. ومن التعليــم ما قتــــل!
بقلم: د.سعيد اسماعيل على
كلنا يعلم علم اليقين ألا حياة لإنسان بغير طعام وشراب, ولا يكون الطعام أي طعام, بل لابد من توافر عناصر أساسية فيه, فضلا عن قدر من التوازن بين هذه العناصر. وكذلك لا يكون الماء أي ماء, بل لابد من توافر شروط صحية معينة.
فإذا ما وجدنا الطعام والشراب يفتقدان هذه الشروط والمقومات, فمن المتوقع أن يكون الطعام والشراب- سببا الحياة- طريقا إلي انتهاء هذه الحياة نفسها! هكذا الأمر في التعليم.. هو حياة كل أمة تريد أن تحيا بصفة عامة, ولكل أمة تريد أن تزاحم ليكون لها مكان بين الأمم الناهضة والمتقدمة, بصفة خاصة, وبصفة أخص, لكل أمة استغرقت في النوم كثيرا, وتخلفت طويلا, فأصبح عليها أن تخطو, مع الأمم المتقدمة ضعفي ما يخطون. ومنذ أكثر من نصف قرن انطلق تشبيه الدكتور طه حسين الشهير: إن التعليم كالماء والهواء, وكان الرجل يستند في هذا التشبيه إلي جانبين: أولهما التماثل في الضرورة, وقيام الحياة, وثانيهما, وجوب أن يكون التعليم مجانيا مثلما كان الأمر- أيامه- من حيث مجانية الماء والهواء. وإذا كان البعض قد سخر من هذه الدعوة بطرح تساؤل: وماذا لو كان كل من الماء والهواء ملوثا ؟فإننا نضيف نحن اليوم إلي هذا, أن الهواء المتوافر لجموع المصريين, قد صار بالفعل ملوثا, فإذا ما أراد إنسان هواء نقيا, فلا يتاح هذا إلا للأغنياء, حيث المنتجعات والفيلات والقصور في مناطق جديدة, ومدن خاصة. كذلك الماء, فالكثرة الغالبة من المصريين لا يجدون الآن الماء النقي, لكن المتيسرين يتناولون الماء المعبأ في قوارير صحية.
هكذا الأمر بالنسبة للتعليم, تتعاطاه الكثرة الغالبة من المصريين ملوثا في معظم مدارس الدولة, التي تقدمه مجانيا, وإن شئت الحقيقة: شبه المجاني, بينما يتعاطاه, نادر التلوث, المتيسرون في مدارس لغات خاصة ودولية. ونحن نزعم أن التعليم الرسمي القائم وهو يستوعب جمهرة أبناء المصريين: عاليه, وعامه, وفنييه- هو مثل الغذاء الفاقد العناصر الأساسية لحسن التغذية, والذي لا تتوافر فيه مقومات التكامل والتوزان بين العناصر. وإن شئت أن تتيقن من صحة هذا القول, فحاول أن تخضع بعض تلاميذ مدرسة حكومية ابتدائية لاختبار في القراءة والكتابة, بعد عامين من التحاقهم بها, فسوف تجد غالبا- أنهم لم يتعدوا بعد مرحلة الأمية الكاملة!
إذا كان الخبراء والمتخصصون يشترطون عددا معينا من التلاميذ لابد ألا يزيد عنهم تلاميذ الفصل الواحد, حيث يدور حول عشرات تقل عن أصابع اليد الواحدة, فانظر إلي الكثير من الفصول المدرسية, تجد أن عدد التلاميذ فيهاقد أصبح عشرات ربما تزيد عن أصابع اليدين معا, مما يستحيل معه أن تتوقع الوصول حتي إلي الحد الأدني من المأمول من العملية التعليمية... وهكذا قل عزيزي القارئ عما يصعب حصره عن التعليم القائم, مما يحتاج مئات الصفحات كي نكشف سوءه, إلي درجة حولته إلي عنصر لم يعد يقف عند حد الفساد, وإنما أصبح مفسدا, بل و مهلكا, كما يصاب الطعام أحيانا والشراب بما يجعله ضارا, وربما مميتا, ولك أن تشعر معي بقدر كبير من الأسي عندما تمسك معي بكتابين أصدرت أولهما عام1985 بعنوان:( محنة التعليم في مصر), والآخر عام1986 بعنوان:( إنهم يخربون التعليم في مصر), فكأننا بعد أكثر من ربع قرن, نجد أن ما كنت أعيب عليه, كان رحمة إذا قيس بما أصبح عليه الأمر الآن.
