القيم الإنسانية في الخطاب الأدبي الإسلامي .. من المعنى إلى شعرية المعنى

د. إبراهيم أنيس الكاسح
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/7/2013 ميلادي - 22/9/1434 هجري
زيارة: 4826

   
  Share on favoritesShare on facebook Share on twitter Share on hotmailShare on gmail Share on bloggerShare on myspaceShare on digg

القيم الإنسانية في الخطاب الأدبي الإسلامي

من المعنى إلى شعرية المعنى


المقدمة:

نطرح في مقاربتنا هذه تصوراً نقدياً يزاوج بين التنظير والإجراء التحليلي؛ فهو تنظير من جهة وقوفنا عند مجموعة من المقولات النظرية التي تمثل الإطار المعرفي العام الذي يضبط إيقاع ممارستنا النقدية. ومن أهم هذه المقولات: مقولة القيم الإنسانية من جهة مفهومها، وتنوع احتمالات تضمينها في الخطاب الأدبي، ثم ستكون لنا انتقالة إلى الخطاب الأدبي الإسلامي، الذي نريد أن نجعل منه ممارسة إبداعية مبرّرة تحتفظ بكثير من مشروعيتها، بوصفها فعلاً إبداعياً يمتلك حق التأثير على المتلقي؛ انطلاقاً من خصوصيته البنائية الجمالية، ومن خلال احتوائه على مضامين (قيم) تمثل مقول الخطاب الأدبي الإسلامي؛ وبذلك نقترح مقاربة تنأى بهذا الخطاب عن إشكالية التصور المسبق والقارّ، التي لا تتحمس لكل خطاب أدبي يلتزم ارتباطاً بمرجعية عقائدية أو فكرية. أمّا المقولة الثالثة، التي نحاول طرحها للنقاش، هنا، والحوار حول وجاهتها الفكرية، فتتصل بطبيعة المقاربة أو النسق النقدي الذي نروم من خلاله البحث في الخطاب الأدبي الإسلامي، فمقاربتنا لهذا الخطاب تعتمد طرح: شعرية المعنى. والمفهوم الذي يحيل عليه هذا المصطلح؛ هو البحث في نظام جامع لدلالات الخطاب الأدبي الإسلامي؛ بما ينسجم و المعاني الإنسانية القيمية التي تستأنس بها الذات الإنسانية و تتشوف إليها.

 

أما البعد الإجرائي الذي نحاوله في هذه المقاربة، فينصرف إلى ثلاث فئات (أجناس) من الخطاب الأدبي الإسلامي: خطاب شعري، وخطاب سردي قصصي، وخطاب مسرحي؛ إذ تمثل هذه التنويعة مناسبة حيوية تزودنا بإمكانات إقامة تصورنا النقدي الذي نستهدفه في هذه المقاربة؛ فمن خلال تنوع أجناس الخطاب الأدبي، يمكن لنا أن نبحث في شعرية المعنى للخطاب الأدبي الإسلامي، في إطار نصوص تتنوع طبيعتها البنائية بين الشعري والسردي، والعرض في حالة النص المسرحي، وعلى تنوعها في نظامها الأجناسي، فإنها تتضامن في تجسيد ما أسميناه ب (شعرية المعنى)؛ إذ جميعها تترجم عن مضامين مشتركة تسعى لإيصالها للمتلقي.

 

مقولة القيم الإنسانية:

تشكّل القيم الإنسانية في مجموعها مبحثاً مستقلاً من مباحث التفكير الإنساني الفلسفي، وهو مبحث (القيم). ويحيلنا أصل لفظة (قيمة) إلى معنى: القدر، والمنزلة والرتبة العالية، [1] فالقيمة مرادفة للثمن؛ ذلك أن قيمة أي شيء: ثمنه وما يُقدّر به، ويمكن أن نسحب هذه المعالجة على الفعل والسلوك البشريين، فقيمة أي فعل إنساني، هي ثمنه من جهة رضا الآخرين عنه، و انسجامه وتناغمه مع مصدر القيمة، فالشيء القيّم هو مادة عالية الثمن، والفعل أو السلوك القيم هما شيئان مقدّران، ويستحقان كامل الاعتراف بإيجابيتها؛ ومن ثم الرضا عنهما في مجتمع هذا السلوك الإنساني.

 

(القيمة) لفظة واصفة؛ و من ثم فإن دلالتها التواضعية تنشأ اعتماداً على ذلك، و مفهومها يتأتى من كونها (تطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته)[2] وأن الشيء القيّم هو الذي حاز (صفةً تجعل ذلك الشيء مرغوباً فيه ومطلوباً عند شخص من الأشخاص أو طائفة معينة من الناس)[3]، ولا يُفهم من هذا القول: إن القيم مقدَّرة فقط في إطار فئة أو طائفة معينة، بل إن التقدير يطال كل القيم مهما تنوعت وتعددت، مادامت تنتمي لفئة القيم المطلقة التي تحظى بإجماع إنساني يتجاوز الاختلاف العقدي أو القومي أو العرقي، كما أنه إجماع لا يخضع لموجبات مرحلة تاريخية محددة؛ فتُقبل في مرحلة، وتنحسر وتتراجع في أخرى. فهي مطلقة؛ لأنها مستحقة للتقدير بذاتها[4]، وليست إضافية، كما توصف هذه القيم المطلقة بالقيم الأصلية تمييزاً لها عن القيم العرضية[5]؛ لأنها تتسم بالثبات والرسوخ من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تختلف عن القيم الوسيلية التي ترتبط منزلتها بمدى قدرتها على تحقيق غاية ما. فالقيم المطلقة هي كذلك؛ (لأنها غاية في ذاتها وليست لها غاية أخرى)[6].

