بقلم: فاروق جويدة 1970
استعرت هذا العنوان من كاتبنا الكبير الراحل خالد محمد خالد,وكان دائما يبشر بالبدايات الطيبة ويؤكد ان الشعوب قادرة علي ان ترسم مصيرها وتحقق أحلامها حتي وإن طال بها الزمن.
ظهر الوجه الحضاري للمصريين والمجلس العسكري يسلم السلطة للرئيس المدني المنتخب في احتفال مهيب.. كان حشد جامعة القاهرة وأداء اليمين في المحكمة الدستورية تأكيدا علي اننا امام دولة مؤسسات لها ثوابتها التي تحكمها وتمتد في أعماق التاريخ. ظهر الوجه الحقيقي للمصريين رغم ما تركته ايام الفوضي والانفلات واللهو الخفي في الشارع المصري من مظاهر الإنقسام والتشرذم وعدم المسئولية.. كانت احتفالية تنصيب د. محمد مرسي رئيسا تجسيد لهذا الوجه الحضاري.. رغم كل الأزمات التي خلفتها صراعات الانتخابات ورغم ان الرئيس المنتخب ينتمي إلي جماعة محظورة طبقا للمصطلح القديم.. ورغم رفض قطاع كبير من النخبة لهذه الصيغة في الحكم,ورغم وجود مرشح آخر هو الفريق أحمد شفيق وهو أحد أبناء المؤسسة العسكرية التي تناوب رموزها الحكم منذ ثورة52, إلا ان المجلس العسكري سلم السلطة مقدما نموذجا فريدا للديمقراطية الحقيقية التي ظل المصريون سنوات طويلة يحلمون بها.. الأن أصبح عندنا ولأول مرة منذ ستين عاما رئيس مدني منتخب بإرادة شعبية من خارج المؤسسة العسكرية.. هذا في حد ذاته تغيير كبير و انقلاب حاد..
< يأتي الرئيس مرسي وامامه تراث طويل من الانقسامات التاريخية منذ ثورة يوليو52.. وتاريخ حديث وقريب جدا من انقسامات ما بعد ثورة يناير وما بين ثورتي يوليو ويناير وقع المجتمع المصري فريسة سهلة للإنقسامات بعضها صنعته قوي الإستبداد والبعض الأخر أفرزته خطايا النخبة وفي كل الحالات فنحن امام رئيس انقسم عليه المجتمع ما بين نصف أيده واختاره ونصف آخر اختار غيره وهذه هي الديمقراطية إذا كنا راغبين فيها.. هنا يكون السؤال هل ينجح الرئيس الجديد في ان يجمع شتات المصريين مرة أخري.. وهل يمكن ان نشهد في عهده مصالحة بين القوي الوطنية نتجاوز بها هذا الواقع المأساوي الذي قسم ابناء الأسرة الواحدة..
< بداية لابد ان نعترف بأننا امام تراث وتاريخ طويل من الانقسامات التي بدأت مع ثورة يوليو.. يومها انقسم المجتمع المصري إلي قوي الثورة في بدايتها وكان منها جماعة الإخوان المسلمين قبل ان ينقلب عليها الضباط الأحرار.. ثم كانت رموز العهد البائد من الإقطاعيين والباشوات وزعماء الأحزاب السياسية وكبار المثقفين.. ثم كانت انقسامات اهل الثقة واهل الخبرة ثم قوي الشعب وأعداء الشعب ثم الثورة والثورة المضادة ثم كانت المواجهة التاريخية مع الإخوان المسلمون والتي إمتدت عشرات السنين.. كل هذه التقسيمات السياسية والفئوية ظهرت مع ثورة يوليو ولكن سرعان ما ذابت كل هذه الصراعات بعد ان اتضحت اهداف الثورة وإنجازاتها في عملية التغيير والتي تجسدت في توزيع الأراضي ومجانية التعليم وطرد الإستعمار الإنجليزي وإقامة السد العالي وتأميم قناة السويس وهذا يؤكد حقيقة مهمة يمكن ان تكون لنا درس الآن إن الإنجازات الحقيقية هي أقرب الطرق لتوحيد صفوف الأمة وإرادة الشعب بما في ذلك قوي المعارضة أو ما يسمي الثورة المضادة.
