المصريون.. بين المواجهة والهروب
بقلم: فاروق جويدة
خلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. كلمات قليلة كنا نعبر عليها دون ان نتوقف كثيرا امامها, فقد كانت في يوم من الأيام من بديهيات المواقف والأفكار..
ولكن مع تغير الظروف والأحوال وتراجع نظرتنا للأمور افسد خلاف الرأي كل شئ في حياتنا,ومن يتابع صورة المجتمع المصري الآن من بعيد تصيبه الحيرة وتمتلكه مشاعر الغضب كيف وصلنا إلي هذه الدرجة من الرفض للآخر وتأكيد نظرية الإقصاء, وهي اسوأ ما خلف لنا النظام السابق.
توقفت كثيرا عند بعض الأحداث التي عايشتها في الفترة الماضية والخلافات الحادة التي دارت حولها, وطرحت هذا السؤال هل من الضروري ان نتفق علي كل شئ, وماهي حدود الخلافات بيننا,ومتي اتفق الناس علي شئ وقد خلقنا الله سبحانه بملايين الوجوه والأفكار والمشاعر.. وإذا اختلفنا فهل يعني ذلك الإقصاء والرفض ام ان الخلاف يعني ان تبقي بيننا مسافة اقل ما فيها الاحترام ثم الإحتكام في النهاية إلي صوت العقل والضمير؟!.
< تلقيت ردود افعال واسعة حول قبولي المشاركة بالرأي والمشورة في الفريق الرئاسي ضمن نخبة فكرية وسياسية متنوعة وإن كانت تستحق المزيد من التنوع وتعدد وجهات النظر.. البعض رأي في هذا القبول موقفا مرفوضا, ودخولا في عباءة الإخوان وكأنهم فصيل جاء من خارج هذا الوطن واستولي في غفلة منا علي السلطة.. وفي تقديري اننا عانينا زمنا طويلا من عمليات الإقصاء وعدم قبول الآخر وكان النموذج الصارخ في ذلك ما حدث بين النظام السابق والإخوان المسلمين وفي الوقت الذي كان فيه النظام يقطع كل الروابط معهم كانوا يزدادون تشبثا بالأرض وتأثيرا في الشارع..
إن مصر تحتاجنا الآن جميعا وكل مواطن يرفض المشاركة للخروج بها من هذا المأزق التاريخي يعتبر مقصرا في حق نفسه ووطنه.. وسوف اصل إلي درجة اخطر واقول ان المطلوب من جميع القوي الآن ان تقتحم المشهد من خلال مشاركة فعالة حتي ولو كان ذلك ضد رغبة الإخوان المسلمين أو سياساتهم.. لقد قبلت شاكرا ان اكون مستشارا لرئيس الجمهورية في شئون الثقافة وهي عقل الأمة وضميرها واي إنجاز في هذا المجال يزيد مساحة الضوء في العقول ويدفع بنا إلي افاق اوسع من العمق والوعي والفهم امام جحافل السطحية والتفاهات وثقافة الهشك بشك التي اجتاحت حياة المصريين زمنا.. ما اسهل ان نجلس بعيدا نشاهد الصورة ونسخر منها أو نرفضها ولكن الشئ المجدي ان نلتحم معها ونعيد تشكيلها وتغيير مسارها الذي لا نرضي عنه ولا يتناسب مع ثوابتنا وقناعاتنا.. وإذا اكتشفنا عدم جدوي الأشياء فإن الإنسان ينسحب راضيا انه لم يجلس في صفوف المتفرجين وجلس يلعن الظلام ولم يحاول ان يضئ شمعة.. إذا كنت قبلت المشاركة في إنجاز شيء يفيد هذا الوطن فلن اتردد في الانسحاب في اي لحظة إذا حالت ظروف ما بيني وبين تحقيق هذا الهدف, فلست من هواة المناصب ولابد ان اعترف بأن بيني وبين السلطة في كل صورها مسافة بعيدة ولكن في ظرف تاريخي يعيشه الوطن عندي قناعة ان اتنازل عن كل تحفظاتي السابقة من اجل نقطة ضوء تسري في ربوع هذا الوطن بالعقل والحكمة والحوار, انا شخصيا كنت في حالة صدام سنوات طويلة مع العهد البائد ولن يتغير موقفي مع النظام الحالي إذا لم يسلك طريقا يعيد لهذا الوطن دوره وامنه واستقراره, لقد عارضت العهد البائد عشرين عاما ولدي استعداد ان اعارض النظام الحالي ما بقي لي من العمر إذا لم يحقق احلام هذا الشعب في الحرية والكرامة والعدالة, وهي مطالب المصريين في ثورة يناير.