 

والقيم التي جرى الاتفاق على وصفها بالمطلقة أو المثالية هي: الحق، والخير والجمال، ويُجمع تاريخ الفكر البشري على تثبيتها وفق هذه الثلاثية، وهي من فصيل القيم المعنوية التي تمثل غاية الطموح الإنساني في مجتمعاته.

 

ومن المشتغلين بمبحث القيم من يُدرج هذه القيم الثلاث في إطار نسق يجمع بين المستوى العقلي المجرد و قيمة الحق، والمستوى الجمالي و قيمة الفن، والمستوى الأخلاقي وقيمة الخير[7]؛ ليتحقق التدرج من المجرد المتعالي المحيل على مصدر القيم ومنشأها، إلى المادي والمتجسّد الذي يتجلى في أنماط القيم المادية وتأثيرها على سلوك الأفراد داخل الجماعات البشرية، وهو يُرصد في إطار قيمتي الجمال والخير.

 

وقد كانت الفلسفة اليونانية القديمة تقيم تمييزاً بيّناً بين: القيّم لذاته؛ لأنه يحمل في ملامحه وصفاته ما يجعله كذلك، وتوصف هذه المقاربة للقيم بالذاتية، وقد قال بها المتحمسون للنزعة المثالية في الفلسفة، أما القسم الآخر من القيم فيقصد به القيم التي تمتلك منزلتها من خلال طريقة إدراكها وتقديرها؛ فصفات هذه القيم-وفق هذا التصور- ليست كامنة فيها، وإنما (يخلعها العقل على الأقوال والأفعال والأشياء طبقاً للظروف والملابسات، وبالتالي فهي تختلف باختلاف من يصدر الحكم)[8]، وبهذا قال الطبيعيون والوضعيون. لقد تميّز التفكير الفلسفي اليوناني في النظر لمسألة القيم، بهذه الثنائية التي تذهب بها في اتجاهين مختلفين: فهي إمّا قيم ذاتية، وإما غير ذاتية، ويعود هذا الفصل لتباين الرؤى الفلسفية بين مدارس وتيارات هذه الفلسفة، وهو تباين يرتهن أساساً لاختلاف المرجعية والمنطلقات منذ السفسطائيين مروراً بسقراط وأفلاطون حتى أرسطو والأفلوطينية الحديثة.

 

أما في المجال الفكري العربي الإسلامي، فإننا نجد أن مقولة القيم الإنسانية قد خضعت في الأساس للمصدر الإسلامي متمثلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وبالذات عند أهل السنة، والمتصوفة، وإن شاب النظرة إلى القيم الإنسانية شيء من التغيير عند المعتزلة والفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا ممن تأثروا بدرجة ما بأساليب ونتائج التفكير الفلسفي الإغريقي؛ فأقاموا نقاشاً حول القيم يدور حول ماهيتها، في حين نرى أن التفكير الإسلامي السني قد باشرها انطلاقاً من مبدأ إدراجها في منظومة الأخلاق والسلوك المجتمعي، وهو ما جرى تناوله تحت مصطلحي (الحسن والقبيح) عند الغزالي ومسكويه وغيرهما[9].

 

لقد تعاطى الفكر الإسلامي مع مسألة القيم الإنسانية الإيجابية من منظور عملي؛ لذلك فحتى النقاش المعرفي النظري حولها كان منصرفاً لذكر مدارج هذه القيم ومنازلها كالخير والجمال، يقول مسكويه: والخيرات منها ما هي شريفة في ذاتها وتجعل من اقتنائها شرفاً وهي الحكمة والعقل... ومنها الممدوحة مثل الفضائل والأفعال الجميلة الإرادية... ومن الخيرات ما هي بالقوة مثل التهيؤ والاستعدادات التي تطلب لذاتها[10].

 