نحن الآن وامام ثورة يناير نواجه نفس الأزمة والتي تجسدت في هذا الإنقسام الحاد الذي شهدته الساحة السياسية ما بين الإخوان المسلمين والليبراليين والعلمانيين والتيارات السلفية وقبل ذلك كله كتائب الثوار من الشباب.. إن المشكلة الحقيقية التي وقفت وراء انقسام القوي السياسية بعد ثورة يناير ان الثورة جاءت بلا قيادات وبلا برنامج وبلا حشود بشرية متجانسة تجمعها فكرة أو يوحدها طريق.. لقد اجتمع الثوار وهم شتات أفكار مختلفة ما بين الإخوان والسلفيين والليبراليين والأحزاب القديمة,وكان الهدف هو خلع رأس النظام ووقف عملية التوريث وحين تم ذلك تصورت هذه القوي ان الثورة نجحت وذهب كل فريق إلي بيته.
ولا شك ان جميع الأطراف المشاركة في الثورة خرجت راضية تماما عن إنجازها وتصورت انه يكفي,وهنا بدأت رحلة الخلافات بين هذه القوي وأصبح لكل فريق حسابات مختلفة.. بدأت لعبة الصراعات ما بين البيان الدستوري والاستفتاء عليه والإنتخابات البرلمانية وما حدث فيها وإنتخابات مجلس الشوري ثم كانت معركة الرئاسة.. في ظل هذا المناخ تشرذمت جميع القوي ونسيت أهداف الثورة وبدأ كل فريق يسعي للحصول علي شئ من الغنيمة.. كانت هناك أهداف إجتمعت حولها القوي السياسية وهي رحيل رأس النظام ووقف برنامج التوريث ونسيت هذه القوي ان هناك حسابات غابت عنها..
< تجاهلت هذه القوي المتصارعة دماء الشهداء وآلاف المصابين وأسرهم والرأي العام الذي نسيهم خاصة بعد ان تعرضت الثورة لعمليات تشويه ضارية طالت كل شئ فيها ابتداء بالشهداء ودمائهم الزكية وإنتهاء بإتهامات التمويل والعمالة.
< تجاهلت القوي المتصارعة موقف رؤوس النظام السابق التي بقيت في مواقعها في مؤسسات الدولة وكل ما نهبته من اموال واصول,هي قبل كل شئ حق للشعب ينبغي استرداده.. ولا بد ان نعترف ان الأجهزة المسئولة لم تكن بالجدية المطلوبة لكي تتبع هذه الأموال الهاربه في الداخل والخارج وضاعت فرص كثيرة امام التراخي والإهمال وربما التواطؤ لإسترداد هذه الأموال
< علي الجانب الآخر كان غياب الأدلة والبراهين وراء أسباب تبرئة رموز النظام السابق في قضايا قتل الشهداء والاعتداء علي المال العام ونهب ثروات الشعب وامام غياب جهاز الشرطة وتلفيق المحاضر والتحقيقات. لم تتوافر أركان المحاكمات الصحيحة,وهنا خرج جميع المتورطين في هذه الجرائم دون إدانة من القضاء..