< القضية الثانية التي وجدت نفسي طرفا فيها هي الجمعية التأسيسية للدستور سواء في تشكيلها الأول أو صورتها الثانية.. لقد اختلف البعض حول جدوي البقاء في جمعية تنتظر حكما قضائيا بإلغائها, أو قرارا ينهي كل شيء.. وهنا اريد ان اوضح بعض الحقائق من خلال رصد امين لنشاط هذه الجمعية وما قامت به حتي الأن في إعداد الدستور:
هناك تناقضات كثيرة من حيث الفكر والرؤي داخل الجمعية ولكن هناك مناطق ألغام وخلافات حادة نجحت الجمعية برئاسة المستشار حسام الغرياني في تجاوزها.. هناك مواد مهمة كانت مثار خلافات حادة تم تذليل العقبات حولها.. وهناك حالات من التشدد غير المبرر تم الاتفاق عليها,ورغم كل الصعوبات كانت هناك مساحة لا بأس بها من التفاهم.
كنت اتمني ان تزداد مساحة المشاركة من اطراف اخري خاصة الأعضاء المعتذرين لأن وجودهم مكسب كبير للجمعية وإثراء لأفكارها وتوجهاتها بحيث لا يسيطر عليها تيار واحد, وانا لا ألوم فقط من يحتكر الحقيقة ولكن اللوم اكثر علي الهاربين منها.
إذا تغيرت الأحوال وتم إعادة تشكيل الجمعية الحالية فأنا علي يقين ان ما انجزته في إعداد الدستور إنجاز حقيقي لا يمكن الاستغناء عنه وسوف تعتمد عليه اي جمعية اخري قادمة.
هناك مواد كثيرة حول الحقوق والحريات والواجبات ونظام الحكم والقضاء والرعاية الإجتماعية والعدالة والمساواه وحقوق الإنسان والمرأة والشيخوخة والأمية والطفولة وحصانات مؤكدة ضد العدوان علي الحياة الخاصة والممتلكات وضمانات لمعاملة إنسانية في السجون والمحاكمات.. بنود كثيرة تم إنجازها مع قراءات جادة وعميقة لعشرات الدساتير في العالم إستفادت منها الجمعية..
ان الجهد والوقت والإنجاز الذي بذله اعضاء جمعية الدستور يستحق العرفان والتقدير ايا كانت النتائج التي تحملنا إليها الأحداث والظروف.
ولهذا لا اجد مبررا لهذا الهجوم الضاري علي الجمعية من المعارضين وبعض اجهزة الإعلام, لأن في ذلك إنكارا لجهد كبير قام به اعضاء الجمعية وليس اقل من كلمة وفاء.. ان هذا الهجوم يؤكد ان هناك من يسعي إلي إجهاض تجربة ناجحة من حقها ان تكتمل ومن واجبنا ان نضعها في سياق سليم من حيث السلبيات والإيجابيات ونستفيد منها في كل الحالات.
< القضية الثالثة هي ما يجري في سيناء الآن لتطهير هذا الجزء العزيز من الوطن امام عمليات إرهابية تشارك فيها اطراف كثيرة.. ولا اعتقد ان ما يحدث يمكن ان يكون مثار خلاف بيننا.. إن جيش مصر وقوات الشرطة تخوض معركة ضد الإرهاب في سيناء, وهذه قضية ينبغي ألا نختلف عليها ولكن الشئ المريب والغريب ان تقرأ اخبارا في الإعلام المصري تؤكد انه في واد وان الدولة بكل اجهزتها ومعاركها في واد آخر.. ان معظم ما ينشره الإعلام المصري عن احداث سيناء جاء من مصادر مغرضة اما في تل ابيب من خلال الإعلام الإسرائيلي, أو مصادر غربية لاتلتزم الأمانة في نقل صورة الأحداث.. والغريب ان الإعلام المصري لم يذهب إلي مواقع الأحداث وجلس في مقاهي القاهرة يتلقي الأخبار من هنا وهناك.. كان ينبغي ان يغطي الإعلام المصري أحداث سيناء في متابعة دائمة ويومية ليس كعمل صحفي فقط ولكن كمسئولية وطنية, ان ما يحدث في سيناء هو البداية الحقيقية لعودتها إلي ارض الوطن بعد ثلاثين عاما من الغياب
< القضية الرابعة هو ما يحدث من تغييرات جذرية في هياكل الدولة ومؤسساتها,البعض يطلق عليه اخونة الدولة بينما يراه البعض الآخر عملية إصلاح ضرورية لمواجهة مواكب الفساد التي تأصلت لسنوات طويلة في قلب المجتمع وان الهدف هو مشروع إقامة مؤسسات حقيقية وليس إخوانيات معاصرة, وهنا لا اعتقد ان انسحاب جميع التيارات السياسية والفكرية من الساحة يدخل في نطاق المواقف الإيجابية يجب ان تعود هذه التيارات إلي الساحة وتجادل وتستعيد مواقعها وتأثيرها اما الانسحاب فهو حيلة العاجزين, ان غياب القوي السياسية عن المشهد جريمة سوف يدفع ثمنها الجميع
نحن امام رئيس منتخب جاء من خلال إرادة شعبية وهو رئيس لكل المصريين قبل اي انتماءات فكرية أو عقائدية ومن واجبنا ان نمد له ايدينا, ومن واجبه ان يفتح ابواب المشاركة امام كل من يرغب في العمل الوطني..