والمصدر الذي منه تنشأ القيم في الفكر الإسلامي، هو الله الحق والداعي إلى الحق، الجميل منتهى الحسن والبهاء، والخير الذي يشمل بعنايته جميع الموجودات[11]. لقد جاء القرآن الكريم حاوياً لكل أنماط القيم، سواء تلك المتعلّقة بعلاقة الإنسان بالله أو بنفسه أو بالآخرين في مجتمعه، انطلاقا من مبدأ مركزي هو جعل الحياة الإنسانية أكثر مثالية وإيجابية، ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف: 44]، كما فاضت السنة النبوية الشريفة بذلك، وقد وسعت مدوّنات السنة القولية، ومدوّنات السنة الفعلية توجيهات قيمية ركّزت - كما أسلفنا - على تقدير السلوك الإيجابي، ونورد نموذجاً من ذلك جاء في صحيح مسلم من حديث ابن أبي عمر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:(من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)[12]، فمن الحق أن تؤمن بالله؛ وهو حق بالبرهان لمن شاء، وحق بالتسليم القلبي القائم على الهداية عند آخرين، ومن الخير أن تسلك مسلك الوفاء لمن مات وترتبط به بعلاقة ما، ومن الخير أيضاً أن تشعر بمعاناة الآخرين من المساكين و المرضى وتبادر لتخفيف هذه المعاناة، وهي قيم تجسّدت في سلوك يأتي به الفرد، وجرى إظهارها وتثبيتها في سياق الفعل والممارسة، وجرى التشديد على أهميتها من خلال ذكر ما ينتظر الفرد القائم بها. والقيم السابقة كما جاءت مفصلة في نص الرسول صلى الله عليه وسلم، هي قيم وسيلية في جزئياتها، ولكنها مطلقة في كليتها؛ إذ تتدرج جميعها في قيمة الخير المطلق الذي هو أساس مبحث الأخلاق، و غاية أفعال الإنسان جميعها[13]. لقد وقع منّا تبيان للقيم المطلقة تمييزاً لها عن غيرها من القيم المؤقتة والعارضة، وهي مطلقة؛ لأنها تستجيب لمطالب صلاح الحياة البشرية، وهي كذلك أيضاً لقبولها والتسليم بها ممن مازال يحتفظ بصفاء الفطرة الإنسانية المجبولة على قبول ما يسميه المفكرون بالقيم التي تقع في الجانب الموجب لخط الصفر، تمييزاً لها عن أنماط السلوك النظري أو العملي التي تقع على الجانب السالب من هذا الخط؛ ومنها ينتج ما هو ضار خاطئ؛ ليوضع كل ذلك في مستوى ما هو عديم القيمة[14]. تحوز القيم المطلقة إجماعاً إنسانياً؛ لكونها مناسبة لتحقيق حالة أفضل للوجود الإنساني، وبما أنها كذلك فإنها حتماً سترتبط بصلة مباشرة وقوية مع الله تعالى في الحضارة الإسلامية؛ فهو مصدرها والدافع إليها والمجازي عليها. فالله تعالى هو الحق المطلق؛ لأنه واجب الوجود لذاته[15]، وعن الحق المطلق تصدر الحقوق التفصيلية الطبيعية اللازمة عن طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان[16]، وإذا انتفى الإيمان بالله تاهت فكرة الحق المطلق، وهو ما يهيئ الفرصة لحصول الباطل ووقوعه، كما يضع الإنسان أمام حضور مهيمن للواقع الذي يؤثر بصورة فاعلة في استنبات أنماط مفاهيم وممارسات قد تتنافر مع المصلحة الإنسانية الشاملة والمُجمع عليها؛ لذلك قيل إنه الحق ضد الواقع[17]؛ لأن الحق متعالٍ وسامٍ، في حين أن الواقع متحيّن ومُشكّل وفق صياغات أصلها مادي، ومُوجهها علاقات النظام المادي.

 

ومن الحق يأتي الخير، ولأجل الحق يكون الخير، وعندما يتحقق تكريس الحقوق التفصيلية الطبيعية: الحق في الحرية، في العدل، في المساواة... يحصل الخير ويتجسّد في المجتمعات البشرية، والخير الذي يعنينا هنا، ما يسميه مسكويه: خير جميع الناس، ومن جميع الوجوه، وفي جميع الاوقات[18]، وبما أن الله هو الحق المطلق فإنه تعالى هو الخير الأول، و ضد الخير الشر، ويسمي فلاسفة المسلمين الخير بالحسن، والشر بالقبيح، وهي أوصاف شكلية تحاول أن تمنح المجردّ صورة تقرّبه من الوعي به و إدراكه. فالخير ما كان بهيا حسناً ينتج السعادة واللذة، والشر ما كان مناقضاً للأوصاف السابقة، وهو ما يرتب الألم لدى الناس، ويمثل تحقيق الخير غاية للأديان، ومطلباً للفلسفات والرؤى الوضعية، وكما انقسمت قيمة الحق إلى حق مطلق شامل، وحقوق نسبية تضعها في الغالب المدوّنات التواضعية و تنص عليها، فإن قيمة الخير بدورها تتوزع على ما هو خير مطلق مرغوب لكل الناس، وخير نسبي يتعلق بإنسان دون آخر، أو طائفة دون أخرى.

 

وإذا جئنا نرصد القيمة الثالثة من القيم المطلقة وهي قيمة (الجمال) فإننا ننظر إليها بوصفها حقيقة متعالية تصدر عنها حالة السعادة لدى الإنسان، وهو مبدأ علوي كالمبدأين السابقين (الحق والخير)[19]، ولا يتحقق جوهره أي (الجمال) إلا به، أي لا تستطيع تحسس قيمة جمال الجميل إلا من خلال إقرارنا بوجوده قبل أن يتجسد[20]، وهو ما تقول به الفلسفة المثالية، وقال به الغزالي، والذي يجعل من البصيرة وسيلة لإدراك الجمال المطلق وتحسس كمالاته[21]، ومن الجمال ما هو نسبي، ويقدّر عندها من خلال الصور التي يتجسد عبرها، أي من خلال التشكيلات الفنية الجمالية المتنوعة، ومن خلال الغايات التي يدفع إليها، كما يحصل تقدير الجمال النسبي من خلال الذوات المدركة له، و تقدير الجمال عموماً يأتي مقروناً عند بعض الباحثين بالخير؛ فيجعلون الشيء الخيّر جميلاً، والجميل خيراً في اندماج يخضع لمبدأ الوسيلة والغاية، فغاية الجمال تحقيق الخير و منفعة السعادة، ومقصد الخير تحصيل اللذة والسعادة، وهي صور الشعور بالجمال والإحساس به.