< وهنا اندفعت قوي النظام السابق بما لديها من أموال ضخمة سخرتها في مواجهة صريحة مع الثورة علي كل المستويات,فكانت مجموعة الجرائم والاغتيالات التي ظهرت في محمد محمود والسفارة الإسرائيلية وماسبيرو ومجلس الوزراء والعباسية,وفي الوقت الذي تخلت فيه قوي الثورة عن هذه الأولويات الضرورية دخلت في صراعات مع بعضها البعض وصلت إلي درجة التخوين والعمالة. وهنا أيضا كانت الصراعات حول الإنتخابات البرلمانية ثم الانتخابات الرئاسية ووصل الحال بهذه القوي إلي ان يتعاون بعضها مع النظام السابق لضرب بعضها البعض,وكان شيئا غريبا ان تجد الثوار الذين خرجوا من ميدان التحرير ينضمون إلي رموز العهد السابق وخرج الجميع من المعركة خاسرين..
والآن هل يمكن ان نلم شتات هذه القوي وهل ينجح الرئيس محمد مرسي في ان يجمع كل هذه التيارات نحو هدف واحد هو الخروج بمصر من هذا النفق المظلم؟.. إن الدكتور مرسي يستطيع الآن في موقعه ان يواجه بعض أخطاء الفترة الانتقالية وسوف يكون ذلك نقطة البداية لأن تستعيد قوي الثورة توحيد إرادتها..
يستطيع الرئيس ان يفتح ملفات الشهداء والمصابين وان يعيد لهم كامل حقوقهم.. ويستطيع ان يفتح ملفات التحقيقات في جرائم قتل الشهداء من خلال لجان تحقيق قضائية محايدة تكشف ما حدث من ملابسات وتقدم ما يتاح لها من الأدلة في جرائم قتل الشهداء.. ويستطيع الرئيس ايضا ان يأمر مؤسسات الدولة المتراخية باتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية اللازمة لإسترداد اموال الشعب من الرؤوس الهاربة.. إن ذلك يحتاج إلي نشاط أكبر من جهاز الكسب غير المشروع ووزارة الخارجية ووزارة العدل والنائب العام وبجانب هذا شئ من السرعة في تتبع هذه الجرائم داخليا وخارجيا.
هذا فيما يتعلق بالرواسب التي تركتها أحداث المرحلة الانتقالية بعد الثورة,ولكن ينبغي ان تواجه القوي السياسية أخطاءها في معارك الانتخابات وما حدث فيها من تجاوزات.. لابد ان تعترف هذه القوي بأننا امام رئيس جديد منتخب ويجب ان نمد له أيدينا حتي ولو لم يكن خيارنا,إلا انه حصل علي أغلبية وصلت به إلي الرئاسة.. إن المطلوب هنا هو ان نحشد قوانا حتي وإن اختلفنا مع الرئيس الجديد لأن المستقبل لا يحتمل المزيد من الصراعات والمعارك ويكفي ما مضي.. نحن امام تجربة جديدة مع تيار فكري وطني مختلف ولا بد ان يأخذ فرصته وهو بدوره لا بد ان ينطلق من نظرة شاملة لقضايا المجتمع والقوي السياسية فيه لابد ان يفتح الرئيس الجديد الأبواب امام كل صاحب فكر وموقف وان يطوي صفحة الماضي,لأنه الآن رئيس لكل المصريين.
< هناك جانب آخر يجد الآن صدي لدي البعض وهو المصالحة مع العهد البائد ورموزه التي لم تتورط في قضايا الفساد والقتل,وهنا نتوقف عند نقطة أساسية يمكن ان يدور حولها الحوار وهي الأموال المنهوبة.. إذا وجدنا امامنا فريقا كبيرا من أبناء هذا الشعب الذين صحت ضمائرهم وأفاقت نفوسهم وقرروا رد الأموال التي حصلوا عليها بدون وجه حق,وقرروا إعادتها للشعب,هنا يمكن ان يبدأ الحديث حتي ولو وصل إلي مصالحة كاملة معهم, المهم في الأمر هو حجم الأموال والأصول التي يمكن استردادها.. هنا يمكن ان نقول إن المصالحة ينبغي ان تبدأ مع مواكب الثورة بكل توجهاتها وهنا أقترح علي الرئيس محمد مرسي ان يجمع رموز كل القوي السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية ويناقش معها مستقبل مصر في ظل رؤي تنطلق بنا نحو بناء مصر الجديدة.. علي جانب آخر ان تفتح مؤسسات الدولة بابا للحوار إذا كان من الممكن استعادة اموال الشعب بالطرق السلمية.. وقبل هذا كله ان نضع برنامجا محددا لإعادة حق الشهداء والمصابين وتشكيل اللجان القانونية لإعادة المحاكمات.
