اصبح من الصعب في زماننا ان تقوم العلاقات الدولية بين الدول والشعوب علي اسس راسخة من الثوابت التاريخية والأخلاقية فلقد تغيرت موازين السياسة وافتقدت الكثير من مقوماتها التاريخية.. ولهذا وجدنا هذه العلاقات تخضع لنشرة الأحوال الجوية فهي كل يوم علي حال..
ولعل السبب في ذلك يرجع الي تغير لغة المصالح وازدواج المفاهيم والمقاييس لمعني العلاقات المتوازنة, وبجانب هذا حالة القصور التي اصابت الواقع السياسي العالمي في كل جوانبه مما جعل المهمة صعبة والرسالة مستحيلة..
في حديث طويل ممتع علي غداء عمل دعا له وزير الخارجية نبيل فهمي عددا من الكتاب والمفكرين دار الحديث عن مستقبل العلاقات الخارجية المصرية مع العالم.. حاول الوزير ان يربط تاريخ وزارة الخارجية المؤسسة العريقة بحاضرها مع اطلاله نحو المستقبل.. لم يخل الأمر من تعليقات وتساؤلات هنا وهناك او محاولة لكشف الحقيقة رغم اننا نعلم انها تبدو احيانا مرة.. هناك جوانب يجب ان نحافظ علي سريتها لحساسيتها الشديدة وجوانب اخري يجب ان نتوقف عندها ونناقشها بكل الوضوح والصراحة..
دارت في ذهني افكار كثيرة وتوقفت عند بعض الملاحظات او ربما الأخطاء التي وقعت فيها سياستنا الخارجية طوال السنوات الماضية..
- لا بد ان نعترف ان مصر قد ضيقت الي ابعد الحدود مساراتها الخارجية بحيث انها انحصرت تقريبا في إطار دول الإتحاد الأوروبي وامريكا.. وكان من الخطأ الجسيم ان تترك الساحة الدولية بكل تنوعها واتساعها ومصالحها وتقتصر علاقاتنا علي هذه المساحة, لا أحد ينكر اهمية امريكا كقوة دولية وحيدة ومعها الاتحاد الأوروبي خاصة بعد ان اتسعت مساحته ليشمل اوروبا الشرقية بعد سقوط الإتحاد السوفيتي.. لقد استمدت علاقتنا مع امريكا اهميتها منذ توقيع اتفاقية السلام مع اسرائيل, واصبح من الضروري ان تعبر هذه العلاقات من تل ابيب احيانا لتصل الي واشنطن ولا شك ان هذه كانت نقطة ضعف اساسية في مسيرة القرار المصري حين اعتقد المسئولون عنه ان اسهل الطرق الي قلب امريكا هي إسرائيل.. وللحقيقة فإن اسرائيل في احيان كثيرة قد اكدت هذا التوجه وان دفعت مصر ثمنه غاليا من حيث الدور والأهمية والقرار.. في احيان كثيرة بدت سياسة مصر الخارجية وكأنها دائما في حالة انتظار لضوء اخضر يأتي من واشنطن وربما من تل ابيب.. وفي المقابل فقد فرطت مصر في علاقات تاريخية مع دول كثيرة.. فرطت مصر في علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي السابق, روسيا حاليا رغم ان هذه العلاقة اعطت لمصر وزنا متميزا وصل بها الي حالة من التوازن في علاقاتها بين القوي العظمي.. ولا شك ان الإتحاد السوفيتي شعر في فترة ما بشئ من الجحود خاصة انه قدم لمصر دعما فريدا في كل المجالات الإنتاجية والعسكرية والصناعية وكان شريكا داعما للقرار المصري في فترة صعبة من تاريخ مصر الحديث..
فرطت مصر في علاقات تاريخية مع الهند حين بدأنا معا تجربتنا الأولي مع الديمقراطية والاستقلال وكان غاندي في دلهي وسعد زغلول في القاهرة وبعد ذلك توطدت العلاقات بين عبد الناصر ونهرو لتقوم منظومة عدم الانحياز مع الزعيم اليوجسلافي تيتو.. ومن ينظر الآن الي العلاقات المصرية الهندية يكتشف انها علاقات عادية جدا.. وما حدث مع الهند حدث مع الصين القوة العظمي الصاعدة ثم اندونيسيا وباكستان ودول شرق آسيا.. وفي نفس الاتجاه كان إهمال العلاقات التاريخية التي وصلت يومها الي حد المصاهرة مع إيران قبل ثورة يوليو حين تزوج شاه إيران بالأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق.. وتراجعت منظومة العلاقات التاريخية مع إيران لتصل الي درجة القطيعة, وما يقال عن إيران يقال ايضا عن تركيا, فقد شهدت مراحل تراجع وازدهار لأنها لم تقم في الأساس علي لغة المصالح بل شابتها في احيان كثيرة توجهات عقائدية اساءت لرصيد تاريخي ضخم بين البلدين رغم اشباح الماضي البغيض في ظل الخلافة العثمانية..