 

لقد ارتبط الانشغال على مبحث القيم بنظرة مركزية تفصل بين المطلق منها، والمؤقت، وبين المتعالي والعارض العابر، وهو فصل جدلي يترجم عن اختلاف مصادر النقاش حولها، وتنوع الانتظارات الإنسانية بخصوص ما يجب أن يكون عليه المثال والنموذج الأكثر كفاءة لتوفير إمكانية أفضل للحياة الإنسانية.

 

تمثل القيم الإنسانية فرصة مهمة للقاء الإنساني؛ لقاء حول منزلتها إن حضرت، وتحسيس بأزمة فقدانها إن غابت، وهي تعد إطاراً عاماً للمشاعر الإنسانية، تقرّب بين الناس على اختلاف تنويعاتهم العرقية والحضارية، فهي قاسم جماعي يتصل بالمصدر الجامع، ويتجسد من خلال النفس البشرية الصافية التي تميل تلقائياً إلى البحث عن الكمالات، والتقاط المثل التي تشكّل منتهى المقدّر والسامي.

 

مقولة الخطاب الأدبي الإسلامي:

تتفق أغلب المصادر على أن لكلمة خطاب مفهوماً مركزياً يقوم على التواصل بين طرفين: مرسلٍ - متلقٍ، وقد صدر هذا الإجماع عن مصادر لغوية، وأخرى اهتمت بمفاهيم التواصل والتخاطب، سواءٌ أكانت مصادر في الدرس الأدبي أم في فروع معرفية أخرى؛ فمصطلح الخطاب يُحيل على مفهوم وظيفي تداولي ينتقل باللغة من حالتها السكونية بوصفها نظاماً ثابتاً مكوّناً من أنساق متعددة: معجمية وبنائية... إلى كونها إمكانية للتخاطب والبحث عن الآخر في إطار اللقاء الوجودي بين الذوات الإنسانية؛ ومن هنا اكتسب هذا المصطلح هذه الصفة المفهومية. وإذا انتقلنا خطوة أخرى إلى الأمام لننظر في مصطلح الخطاب وقد تحدد بكونه: (أدبياً)؛ فهذا يعني أننا أمام خطاب بهُوية خاصة؛ أي تواصلاً يُوظّف تقنيات وأساليب ترتبط بالأدبية، وتخضع لصفاتها البنائية، فالأدب صياغة فنية جمالية، ولا يمكن له أن يتحقق من دون هذا المبدأ الذي يشكّل أصل هويته، وبه يتعرّف ويتحدد. وعندما يكون الخطاب أدبياً؛ فهذا ينتقل بنا من تصور عام وُضع الخطاب فيه في أول حديثنا أي أنه فعل تواصلي لغوي بين مرسلٍ ومتلقٍ في إطار اللغة عموماً، أما إذا جئنا نفحص الخطاب الأدبي انطلاقاً من فكرة التواصل فإننا سننتقل بالتصور السابق إلى مستوى أكثر تحديداً؛ ومن ثم أكثر خصوصية؛ ذلك أن الخطاب الأدبي هو تواصل بين طرفين عبر رسالة هي النص الأدبي مهما كان الجنس الأدبي الذي يُسجل فيه: قصيدة أو قصة قصيرة أو غير ذلك، وهذا يقودنا بالضرورة إلى إظهار أن الطرف المرسل في التواصل الأدبي هو مستخدم خاص للغة، وموظّف خاص للغة الفنية والنظام البنائي الجمالي، ونريد به هنا (المبدع) فهو الطرف المرسل للنص الإبداعي؛ وبالتالي هو المستوى الأول من مستويات التخاطب الأدبي؛ والمتلقي في التواصل الأدبي هو حالة مفتوحة على تنوع ذوات المتلقين؛ ذلك أن التخاطب الأدبي لا يستهدف متلقياً محدداً، وإن توجّه إلى مخاطب معين، وإنما هو تواصل أوسع وأشمل ينفتح على اللامتناه واللامحدد من المتلقين، وهو معنىً يُغاير المألوف في التخاطب اللغوي الاعتيادي الذي يكون فيه المُخاطَبُ قابلاً للتحديد والحصر. والتلقي في حالة التواصل الإبداعي مفتوح أيضاً على الزمن؛ فهو تلقٍ عبر زمني يُستحضر فيه النص الإبداعي في أزمنة مختلفة؛ فنقرأ لزهير بن أبي سُلمى اليوم ما قاله قبل مئات السنين، ونقرأ اليوم ما يقوله الدكتور وليد قصّاب حديثاً، وسيقرأ اللاحقون ما كتبه الدكتور جابر قميحة؛ ومن هذا المنطلق يكتسب الخطاب الأدبي مفهوماً نوعياً يجعله تواصلاً بشرياً عبر- تاريخي، وإذا تُرجم الخطاب الأدبي الإبداعي إلى لغة أخرى؛ تأتّى له أن يتسرب إلى وعي أمم وأعراق أخرى غير الأمة التي نشأ في إطارها هذا الخطاب الإبداعي، وهنا إضافة أخرى إلى حساسية هذا الفعل (الخطاب الأدبي)، وهي حساسية تعكس حيوية دوره الإنساني، وما يمكن أن يُحدثه من فارق في التأثير على تشكيل وعي الأفراد والجماعات البشرية.