.. ويبقي الشعر
عودوا إلي مصر ماء النـيل يكفينـا
منذ ارتحلتم وحزن النهر يدمينا
أين النخيل التي كانت تظللـنـــــــا
ويرتمي غصنـها شوقـا ويسقينـا ؟
أين الطيور التي كانت تعانقـنــــــا
وينتشي صوتـها عشقـا ويشجينا؟
أين الربوع التي ضمت مواجعنــا
وأرقت عينها سهدا لتحمينـــــــا ؟
أين المياه التي كانت تسامرنــــــا
كالخمر تسري فتـشجينا أغانينـا ؟
أين المواويل ؟.. كم كانت تشاطرنـا
حزن الليالـي وفي دفء تواسينــــــا
أين الزمــــــــــان الذي عشناه أغنية
فعانــق الدهــــــر في ود أمانينــــــــا
هل هانت الأرض أم هانت عزائمنـا
أم أصبـح الحلم أكفانـــا تغطـينــــــــا
جئنا لليلـــــــــي.. وقلنا إن في يدها
سر الحياة فدست سمهـــــــــــا فينـــا
في حضن ليلي رأينا الموت يسكنـنـا
ما أتعس العمر.. كيف الموت يحيينا
كل الجراح التي أدمت جوانحنـــــــا
ومزقت شمـلنـــا كانت بأيدينــــــــــا
عودوا إلي مصر فالطوفان يتبعكـــم
وصرخة الغدر نار في مآقينـــــــــــا
منذ اتجهنا إلي الدولار نعبـــــــــــده
ضاقت بنا الأرض واسودت ليالينـــــا
لن ينبت النفط أشجارا تظللنـــــــــا
ولن تصير حقول القار.. ياسمينــــــا
عودوا إلي مصر فالدولار ضيعنــــا
إن شاء يضحكـنا.. إن شاء يبكينـــــا
في رحلة العمر بعض النـار يحرقنا
وبعضها في ظلام العمر يهدينـــــــــــا
يوما بنيتم من الأمجـــــــــاد معجزة
فكيف صار الزمان الخصب.. عنينا؟
في موكب المجد ماضينا يطاردنـــا
مهما نجافيه يأبي أن يجافينـــــــــــــــا
ركب الليالي مضي منــــــــــــا بلا عدد
لم يبق منه سوي وهم يمنينـــــــــــــا
عار علينا إذا كانت سواعدنـــــــــــا
قد مسها اليأس فلنقطـع أيادينــــــــــا
يا عاشق الأرض كيف النيل تهجره ؟
لا شيء والله غير النيل يغنينـــــــــا..
أعطاك عمرا جميلا عشت تذكــــــــــره
حتي أتي النفط بالدولار يغـرينــــــــا
عودوا إلي مصر.. غوصوا في شواطئها
فالنيل أولي بنا نـعطيه.. يعطينـــا
فكسرة الخـــبــز بالإخــــــلاص تشبعنـــا
وقطـرة الماء بالإيمــــان تروينــا
عودوا إلي النـيل عودوا كي نطهـــــــــره
إن نقتسم خـبزه بالعدل.. يكـفيــنـا
عودوا إلي مصر صدر الأم يعــرفـنــــــا
مهما هجرناه.. في شوق يلاقينـــا
قصيدة عودوا إلي مصر سنة1997
المزيد من مقالات فاروق جويدة
ساحة النقاش