قراءة في مشهد السفارة
بقلم: فاروق جويدة
بعض القضايا تبدو علي السطح وكأنها قضايا سياسية أو أمنية فقط وإذا تعمقنا فيها اكتشفنا انها في الحقيقة قضايا ثقافية ترتبط عادة بالمستوي الفكري للإنسان وقدرته علي التعامل مع الأحداث ونظرته للأشياء ودرجة الوعي والإدراك فيها أودرجة السطحية والجهل بها..
وهنا يمكن لنا ان نقيم ما وصلت إليه المجتمعات في ردود أفعالها أو مواقفها تجاه ما تفرضه عليها الأحداث من الأزمات والمشاكل.
كلنا تابع ما حدث في الأسبوع الماضي امام فيلم ساقط سخيف لا يعتبر فنا بمقاييس الفنون ولايعتبر حدثا بمقاييس السياسة ولا يمكن ان يغير شيئا في معتقدات الناس امام نبي عظيم أحدث أكبر ثورة إنسانية وفكرية واجتماعية في تاريخ البشرية.. ان رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام قدم للعالم دروسا كثيرة عبر التاريخ في الأخلاق والسلوك والقيم ولن يتغير شئ من ذلك كله امام فيلم ساقط أو مجموعة من الفنانين الفاشلين المرتزقة حتي وان صدرت عشرات البيانات التي ادانت هذا العمل الوقح إلا اننا وسط هذه الرياح الصاخبة نحتاج إلي قراءة موضوعية لما حدث..
شهد الشارع المصري ثورة عارمة من المصريين ضد الفيلم الساقط وكان للثورة ما يبررها امام حالة من الغضب النبيل ضد إساءة مقصودة للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.. وكان ينبغي ان يبقي الغضب في إطار من التعبير الحر والتظاهر السلمي المشروع.. وكان من الواضح ان الذي يقود هذه الثورة هي التيارات الإسلامية ممثلة في جماعة االإخوان المسلمين والسلفيين والمفروض ان هذه التيارات هي التي تمثل السلطة في مصر الأن بعد إنتخابات حرة وتغييرات ضخمة في كيان الدولة المصرية.. كان ينبغي ان تحكم التيارات الإسلامية رد فعل الشارع بما فيه غير الإسلاميين حتي لا يتحول إلي مواجهة بين الشرطة وقوات الأمن وعمليات التخريب التي قام بها المتظاهرون.. إن استنكار ما حدث من الشارع المصري للنبي الكريم حق مشروع ومبرر ولكن العدوان علي رجال الشرطة وإلقاء الحجارة عليهم ومحاصرة السفارة الأمريكية ومحاولة اقتحامها كل هذه الأشياء تأتي خارج الحقوق المشروعة..
ان السفارة الأمريكية بحكم القانون الدولي ارض امريكية مثل سفارة مصر في واشنطن أرض مصرية.. والتعبير عن الرأي شئ مقبول ومشروع إذا كان عملا سلميا, أما إلقاء الحجارة واقتحام الأبواب فليس عملا مشروعا.. وهنا لابد ان نتساءل لماذا فلت الزمام من أصحاب دعوة الخروج والتظاهر من التيارات الإسلامية.. وأين الضوابط التي كانت دائما تحكم تظاهرات القوي الإسلامية.. ومن الذي سمح بهذا الانفلات من هذه التيارات وهي بكل المقاييس ضد شرعية سلطة منتخبة.. هل هي بداية انقسام بين التيارات الإسلامية أم هي محاولة من طرف ما لإحراج السلطة بين من انتخبوها, وهذه في تقديري تمثل تغيرا في الخريطة السياسية في مصر وسط هذه السحابة السوداء كيف يخرج بعض المشايخ ويحاولون إشعال الفتن بين المسلمين والأقباط ويهاجمون الكتب السماوية الأخري ويدعون إلي حرق الكنائس لقد نجحت التيارات الإسلامية من قبل في تهميش وضبط إيقاع مظاهرات كثيرة قامت بها القوي السياسية وكانت مظاهرات24 أغسطس أكبر تأكيد علي ان القوي الإسلامية قادرة علي تحريك الشارع المصري في أي إتجاه فلماذا فشلت في أحداث السفارة الأمريكية..