 

يستثمر الخطاب الأدبي السبل والوسائل الفنية الجمالية لإحداث تأثير أكثر فاعلية على المتلقي، وهذا صحيح على مستوى شكل هذا الخطاب، كما هو صحيح أيضاً على مستوى مضامينه. فالرسالة في التواصل شكل ومضمون، كما أن النص الأدبي في التواصل الأدبي شكل ومضمون أيضاً، وعند اقترابنا من مسالة المضمون في الخطاب الأدبي فإن ذلك يدفعنا إلى الحديث عن أن هذا المضمون هو حاصل معانٍ وأفكار وقضايا أنتجتها تجربة إنسانية عاشها المبدع ودفعته إلى القول الإبداعي، فلا يستقيم للخطاب الأدبي حضور بالصورة التي رسمناها فيما مضى ما لم يطرح في ثناياه مقولة قول يستحق أن يُقرأ ويُتلقى، وقد شكَّلت هذه القضية موضوع نقاش طويل، وأحياناً متوتر بين النقّاد والمشتغلين على الأدب قديماً وحديثاً؛ منذ الجاحظ في القرن الثالث الهجري مروراً بعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، إلى أطروحات الرومانسيين والواقعيين العرب من الذين تأثروا بالفكر الغربي، وقد تحكمت في هذا الحوار أحياناً نزعة حديّة معيارية اتجهت إلى التفضيل والتغليب؛ فقال فريق بتقديم الشكل على المضمون، وقال فريق آخر بعكس ذلك، أي بتقديم المضمون على الشكل، ولكننا نرى أن مفهوم الخطاب الأدبي يُعد خير ضامن لتفادي إشكالية الانحياز إلى هذا المستوى في النص الأدبي على حساب المستوى الآخر؛ ذلك أن للخطاب مفهوماً إجرائياً، أي يمثل مبدأ التوظيف ركناً مركزياً في صياغة هذا المفهوم (الخطاب)، وإذا انتفى هذا الركن المركزي تعذّر اكتمال مفهوم الخطاب، الذي هو تخاطب (مادة خطب) عبر قولٍ له شكل يتجسد من خلاله المعنى ويتعين، وعبر معنى يُحيل عليه هذا الشكل ويعود إليه، ثم يأتي بعد ذلك نقاش من نوع آخر يتعلق بتقدير مستوى الأداء الشكلي، أو مستوى قيمة المضامين وجودتها، وهنا موضع التمايز بين الخطابات الأدبية، وموطن اختلاف درجات تقدير الموهبة الأدبية ومستوى الأداء الإبداعي.

 

ثم نقول أيضاً إن اقترابنا من منطقة الجانب المضموني في الخطاب الأدبي يُفضي بنا إلى نسقٍ آخر يكوِّن المقولة التي صدّرنا بها هذا الحديث (الخطاب الأدبي الإسلامي)، وكأننا أمام تراتبية بدأت من مفهوم الخطاب، ثم انتقلت إلى مفهوم الخطاب الأدبي؛ لتصل بنا إلى الخطاب الأدبي الإسلامي الذي جاء تعريفه عند المهتمين بنظرية الأدب الإسلامي على النحو التالي: يقول الأستاذ سيد قطب موضحاً مفهوم مصطلح الأدب الإسلامي: (هو التعبير الناشئ عن امتلاء النفس البشرية بالمشاعر الإسلامية)[22]، ويتحدث الأستاذ محمد قطب عن الفن الإسلامي قائلاً: (هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان، هو الفن الذي يهيأ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال. ومن هنا يلتقيان في القصة التي تلتقي عندها كل الحقائق في الوجود)[23]. ويعرّف الأستاذ عبد الرحمن رأفت باشا الأدب الإسلامي بأنه: (هو التعبير الفني الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان عن وجدان الأديب تعبير ينبع من التصور الإسلامي للخالق - عز وجل -، ولا يجافي القيم الإسلامية)[24].ويقول الدكتور مأمون جرّار عن الأدب الإسلامي أنه: (الأدب الذي يقدم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان؛ وهناك يجب التركيز على شرط الأدبية والإسلامية معاً)[25]، وفي السياق نفسه يقول الأستاذ مصطفى بن عمور عن الأدب الإسلامي: (هو تلك المادة اللغوية التي تتسم بإبداعية خاصة تنسجم مع التقاليد المؤسسة لمعنى الأدبية، وهو مادة ذات شكل مرن يساير حركة الإبداع بما يُغنيه ويحقق جمالياته وديمومته، وشكل يحتوي مضامين وجدانية وشعورية مرتبطة بالإسلام رؤية وتصوراً لا بمعنى القواعد والقوانين ولكن بمعنى الإحساس الذي يفرزه الوجدان من خلال تمثله لتلك الرؤية، وذلك التصور..)[26].