- في الجانب المهم من الصورة تبدو العلاقات بين مصر والدول العربية والتي قامت علي ثلاثية تاريخية لا يمكن تجاهلها هي الدين واللغة والجغرافيا وهي ثلاثية لا تكاد تجتمع في دولة واحدة وليس في عدد من الأوطان.. لقد فرطت مصر في دورها العربي امام صراعات سياسية غيرت كل الحسابات.. كان الدين الوسطي هو اول رسائل مصر التاريخية لعالمها العربي.. وكانت اللغة العربية بكل تراثها هي أهم واقدم وسائل التواصل بين الشعوب العربية ومنها كان الإبداع المصري الخلاق في كل جوانب الثقافة فكرا وشعرا وفنونا.. ثم كانت القوة الناعمة للمصريين والتي تجسدت في طبيب ماهر واستاذ جليل وعالم موسوعي وكفاءات قادرة في كل المجالات.. ومع القوة الناعمة المصرية في عصرها الذهبي تأكدت معاني الوحدة العربية ورباط الدم والأخوة وساعد علي ذلك علاقة جغرافية ربطت بين ابناء الأمة الواحدة لغة وتاريخا ومصيرا..
ان مصر هي التي فرطت في دورها العربي وتخلت عن ثوابتها وكوادرها ومقومات تميزها في مجالات كثيرة فقد الفن المصري بريقه.. ولم يعد لدي مصر ما تقدمه من الإبداع الأدبي والفكري الراقي الذي اعتاد عليه العالم العربي سنوات طويلة في ظل رموزها الكبار ومع تراجع اهمية اللغة العربية لدي الأجيال الجديدة طغت الفنون الأجنبية علي الذوق العربي في السينما الأمريكية ومواكب النت والفضائيات, وكان ينبغي ان تواكب مصر بإبداعاتها كل هذه المتغيرات, وبجانب هذا فإن المتغيرات السياسية والطفرات الإقتصادية ومنظومة التعليم الأجنبي التي حدثت في تركيبة المجتمعات العربية غيرت الكثير من ثوابتها ومفاهيمها, بل انها اصبحت قادرة علي تقديم نماذج ثقافية وحضارية تتناسب مع ظروفها, وما طرأ عليها من متغيرات..
هنا يبدو امامنا هذا السؤال.. وماهي صورة المستقبل وكيف نستعيد المكان والمكانة ونعيد للعلاقات المصرية مع العالم كل العالم توازنها القديم.. ؟
- لا أحد يفكر او يتجاهل دور امريكا القوة العظمي في العالم وما تقدمه لنا من دعم خاصة الدعم العسكري وهو جانب لا يستطيع أحد انكاره او تجاهله فقد استمر ثلاثين عاما, واصبح من المصادر الضرورية لقواتنا المسلحة.. ولكن من الخطأ ان تختصر امريكا علاقاتها مع مصر في بضع ملايين من الدولارات جعلت الرئيس اوباما يتحدث عنها في محفل دولي في الأمم المتحدة في تصرف لا يليق استنكره بوضوح وزير خارجية مصر ولا ينبغي ان تظل العلاقات بين مصر والعالم تدور في دائرة واحدة لأن مصر ما بعد الثورة لا بد وان تنفتح علي العالم كله, ولا بد ان نسعي الي مصادر انتاج وتطوير ومعرفة مع مراكز التقدم وما حدث في دول شرق اسيا اكبر دليل علي ذلك فقد استفادت الي أابعد مدي من التكنولوجيا المتقدمة والصناعات الصغيرة ووسائل الاتصال الحديثة وثورة المعلومات والإنترنت ومراكز المال العالمية..
- يجب ان نستعيد قدرات قوتنا الناعمة ليعود الدور المصري الفكري والثقافي الي العالم العربي لقد تراجعت قدرات كثيرة, ولكن بقيت نقاط ضوء يمكن الانطلاق منها.. رغم ما حدث للسينما المصرية وما اصابها من انهيارات إلا انها بقيت من الجسور القوية خاصة مع انتشار الفضائيات يأتي في هذا السياق ايضا دور الدراما المصرية وهي مازالت قادرة علي تقديم فن جيد.. يأتي ايضا دور الجامعات وهي مازالت تحتل مكانة كبيرة لدي المثقف العربي خاصة جامعة الأزهر المؤسسة الدينية العريقة وجامعة القاهرة بتاريخها المضيء.. هناك ايضا السياحة ومازالت مصر حتي الآن اهم مزار سياحي للمواطن العربي وبجانب دورها الحضاري فهي مصدر اقتصادي سريع ومؤثر..لقد فرطت مصر في علاقات شديدة العمق مع دول الخليج في فترة كان ينبغي ان تكون اكبر شريك لهذه الدول في بناء اقتصادياتها.. يأتي ايضا إهمال علاقة تاريخية مع السودان الشعب والعمق الإستراتيجي.. وتأتي ليبيا بوابتنا الي شمال افريقيا وتداخل سكاني وبشري وجغرافي يشمل ليبيا كلها..