< هناك من يري ان ايادي خفية هي ما نسميه حتي الآن اللهو الخفي كانت وراء تجنيد عدد من البلطجية أفسدوا المشهد واقتحموا السفارة واعتدوا علي قوات الشرطة, وهنا نتساءل ايضا كيف يوجه300 بلطجي مسيرة ضخمة فيها عشرات الآلاف من الإسلاميين.. واين عمليات التحكم التي اتسمت بها دائما مظاهرات التيارات الإسلامية وقدرتها التنظيمية الرهيبة علي ضبط التظاهرات ولماذا غابت هذه المرة واين كانت زعامات حزب الحرية والعدالة وحزب النور من ذلك كله الم تكن قادرة علي حصار هذا العدد الضئيل من البلطجية والإمساك به وتسليمه لقوات الأمن من البداية.. إذا افترضنا ان هدف هذه التيارات إحراج السلطة المنتخبة فهذا خطأ قاتل وإذا افترضنا انه حالة من العجز في التنظيم فهو تراجع خطير.. وان كنت اعتقد ان ذلك تمهيد لخلافات أوسع ربما شهدتها الانتخابات البرلمانية القادمة حيث يتصور حزب النور السلفي انه أصبح أكبر من حصته في المجلس السابق ويتصور الإخوان المسلمون انه تضخم أكثر من اللازم واصبح يمثل ضغطا شديدا خاصة في إصراره علي الحصول علي حصة ثابتة في المناصب الهامة في مؤسسات الدولة وفي جمعية إعداد الدستور. إن مسئولية التيارات الإسلامية الآن وهي في السلطة تفرض عليها التزامات كاملة تجاه وطن تتحمل مسئولية القرار فيه وعليها ان تطوي صفحة المعتقلات والسجون والصراعات الخفية لتمارس دورها في إدارة شئون البلاد بكل المسئولية.
< لا استطيع ان افصل ذلك كله عن مشهد آخر سبق ما حدث حول السفارة الأمريكية وهو رد الفعل شديد الضراوة من مشايخ التيارات الإسلامية حول لقاء الرئيس محمد مرسي مع مجموعة من المثقفين والفنانين وردود افعال الشارع المصري.. علي مستوي الجماهير كانت هناك حفاوة بالغة بعد هذا اللقاء بالرئيس المنتخب.. علي مستوي التيارات الدينية والمشايخ كان رد الفعل في منتهي القسوة, ووصل إلي حد التطاول علي الرئيس في ألفاظ لا تقال من أشخاص يتحدثون باسم الدين في سابقة لا تجوز لأن اي واحد من هؤلاء المتطاولين ما كان يجرؤ ان يقول كلمة ضد العهد البائد..
هنا ايضا يمكن ان نقول ان الرئيس مرسي يواجه تحديا حقيقيا امام التيارات الإسلامية التي تتصور انه رئيس الجماعة وانهم جاءوا به إلي السلطة وعليه ان ينفذ برامجهم وان أي خروج علي ذلك سوف تكون نتيجته ما حدث من تجاوزات ضده.. نحن امام عملية ترهيب لرجل أصبح رئيسا لكل المصريين ولن يكون غير ذلك.. إلا ان هذا الموقف يؤكد اننا امام مراكز قوي جديدة تحاول فرض سيطرتها علي صاحب قرار منتخب المفروض انه يمثل الشعب كله.
< لا استطيع ان افصل ذلك كله عن التيارات الدينية التي ترفع راية الإسلام وتحارب جيش مصر في سيناء فليس هناك مبرر لذلك غير انها تسعي إلي تصدير الأزمات للقيادة الجديدة رغم كل ما قدمته لسكان غزة حين فتحت لهم المعابر واستضافت قياداتهم في القاهرة.. وانجزت عملية ضخمة لتبادل الأسري الفلسطينيين.