 

تنطق النصوص التي قدّمت مفهوماً للخطاب الأدبي الإسلامي بأطروحة تنظر إلى هذا الخطاب من خلال مستويين مركزيين: مستوى الشكل الأدبي، وهو ما يميّز الخطاب الأدبي عن غيره من الخطابات الأخرى، وقد جرى التشديد على هذه الصفة عند كل من: الأستاذ محمد قطب (التعبير الجميل)، والأستاذ عبد الرحمن الباشا (التعبير الفني)، وعند كل من الأستاذين مأمون جرّار ومصطفى بن عمور باستدعائهما مصطلح (الأدبية) الذي يترجم عن قراءة حديثة للرؤى والمفاهيم النقدية وبخاصة عند النقّاد الغربيين من مثل رومان جاكبسون وتودوروف اللذين ينظران إلى الأدبية بوصفها: القوانين البنائية الداخلية المؤسِّسة لنظام الخطاب الأدبي[27].

 

أما المستوى الآخر الذي جرى التشديد عليه في التعريفات السابقة، فيقترن بفكرة (الرؤية والتصور الإسلاميين) فالأدب الإسلامي فن كما أخبر عن ذلك الأستاذ محمد قطب في تصور أشمل، ولكنه فن يخضع لمرجع معين هو: الرؤية الإسلامية للوجود وللإنسان، و الأدب الإسلامي سلوك لغوي جمالي يتأسس على مقررات وضوابط العقيدة الإسلامية بوصفها تصوراً شاملاً يستوعب كل تفاصيل الوجود، ويضبط حضور كل مكوناته، ويوجّه العلاقات بين عناصره، وبالذات الإنسان من جهة علاقته بخالقه - عز وجل - وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالآخرين من عناصر الوجود الأخرى، فالأدب الإسلامي مكوِّن من مكونات المشروع الإسلامي، وهي الفكرة التي يعزِّزها الأستاذ أنور الجندي قائلاً: (والواقع أن الأدب على ما أطلق له الفكر الإسلامي من حريته الكاملة في التعبير والخيال والفن؛ فقد جاء ذلك في إطار حركة الفكر نفسه، وفي تقدير كامل للأخلاق والدين والقيم الأساسية من توحيد وحق وعدل)[28] وفق (مفهوم واضح قوامه أنه (الأدب) غير منفصل عن الفكر الإسلامي كله كمفهوم أساسي)[29].

 

من المنتظر أن ينهض احتجاج قد يكون حادا من مناصري الفلسفة المثالية والقائلين بمبدأ: الفن للفن، وهم يجدون أنفسهم أمام الربط المباشر بين الأدب والمصدر العقدي؛ انطلاقاً من رفضهم ارتهان الفن عموماً والأدب بالذات لأية سلطة خارجية غير الوفاء لأدبيته وجمالية بنائه، وهو ما عبّر عنه الناقد الإنجليزي تيري أجلتون قائلاً: إن (الأدب خطاب غير ذرائعي فهو لا يخدم أي غرض عملي مباشر)[30]، ومن وحي هذا الاحتجاج تمت مهاجمة الأدب الملتزم، وظهرت كتابات كثيرة تدفع باتجاه معارضته، وحرمانه من الانتساب إلى مفهوم الأدب أصلاً. فهل يخضع تصور (الأدب الإسلامي) لهذه النظرة الرافضة أو على الأقل المشككة؟.

 

من خلال التعريفات السابقة، وتعريفات غيرها كان هناك ميل عند المنظرين لفكرة الأدب الإسلامي إلى التشديد على ما أسماه الأستاذ سيد قطب: (الامتلاء بالمشاعر الإسلامية)، مما يعني أن التضامن مع فكرة الأدب الإسلامي ليس صادراً عن مقاربة عقلية فقط؛ ومن ثم الاقتناع بها، وإنما هي أيضاً مقاربة مؤسسة على الإحساس بالإسلام والشعور بقيمه، والتضامن مع معانيه الروحية، وهو لقاء صافٍ بين مكوِّن ذاتي في الإنسان مؤسس على الإحساس بالعاطفة والإدراك بالوجدان، وبين قيم مثالية وروحية كالخير والجمال والحق في العدل والمساواة والحرية، وهي قيم تُقارب من خلال حبها والتعلق بها والتشوُّف إليها، كما أنها تُقارب أيضاً من جهة القناعة بصوابها وصحتها وانسجامها مع منطق الأشياء. إن التزام الأدب الماركسي صادر عن مقاربة عقلية موضوعية لما جاء من مقولات في النظرية الماركسية، وقد كان التضامن مع هذه المقولات صادراً عن حسابات فكرية أكثر من أي شيء آخر، وعندما تم الاحتجاج على الأدب المادي المنادي بأطروحات الفكر الماركسي فإن ذلك كان كذلك؛ لأن هذا الأدب انصرف إلى شعارات إيديولوجية تبشر بتصورات وأنماط سلوكية محددة، في حين أن الخطاب الأدبي الإسلامي قد حرُص على الوفاء بأصل الظاهرة الأدبية القائم على المكوِّن الذاتي الروحاني؛ فكان اللقاء بين القيم الإنسانية التي تكوِّن نسقاً جوهرياً في بنية التصور الإسلامي وبين جمالية الأدب الذي حافظ على أدبيته على قول الأستاذ مأمون جرّار، فقد انصرف مجمل الخطاب الأدبي الإسلامي إلى التحسيس بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية الصافية، و انطلق كل أديب من تجربة خاصة، ليجعل منها أفقاً إنسانياً عاماً[31] يلتقي فيه هذا الأديب مع الإنسان في كل مكان، سواء أكان مشاركاً له في العقيدة أم لا.

