بقلم: د. مصطفي النشار 123
اعترف بأنني تأخرت كثيرا في قراءة كتاب عالمنا الكبير د. أحمد زويل عصر العلم مكتفيا بمتابعة لقاءاته العلمية وحواراته التليفزيونية
ومعرفة أخبار انجازاته العلمية الفذة في وسائل الاعلام المختلفة سواء قبل حصوله علي جائزة نوبل أو بعد حصوله عليها.
إن عبقرية زويل ليست فقط في اكتشافاته العلمية التي جعلته يلقب بكريستوفركولمبس عالم الفيمتوثانية. بل ان عبقريته الحقيقية في انه أحد العلماء القلائل الذين جمعوا بين العلم والفلسفة والأدب في آن واحد, ففي كتابه عصر العلم قدم عرضا مبسطا لتاريخ العلم المعاصر وكيفية تطوره وكيف قام هو بنقله هذه النقلة النوعية التي لاتزال مبشرة بعشرات الانجازات العلمية التي توالت بعد اكتشافه المبهر لهذا العلم الجديد علم فيمتو كيمياء الليزر الذي فك شفرة علاقة الزمن بالمادة وفتح عيون العالم علي نوع جديد من الكيمياء التطبيقية التي يمكن من خلالها التحكم في مسار التفاعلات الكيميائية وتوجيهها لانتاج مواد نافعة غير متوقعة حتي الآن لصالح الجنس البشري ورفاهيته.
إن القدرة الهائلة التي يمتلكها د. زويل في عرض نظرياته واكتشافاته العلمية المعقدة بأسلوب مبسط يفهمه كل من يقرؤه إنما هي قدرة لا يمتلكها إلا عالم أديب ولديه الرؤية الفلسفية القادرة علي قراءة ما وراء الاكتشافات العلمية وأبعادها المستقبلية, إنه مركب فريد من الفيلسوف والعالم والأديب, وهذا ما قاده إلي هذا الانتشار السريع في أرجاء العالم الأربعة كواحد من العلماء الأفذاذ ذوي الرؤية الاجتماعية والثقافية والسياسية الشاملة لعالم اليوم, إذ لم يعد ذلك العالم القابع في معمله الذي يكتفي بعرض نتائج أبحاثه العلمية في المجلات المتخصصة والحصول علي الجوائز العالمية الرفيعة واحدة تلو الأخري فقط, بل هو العالم المهتم بشئون العالم من حوله وعلي دراية بكل التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تجري في العالم ويمتلك رؤية واسعة لكيف يكون العالم أكثر أمنا وسلاما وأكثر عدالة, وهو لا يقل في ذلك في فلاسفة وعلماء عظام من أمثال كانط وياسبرز ورسل, بل هو يفضلهم جميعا بأنه يغزل رؤيته الشاملة تلك لمستقبل العالم الخالي من الصراعات والحروب والمتجه نحو العدالة والسلام برؤيته العلميه التي تجاوزت العلم الذي تخصص فيه لتلقي حجرا كبيرا في مياه ركدت كثيرا في بحار العلوم الأخري, لتستفيد كلها من اكتشافاته المتتالية ولتدفعها دفعا نحو مزيد من التقدم لخير البشرية كلها.