إن ما يحزنني ليس فقط هذا التراجع, بينما المفروض أن نكون قد حققنا تقدما يساوي سبعا وعشرين عاما,وإنما فيما أقرأ وأسمع علي ألسن الجميع من تقدير لأهمية التعليم ودوره في النهضة, ثم لا أجد علي المستوي الفعلي شيئا يعكس هذا التقدير,وكأن ما يقال ويخطب به ويكتب عن أهمية التعليم وتقديره, مثله مثل تلك الحلة, التي ملأتها أم معدمة, ماء, ووضعتها فوق النار, ليتصور أبناؤها الجوعي أنها تحتوي طعاما, أو كقبة لو كشفت ما بداخلها لما وجدت شيخا يرقد تحتها, يتبرك به بسطاء الناس وأميرهم. والأمثلة كثيرة يمكن أن تشير لك كيف أصبح التعليم بمواصفاته القائمة حاليا في مصر- أداة تخريب للذهنية المصرية, وتجهيل للعقل المصري, وتفتيت لمقومات الشخصية المتكاملة.
لقد ضاق أفق التعليم في مصر, فأصبح يقتصر علي اجتياز ما يعقد من امتحانات, هي نفسها امتحانات معيبة, مللنا من اتهامها بما هو معروف من الاقتصار علي مستوي واحد من مستويات التعليم والتعلم, وهو المستوي المعرفي, مهملة المستويين: الوجداني, والمهاري, وحتي هذا المستوي المعرفي, تقف الامتحانات عند أدني مراتبه, وهو التذكر, مهملة مراتب أخري تتعلق بالاستنباط و التحليل والمقارنة والتعليل..إلخ. وبدلا من أن تصبح الامتحانات وسيلة لتطوير التعليم أصبحت غاية تجر وراءها طريقة التعليم, والكتاب المدرسي, فيدوران هما كذلك وفق نفس فلسفة الامتحان العقيمة. من منا لا يحزن علي ما أصبح حاكما الآن لسلوك الكثرة الغالبة, علي مستويات مختلفة, سواء من حيث القيم الحاكمة, أو اللغة المستخدمة, أو العلاقات القائمة, ولنسأل أنفسنا: هل هناك ما هو أثمن وأغلي من هذا مقوما لحسن قيام أي مجتمع, فضلا عن نهضته وتقدمه؟
لقد تخلت مؤسسات التعليم عن واجبها في هذا الشأن منذ أن تغير اسم وزارة المعارف إلي التربية والتعليم, فإذا بنا نخسر الإثنين معا. كيف نأمل في وحدة وطنية, وأساسها العقلي والثقافي والاجتماعي قد أصبح مفتقدا, بهذا التعدد المخيف لتعليم المرحلة الأولي بين تعليم مدني,والآخر ديني, وفي المدني, تعليم حكومي,وآخر خاص, وفي الحكومي, تعليم مجاني, وآخر تجريبي, وفي الخاص, تعليم بلغة أجنبية, وآخر دولي..وهكذا, مما لا يوفر للمواطن المصري اشتراكا في جملة المكونات الأساسية للمواطنة.
لا أريد أن أستطرد أكثر من هذا, حتي لا أبدو أمام القارئ كمن يولول صارخا, باكيا, يلطم الخدود ويشق الجيوب, فأقع في جب الجاهلية الأولي, وأعد القارئ- إذا كان في العمر بقية, أن أشير في أكثر من مقال, إلي طاقات نور يحتاجها السائرون نياما في نفق مظلم, ترشدهم إلي سواء السبيل التعليمي الذي يقدم الغذاء الصحي المعين علي استمرار الحياة, لا أي حياة, بل حياة قوامها التحرر والتقدم, معرفة وتطبيقا قويما.
ساحة النقاش