 

إن مبدأ التعاطي مع التصور الإسلامي من خلال المشاعر والأحاسيس يُعد إدراكاً مميزاً لطبيعة الأدب من جهة، ولطبيعة ما يُمكن أن يقع من نقاش جدلي حول ما أسماه الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه (التفضيل الجمال) بفكرة (الاستمتاع والانتفاع في الفن)؛ فالشعور بالتصور الإسلامي هو تضامن مع القيم الإنسانية التي احتواها هذا التصور، والتي تشكل مطلباً إنسانياً كونياً؛ جاء الإسلام لتوطينها في المجتمعات الإنسانية، وعندما تدرج هذه القيم الإنسانية في الخطاب الأدبي فإنها تحتفظ بجاذبيتها وإثارتها؛ لأنها - كما أسلفنا - مضامين إنسانية تلتقي حولها المشاعر الإنسانية دائماً[32].

 

لقد كان لي في عنوان محاولة هذه إشارة إلى ما أسميته (شعرية المعنى)، وهي إشارة مُربكة للوهلة الأولى؛ وذلك لأن مصطلح (الشعرية) يرتبط أساساً، في النقد الأدبي، بالمستوى البنائي للنص الأدبي (الشكل)، ويقترن بنظام هذا النص الفني، وعندما نقرِن هذا المصطلح بالمعنى فقد يتبادر للدهن أننا نصل بين مكونين متعارضين أصلاً: مكوِّن ينصرف إلى الشكل، وآخر يتعلق بالمضمون؛ وعندها لا يتأتى الانسجام المعرفي في هكذا كلام. ولكننا نقصد بشعرية المعنى شيئين: الشيء الأول: هو البناء المضموني للنص، وهو ما يكفل أدبيته من جهة ما يطرحه من معانٍ ومضامين؛ فنأخذ من مفهوم الشعرية البنائية فكرة النسق، وكأننا نقول إن جملة المعاني تشكِّل نسقاً داخلياً في النص الأدبي، وهو نسق يقوم على شرط مثالية هذه المعاني ورقيِّها وإطلاقها، فكما أن الشكل شرط في أدبية الأدب فإن المضمون أيضاً شرط فيها، وبما أن الشعرية نسق بنائي فإن هذا النسق قد يشكل محتوى النص كما قد يشكل بناءه الشكلي.

 

إن اختيار نماذج من الخطاب الأدبي الإسلامي لا يُعد أمراً يسيراً، بالنظر إلى المعيار الذي عليه نعتمد لإدراج هذا النص أو ذاك في الخطاب الأدبي الإسلامي؛ إذ نجد عديد النصوص الإبداعية شعراً أو قصة أو مسرحية مما يحمل خصائص تجعله أقرب لطبيعة الأدب الإسلامي على الرغم من أن كاتبيها لا يُصنّفون كتاباً للأدب الإسلامي بالنظر لمجمل أعمالهم الأدبية؛ ولذلك نميل إلى تبني حدٍ لاختيار النصوص الأدبية كنماذج للخطاب الإسلامي، يقوم على معيار: الكتّاب والمسلك الإبداعي، لا اعتماداً على النصوص الأدبية. فالكاتب الذي ينتج تراكماً أدبياً مهماً ينطق بتبني الرؤية الإسلامية فيما يُنجز من أعمال أدبية؛ فهذا يعني أنه كاتب يُسجل حضوره في الأدب الإسلامي. لقد كانت لنا محاولة في اختيار ثلاثة نصوص أدبية من أجناس أدبية مختلفة ولكتّاب عُرف عنهم بالاحتكام إلى التصور الإسلامي في كتاباتهم الأدبية، ومنهم من كان مشاركاً في التنظير للأدب الإسلامي، وترسيخ مفاهيمه كالدكتور وليد قصّاب. والنصوص التي اخترناها ممثلة للخطاب الأدبي الإسلامي هي: نص شعري للشاعر محمود مفلح بعنوان: (أمي)، ومسرحية للأديب وليد قصّاب بعنوان: (حديث اللحظات الأخيرة)، ونص قصصي قصير للأديب نعيم الغول بعنوان: (وميض أزرق بارد)، والحقيقة أقول إنني لم أتعمَّل كثيراً في التقاط هذه النصوص، ولم أعتمد معايير حادة في اختيارها؛ وإنما كان اختياري لها مؤسساً على الاستحسان السريع، والشعور بوفائها لمقتضيات السياق الذي أشتغل عليه الآن وإن كنت حريصاً منذ البداية على أن تكون النصوص الأدبية منتمية لأجناس أدبية مختلفة؛ لكي لا ينصرف القول إلى أن مقولات القيم الإنسانية تصلح مضامين لجنس أدبي دون آخر، وهو ما ليس بحقيقي؛ لأن هذه القيم تمثل مضامين وأفكارٍ تقبل الاندراج في أي جنس أدبي سواء أكان هذا الجنس الأدبي شعراً أم سرداً؛ فالشعرية التي نستهدف إظهارها في دراستنا هذه هي شعرية المعنى وليست شعرية الشكل، وشعرية البناء المضموني الذي يتجسد من خلال شعرية البناء والنظام الشكلي.