- كان سد النهضة في اثيوبيا اكبر دليل علي فشل السياسة المصرية في التعامل مع افريقيا رغم اننا كنا يوما قلب افريقيا ولم نكن مجرد موقع متميز علي خريطتها.. لقد باعت مصر فروع شركة النصر واشترتها شركات اسرائيلية وكان لدينا عدد من الرموز التي لقيت دائما كل التقدير امثال بطرس غالي ومحمد فائق ومحمد غانم وتراجعت علاقاتنا مع افريقيا حتي وصلت احيانا الي درجة القطيعة رغم اننا نعلم ان شريان الحياة الذي يجري في اراضينا يمثل علاقة كونية فريدة لا يمكن اهمالها..
- كان الحديث مع وزير الخارجية نبيل فهمي حديثا ممتعا وعميقا طاف في مناطق كثيرة خاصة ان الرجل يضع يديه علي كل تفاصيل المشهد السياسي المصري, وهو يدرك نقاط ضعفه وما بقي له من مصادر القوة وقد كان شاهدا ومشاركا علي الكثير مما جري فيه.
لا يستطيع وزير مسئول ان يضع تصورا كاملا للمستقبل في ظل حكومة انتقالية لن يتجاوز عمرها تسعة أشهر, ولكن علي الجانب الأخر فإن الرجل حريص علي ان يضع خطوطا لعلاقات دولية متوازنة ومبادئ عامة تحكم مسيرتنا نحافظ فيها علي مصالحنا وثوابتنا دون ان يتأثر ذلك كله بحسابات قديمة حملت الكثير من جوانب القصور والسلبية.
.. ويبقي الشعر
ركب الزمان يطوف في عبراتي
وأنا أراك تطل مـن عرفـات
وأمامك التاريخ يسجـد خاشعـا
والحق حولـك شامـخ الرايـات
وتودع الدنيا بوجــه مشـرق
فيه الجلال.. ونبل كل صفـات
تبكي الجموع وأنت تهمس بينهـــا
قد لا أراكم في الحجيـــج الآتـي
لكنني أودعــــت في أعناقكــم
قرآن ربي.. سيرتــي وحيـــاتـي
لن تضلوا إن تمسكتـــم بـــــه
فخلاص هذي الأرض في آياتــــي
ويطل وجهك خلف ستر خافــــــت
فتري حشود الحق في الصلـــوات
وتري الوجوه وقد أضاء جلالـهــا
والدهر يكتب أقدس الصفحــــــات
وتصيح فيهم أن غــاية ديننــا
طهر القلوب ورفعة الغايــات
فجر الضمير رسالتي لا ترجعوا
للكفر بعدي.. في ثياب طغـــاة
لا تقربوا الأصنام بعدي إنـــها
بيت الضلال.. وآفـة الآفـــات
ولتعبدوا الرحمن ربا واحــدا
فعلي هداه تفجرت صيحـــاتـــــي
الله خالق كل شيء فاجمعــــوا
أشلاءكم بالحق والرحمـــات
وحدت أشلاء.. جمعت شراذمـــا
وجعلت من طلل الشعوب بنـاتــــي
الظلم في ركب الحيـــاة ضلالــــة
والعدل نور الله في الظلمــــات
والذم في وجه الحيــاة جريمــة
وتميمة للرجس واللعنـــــات
والحق أولي أن تـصان حصـــونـه
ليظل تاج الأرض والسمـــوات
والأرض عرض والدماء محــــارم
ونقاء مال المرء بالصــدقـــات
حرية الإنسان غايـــة ديننــــا
وطريقـنا في كل فجــــــر آتـــي
ونساؤكم في كل بيت رحمــــــــة
تاج العفاف وســــام كل فتـــــاة
والعدل دستور الحياة فإن غفــي
هرعت حشود الظلـــم بالويــــــلات
والحكم عدل والشرائع حكمــــــة
والنفس عنــدي أكبـــــر الحرمــــات
أهل الكتاب لهم حقوق مثلنـــــــا
في الأمن.. في الأوطان.. في الصلوات
الله ساوي الخلق وحد بينهـــــــــم
في العيش.. في الأنساب.. في الدرجات
أما الحياة وديعة في سرهــــــــــا
هل يستوي الأحـــــياء بالأمــــــــوات ؟
ويل لأرض مات فجر ضميرها
موت الضمــــائر قمــــة المأســــاة
لكنني أيقنت أن رسالتــــــي
فيها الهدي من خـــالق السمــــوات
بلـغت يا الله فاشهد أننـــــــــي
لم أنس حق رعـــــيتي ورعاتــــــي
زوروا المدينة.. وأذكروني عندها
من زار قبري صـــــافحته حياتـــــــي
أنا لم أكن إلا رسول قد خلـــــــت
قبـــــلي رسالات وهـدي عظــــــــــــات
بشر انا.. ما كنت ربا بينكـم
بل كنت فــجرا لاح في لحظــــــــــات
وأفاض في الدنيا.. وأيقظ أهلهـــابالـحق
والتـنزيل.. والآيـــــــــات
فإذا بدا في الأفق غيـــم عابــــــث
صلـوا علي.. وأكثــــــروا الصلــوات
' من قصيدة علي باب المصطفي سنة2010'
لمزيد من مقالات فاروق جويدةرابط دائم:
ساحة النقاش