هذا يؤكد ان ما يحدث في سيناء من مواجهات بين جيش مصر وتيارات إرهابية ترفع راية الإسلام.. وما حدث من ردود افعال علي لقاء الرئيس مرسي والفنانين والمثقفين وما طاله من الأذي اللفظي, والمعنوي بسبب هذا اللقاء ثم خروج المظاهرات لإدانة الفيلم الساقط بصورة سلمية وكيف تحولت إلي مواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين وانسحاب التيارات الإسلامية لتشهد السفارة الأمريكية موقعة بين البلطجية وقوات الأمن في إساءة مقصودة للرئيس الجديد.
< في تقديري ان مرحلة من الصراع الخفي قد بدأت الأن بين التيارات الدينية في مصر بعد وصولها إلي السلطة, وقد شجع علي ذلك ان الأحزاب الدينية كبرت وتضخمت بشدة خلال فترة زمنية قصيرة.. وإذا كان ذلك امرا يبدو منطقيا بالنسبة للإخوان المسلمون كقوة سياسية عتيقة عمرها يمتد ثمانين عاما فإنه يعتبر شيئا غريبا بل ومريبا علي الأحزاب السلفية التي فاجأت الساحة السياسية في مصر بهذا الحضور الطاغي وهذا الوجود الخطير.. هناك خلفيات كثيرة حول نشأة التيار السلفي وهناك بذور خلافات عميقة بينه وبين التيارات الإسلامية الأخري بما في ذلك الإخوان المسلمون ولكن هل يمكن ان تصل هذه الخلافات إلي درجة من الصدام.
< بقيت عندي نقطة أخيرة اتوجه فيها بالحديث إلي د.محمد مرسي رئيس الدولة امام هذا المشهد المرتبك.. انت الآن رئيس لمصر وامام الله وامام الشعب انت مسئول عن كل المصريين مسلمين ومسيحيين وليبراليين وسلفيين واخوان وعلمانيين ومؤمنين وملحدين لكل فرد من هؤلاء في عنقك امام الله حق ان تحميه وان توفر له الحياة الكريمة وان تحمي الناس من طغيان بعضهم البعض فلا تسمع إلا صوت الحق والضمير.. انت الآن تقف في مهب الرياح فيبدو انك لن ترضي كل هؤلاء.. ان التيارات الإسلامية غاضبة من لقائك مع الفنانين والمثقفين وكأنهم كفار قريش, وفلول العهد البائد مازالوا يتحركون كالخفافيش في الظلام, وعليك ان تعمل من أجل مصر الوطن لأنك لن ترضي الناس جميعا.. لقد رفعوا راية الإسلام في سيناء وهم يقتلون جنودنا.. ورفعوا راية الإسلام السوداء وهم يقتحمون السفارة الأمريكية ويلقون الحجارة علي رجال الشرطة.. ورفعوا راية الإسلام وهم يسبون المثقفين والفنانين ورئيس الدولة بعد ذلك.. فأي إسلام يريدون بعد ان وصلوا إلي الحكم واصبحوا في السلطة.
هناك احتمالات كثيرة سوف تفرضها معارك قادمة حول مشروع دستور مصر خاصة في عملية الاستفتاء الشعبي عليه.. وهناك مواجهات ضارية بين القوي السياسية في الانتخابات البرلمانية القادمة قد تصل إلي تكسير العظام ولا استبعد مواجهة عنيفة بين الإخوان والسلفيين أصدقاء الأمس وأعداء الغد وكل ما أرجوه من رئيس مصر المنتخب ان يسعي إلي استقطاب كل المصريين خلفه وان يبقي بعيدا عن مرمي هذه النيران. يجب أن يتجاوز الرئيس حالة الارتباك التي تشهدها الساحة السياسية والباحثين عن زعامات مزيفة ويدعو القوي السياسية باختلاف تياراتها إلي توافق وطني يضع مصالح الوطن فوق كل شئ ونستطيع ان نعبر من خلاله إلي مرحلة من الأمن والاستقرار لأن الشعب لن ينتظر طويلا وبعد ذلك يمكن ان نختلف كما شئنا في ظل مناخ ديمقراطي سليم المهم ان نتجاوز هذا النفق حتي لا يطول بنا كثيرا.