 

شعرية المعنى في قصيدة (أمي):

لقد افتتح الشاعر القصيدة هنا بمعانٍ جزئية اجتمعت في نسق الاستفهام الإنكاري الذي يُظهر الدهشة والارتباك اللذين داهما الشاعر؛ فانبرى يتجه إلى نفسه مخاطباً بنبرة لائمة ومُستهجِنة، وهو الذي اعتاد أن يوطِّن قيمة الجمال في سلوكه الوجودي من خلال إبداعه للشعر، ومن خلال امتلاكه لنفس حساسة مرهفة تميز شخصيات الشعراء عادة:

مالي سمعتُ كأن لم أسمعِ الخبرا هل صار قلبيَ في أضلاعه حَجرا؟ مالي جمدت فلم تهتزَّ قافيتي ولا شعرتُ ولا أبصرتُ من شعرا؟ كأنَّ كلَّ سواقي الشعر قد أسِنت من جففَّ الشعرَ من الشعرِ قد غدرا؟ أنا الذي عزفت أوتارُه نغماً هزَّ الورى والذُرا والطيرَ والشجرا مالي سكتُ فلم أنطقْ بقافية ولا رأيت بعيني الدمعَ منحدراً؟

 

لقد سكتت قوافي الشاعر، وتعطّلت عيناه عن أن تدمعا، وتحجّر العضو الصغير العظيم (القلب)؛ لأن الحدث استثنائي وهي أن تموت الأم وأن ترحل؛ لترحل معها كل معاني الرحمة والعطف والحنان، والتنفيس عمّا يعانيه الإنسان من قسوة العالم الخارجي، فالشاعر الذي اعتاد أن يكون من الداعين إلى قيمة الجمال، والذي عُرف بإحساسه بقيمة الحق والتضامن معها، ها هو يفقد أمه وهي قيمة عظمى احتوت قيماً تفصيلية عديدة، وبموتها تنحسر هذه القيم، ويُكابد الإنسان مرارة فقدانها. ماتت الأم التي ذهب بموتها ما يطلبه الشاعر في الزمن الحاضر والذي لن يتحقق لأن المُطالبة (الأم) ما عادت هنا:

هزّي سريري إني لم أزلْ ولداً ودّثرينيَ إن الريحَ قد زأرا.. وجفّفي عَرَقي فالصيفْ ألهبني وسلسلي الماءَ كي أقضي به وطرا ما زال صوتك يا أماه يتبعني يا ربُّ ردَّ حبيباً أدمنَ السفرا

 

وفكرة الأمومة مكوّن مهم من مكوّنات قيمة الخير الذي يطال الابن، وبغيابها تنأى هذه القيمة تحت ضغط ممارسات الشر في المجتمع البشري.

يا ربِّ صُنْهُ من الأشرارِ كلهمُ ورُدَّ عنه الأذى والكيْد والخطرا واجبرْ إلهي كسْراً، حلَّ في ولدي فأنتَ تجبرُ يا مولاي ما انكسرا

 

ويجد الشاعر في حديثه عن الأمومة المرتبطة بقيمة الخير مناسبة لاستحضار أناسٍ أحاط بهم الشر، وكأنه إيحاء بأن هذه الروح الخيِّرة الماثلة في (الأمومة) هي روح شاملة يمكن لها أن تدرأ الشر الذي يفتك بالزوج الباحث عن قيمة الحق:

وارحم إلهيَ زوْجاً غاص عائلها في ظلمة السجن لم تُبصرْ له أثرا

 

وشراً يفتك بالطفلة:

وطفلةً كلما قالت زميلتها أتى أبوك؟ تشظّى القلبُ وانفجرا

 

وشراً لا يرحم شيخاً:

وارحم إلهي شيخاً دبَّ فوق عصاً قد كاد من طول ليلٍ يفقد البصرا

 

وشراً يصدر عن الطغيان والظلم؛ فيطارد الأحرار طالبي الحق في الحرية والكرامة:

يا ربّ ما ذنبُ أحرارٍ إذا وقفوا مثلَ الجبالتِ وموج الظلم قد سكِرا؟!

 

لقد ذهب الواقع بالابن، ومن فلاسفة القيم من يجعل الواقع في مواجهة قيمة الحق؛ بما ينضح به هذا الواقع من ممارسات سلبية فاسدة تناقض مقتضيات الحق؛ ويكون الإنسان مدفوعاً إلى مسلكين: إما أن ينصرف إلى مواجهة هذه الممارسات السلبية؛ فينشغل بذلك، وإما أن تستدرجه هذه الممارسات؛ فينخرط في فئة العاملين والمكرسِّين لها. ويبدو أن الشاعر كان من أصحاب المسلك الأول، فماتت أمه دون أن يكون حاضراً بجوارها في اللحظات الأخيرة التي تشهد انتقالتها إلى عالم غير عالمها، وإلى حالة أخرى:

ما زال صوتك يا أماه يجلدُني إني أسأتُ وجئتُ اليوم معتذرا لا والذي خلق الدنيا وصورّها ما خنتُ عهدك يوماً، ما قطعت عُرى لكنها محَنٌ حلت بساحتنا أودت بفكر الذي قد روّض الفِكرا

 

هي المحن إذاً والأحداث الجسام التي حلت بساحة الشاعر ما شغله عن أمه، وعن أن يرسل في أذنها تراتيل الشهادة؛ لتكون آخر ما تسمع في هذه الدنيا، وعلى لسان أكثر الناس قرباً منها. إنه الواقع بكل إفرازاته التي تناقض ال�

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 82 مشاهدة
نشرت فى 12 إبريل 2014 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,824,793