إنني لن أخوض هنا في عرض اكتشافات زويل العلمية, بل سأركز علي رؤية هذا لعبقري المصري الفلسفية لما يجري في هذا العصر وموقعنا منه. ففيما يتعلق بقضية العولمة يري أنها من حيث التطبيق اتجهت إلي تقوية القوي والقادر, حيث اقتصرت فوائدها علي جزء صغير من سكان العالم القادرين علي استغلال واستثمار السوق والموارد المتاحة, ولذلك فهو يؤكد ضرورة أن يقوم نظام عالمي جديد علي أساس شراكة شاملة بين العالمين المتقدم والنامي, من وجهة نظره أن العلم والتعليم هما الأساس في ربط الثقافات المختلفة وتحقيق التقدم والرخاء للجميع, حيث ان العلم هو اللغة الدولية الأساسية للعالم ومن ثم فهو ينصح رجال السياسة الحكماء أن ينظروا إلي عالمنا من منظور كوني شامل يوحد البشرية وحينها ـ فيما يقول زويل ـ ربما تصبح الحروب حروبا علي الفقر العالمي والأمراض واليأس( ص381), إنه يريد أن يتحول الصراع العالمي من صراح وحروب بين البشر والثقافات بعضها البعض إلي حرب البشر جميعا ضد مشكلاتهم جميعا, وعلي الأخص مشكلات الفقر والمرض واليأس الذي استشري بين قطاعات كبيرة من سكان العالم اليوم, إنه يتنبأ بأن جانبا من الدراسات العلمية للقرن الحادي والعشرين سوف يوجه لدراسة الضمير الانساني عبر التساؤل حول ما إذا كان الضمير الحسن أو السييء, الخير أو الشرير مرتبط بالعلاقات الجينية المعقدة أم أنها أمر يعود إلي البيئة التي يعيش فيها الانسان فقط؟! انه يتساءل عما إذا كان التفكير غير العقلاني القائم علي الحرب والارهاب والتعصب ومجمل المتاعب الانسانية يأتي من خلال وعي ضمير مأزوم جينيا؟! وعبر هذه التساؤلات يكشف عن المحاولات التي تجري في العلم المعاصر لاحتمال التلاعب في الجينات, بحيث يمكن أن تتحكم الشعوب المتقدمة في جيناتها وجينات الشعوب الأخري! إن هذه التساؤلات التي يطرحها زويل حول الضمير الانساني تسبق تحذيره من أن لغة الحرب قد تتجه بعد ذلك مستغلة هذا التقدم علي علم الجينوم البشري, بحيث يمكن عبر جرثومة واحدة صغيرة لا تري بالعين المجردة الفتك بشعوب معينة, وحينئذ فلن تكون للأسلحة الثقيلة مكان في حروب المستقبل.
ولعلنا في ضوء هذا الخطر المحيط بنا نتنبه إلي أهمية الدخول في عصر العلم كمبدعين ومنتجين, وليس كمتلقين ومستهلكين. إن زويل يمتلك الرؤية التي تساعدنا, بل وتمكننا من الدخول إلي هذا العصر, عصر العلم وعصر زويل معا, إنه ينفي بداية تلك الأساطير التي نرددها لتبرير تخلفنا والوقوف محلك سر مثل أسطورة نقص الموارد في مصر والعالم العربي أو أسطورة أن التقدم العلمي يحتاج إلي قرون عبر حقائق دامغة, فمصر والعرب لايعانون من نقص الموارد, بل يعانون فقط من غياب الاراده السياسية لتوجيه الموارد ناحية البحث العلمي لتحقيق التقدم العلمي المنشود, كما أن التقدم العلمي لا يحتاج إلا لهذه الارادة السياسية والشعبية لأمة تريد أن تتقدم.
إن بناء المستقبل العلمي لوطننا الغالي مصر يمكن تحقيقه عبر الثلاثية التي اقترحها زويل1 ـ انشاء المراكز المضيئة للعلم ومشروع مدينة زويل العلمية يمثل البداية الواعدة لهذه المراكز2 ـ اعادة هيكلة البحث العلمي الحالي حتي يتناسب مع القدرات الخلاقة لامكانيات علمائنا وشبابنا وحاجة مجتمعنا3 ـ العقيدة الوطنية بمعني بث الثقة والايمان بعبقرية هذا الوطن وقدرة أبنائه علي إعادة التقاليد الحضارية الراسخة لمصر. وقد عرض زويل تفاصيل ذلك في كتابه العظيم هذا, وما علينا إلا أن نعيد قراءته مرات, تلك القراءة التي تولد لدينا حكاما وشعبا قوة الدفع الخلاقة لبناء نهضة وطننا الغالي مستغلين حماية وقدرات ابن مصر الذي وسم العصر باسمه فنحن أفخر ما نكون بأننا نعيش عصر زويل, وكل ما علينا أن نتفاعل معه ومع مشروعه العلمي وألا نترك صيحته تضيع في بيداء جمودنا وسلبيتنا! وقد آن لنا أن نتخلص منهما, وخاصة بعد ثورتنا العظيمة, وكما كانت ثورتنا السياسية مبهرة وحاسمة ستكون ثورتنا العلمية أيضا بمشيئة الله وارادة الشعب مبهرة وحاسمة كذلك.
المزيد من مقالات د. مصطفي النشار
ساحة النقاش