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 88 مشاهدة
نشرت فى 20 إبريل 2014 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,613,608