بقيت عندي نقطتان حول ما شهدته السفارة الأمريكية من أحداث:
< لأول مرة يشعر المواطن المصري ان جهاز الشرطة استعاد هيبته ودوره في الشارع المصري, وكان وجود اللواء أحمد جمال الدين وزير الداخلية وقيادات الشرطة في كل المواقع رسالة للمصريين ان الشرطة قد استعادت عافيتها في ظل أداء ودور جديد.
< لم افهم حتي الآن تصريحات المسئولين في حزبي الحرية والعدالة والنور عن اتصالات جرت بينهم وبين المسئولين في الإدارة الأمريكية والسفارة في القاهرة حول الأحداث ابتداء بطلب المشاركة في المظاهرات وانتهاء برسائل متبادلة حول كل ما يجري.. في مصر رئيس دولة مسئول ووزير خارجية وحكومة فما معني هذه الاتصالات وبأي حق جرت.. هذا التداخل يحتاج إلي وقفة وحسم, فنحن في مصر ولسنا في بلاد الواق واق.
.. ويبقي الشعر
في زمن الردة والبهتان
اكتب ما شئت ولا تخجل
فالكفر مباح ياسلمان ارجم آيات الله ومزقها في كل لسان
لا تخش الله ولا تطلب صفح الرحمن
فزمان الردة نعرفه
زمن المعصية بلاغـفران
إن ضل القلب فلا تعجبان يسكن فيه الشيطـان
لا تخش خـيول ابي بكر
اجهضها جبن الفرسان
وبلال الصامت فوق المسجد
اسكته سيف السجان
اتراه يؤذن بين الناس بلا استئذان
اتراه يرتل باسم الله ولا يخشي بطش الكهان؟
فاكتب ماشئت ولا تخجل فالكل مهان
واكفر ماشئت ولا تسأل فالكل جبان
فالازهر يبكي أمجادا
ويعيد حكايا ما قد كان
والكعبة تصرخ في صمت بين القضبان
والشعب القابع في خوف
ينتظر العفو من السلطان
والناس تهرول في الطرقات
يطاردها عبث الفئران
والباب العالي يحرسه بطش الطغيان
ايام الانس وبهجتها
والكأس الراقص والغلمان
والمال الضائع في الحانات
يسيل علي أيدي الندمان
فالباب العالي ماخور
يسكنه السفلة والصبيان
يحميه السارق والمأجور
ويحكمه سرب الغربان
جلاد يعبث بالاديان
وآخر يمتهن الانسان
والكل يصلي للطغيان
ومحمد نور مسجون بين الجدران
وخديجة تبكي في شجن
ايام النخوة والفرسان
عائشة تحدق في صمت
تسأل عن عمر او عثمان
فاطمة تنادي سيف الله
فلا تسمع غير الأحزان
فاكتب ماشئت ولا تخجل
فالكل مهان وجبان
خبرني يوما حين تفيق من الهذيان
هل هذا حق الفنان؟..
ان تحرق دينا في الحانات
لتبني مجدك بالبهتانان
تجعل ماء النهر
سموما تسري في الابدان
لن يشرق ضوء من قلب
لا يعرف طعم الايمان
لن يبقي شيء من قلم
يسفك حرمات الانسان
فاكفر ماشئت ولاتخجل
ميعادك آت ياسلمان
دع باب المسجد يازنديق
وقم واسكر بين الاوثان
سيجيئك صوت ابي بكر
ويصيح بخالد قم واقطع رأس الشيطان
فمحمد باق ما بقيت دنيا الرحمن
وسيعلو صوت اللهولو كرهوا
في كل زمان ومكان
رسالة إلي سلمان رشدي سنة1990
المزيد من مقالات فاروق جويدة
ساحة النقاش