اما التقسيمات والصراعات والميليشيات الفكرية والأيديولوجية فلن تصل بنا إلي شئ في هذه المرحلة الصعبة..
لقد اكتفي البعض الآن بالبكاء علي اللبن المسكوب وان اخونة الدولة اصبحت واقعا لا بديل عنه وجلس من يبكي ومن يندب ومن يشعل النيران رغم ان الوطنية الحقيقية ان يخوض كل صاحب فكر معارض أو غير معارض معركة إعادة البناء لأنها مسئوليتنا جميعا..
انني ادعو جميع القوي السياسية إلي المشاركة سواء مع بعضها أو ما يتاح لها من مواقع في صفوف الإخوان ومواكب السلطة.. إن الهروب من الساحة بكل اشكاله خيانة لثوابت هذا الوطن وان واجبنا جميعا ان نفتح الأبواب وان يكون الحوار دليلنا والمشاركة غاية لنا جميعا..
هناك من يعتقد ان الإخوان المسلمين امسكوا الأن بمفاصل الدولة المصرية تحت شعار اخونة الدولة.. وإذا كان الإفتراض صحيحا فماذا فعل هؤلاء المعارضون وماذا قدموا؟! وإذا كانوا يرفضون التعاون مع الإخوان أو حتي الإعتراف بهم فماهي نهاية المطاف.. هل يتركون الإخوان بالفعل يسيطرون علي الدولة ام يقتحمون المشهد ويصارعون ويكون البقاء للأصلح؟!.. انها لعبة صراع بين افكار ينبغي ان تتفق علي شيء لأنه لابديل امامها غير الحوار والمشاركة.
إذا كان البعض يسعي إلي إقتلاع الإخوان تماما فهذا ضد طبيعة الأشياء وقد يبدو الأن امرا مستحيلا خاصة ان تجربة الإخوان لم تثبت فشلها بعد ولهذا علي الاتجاهات الأخري ان تعود إلي مواقعها وتمارس لعبة الديمقراطية بشروطها وليس علي هوي احد دون الأخر
وسط هذا النفق الطويل افضل كثيرا ان نضئ شمعة ولا نكتفي بأن نلعن الظلام.
.. ويبقي الشعر
حجر عتيق في زمان النبل
يلعن كل من باعوا شموخ النهر
في سوق البغاء..
وقف الحزين علي ضفاف النهر يرقب ماءه
فرأي علي النهر المعذب
لوعة.. ودموع ماء..
وتساءل الحجر العتيق
وقال للنهر الحزين أراك تبكي
كيف للنهر البكاء..
فأجابه النهر الكسير
علي ضفافي يصرخ البؤساء..
وفوق صدري يعبث الجهلاء..
والآن ألعن كل من شربوا دماء الأبرياء..
حتي الدموع تحجرت فوق المآقي
صارت الأحزان خبز الأشقياء..
صوت المعاول يشطر الحجر العنيد
فيرتمي في الطين تنزف من مآقيه الدماء..
ويظل يصرخ والمعاول فوقه
والنيل يكتم صرخة خرساء..
***
حجر عتيق فوق صدر النيل يبكي في ألم..
قد عاش يحفظ كل تاريخ الجدود وكم رأي
مجد الليالي فوق هامات الهرم..
يبكي من الزمن القبيح
ويشتكي عجز الهمم..
يترنح المسكين والأطلال تدمي حوله
ويغوص في صمت التراب
وفي جوانحه سأم..
زمن بني منه الخلود وآخر
لم يبق منه سوي المهانة والندم..
كيف انتهي الزمن الجميل
الي فراغ.. كالعدم..
***
حجر عتيق فوق صدر النيل يصرخ
بعد أن سئم السكوت..
حتي الحجارة أعلنت عصيانها
قامت علي الطرقات وانتفضت
ودارت فوق أشلاء البيوت..
في نبضنا شئ يموت..
في عزمنا شئ يموت..
في كل حجر علي ضفاف النهر
يرتع عنكبوت..
في كل يوم في الربوع
الخضر يولد ألف حوت..
في كل عش فوق صدر النيل
عصفور يموت..
***
حجر عتيق
لم يزل في الليل يبكي كالصغار
علي ضفاف النيل..
ما زال يسأل عن رفاق
شاركوه العمر والزمن الجميل..
قد كانت الشطآن في يوم
تداوي الجرح تشدو أغنيات الطير
يطربها من الخيل الصهيل..
كانت مياه النيل تعشق
عطر أنفاس النخيل..
هذي الضفاف الخضر
كم عاشت تغني للهوي شمس الأصيل..
النهر يمشي خائرا
يتسكع المسكين في الطرقات
بالجسد العليل..
قد علموه الصمت والنسيان
في الزمن الذليل..
قد علموا النهر المكابر
كيف يأنس للخنوع
وكيف يركع بين أيدي المستحيل..
من قصيدة حتى الحجارة اعلنت عصيانها سنة 1998
المزيد من مقالات فاروق جويدة
ساحة النقاش