23
من ديوان صدر مؤخرا للشاعر البحريني الكبير قاسم حداد
الحجاز
لا تكن في ملوك الحجاز
ولا تطلب الملك
كن خارجا, خارجا
في الرسائل, في ريشة الطير, في أوجه
نافرا, نافرا,
لا تكن في أقل من الرمز,
أو في المجاز؟
<<<
االحيرةب<
قلت, أذهب إلي' الحيرة' اليوم. أقرأ عليها سؤالا لا تسمعه, وأكشف لها جرحا لا تراه. فغدا لن يعود ثمة متسع للسفر ولا مسافة للكلام. فهي لا تعرفني وأنا لا أثق بها.
قلت أذهب إلي' الحيرة' لأمرين: خمر حاناتها وحبر كتابتها.
قلت أذهب إلي' الحيرة' لئلا يقال إني تأخرت عن إيقاظ الجمر في أوانه. أذهب إلي مملكة سمعت أنها تزخر بحرية العدل. حيث يروي عن ملك هو فيها الأول بين متساوين في شعبه. قلت أذهب. لكي أعرف. لا أطلب منهم شيئا وليس لهم عندي شيء. قلت أذهب إلي' الحيرة' إن صادفت ملكا يصغي, حملت له رسالة الناس.
حر من الاثنين إن فشلت. وحر معهما إذا نجحت.
قلت' لبني بكر' أذهب, علي أن ينظروا بحق' وردة' كما يعدون.
عدت أم لم أعـد.
قلت أذهب للملك, فالشعر ملك أيضا.
قلت, ولم أذهب أبعد من ذلك.
< االحيرةب: مدينة تاريخية قديمة, تقع في جنوب وسط العراق, وكانت عاصمة المناذرة.
<<<
علي وطن يخشي الفتي
هذي بلاد لا أميزها
دخان أم يد مغلولة أم فكرة تهوي؟
بلاد,
كانت الصحراء تمضي فاستحالت حاضرا
مستقبلا
من أين لي. ماذا أسمي خيمة في الرمل
لا ماء ولا غجر
ولا يصغي إليك الغيم حين تقول.
نمضي للأفول.
فكيف لي,
كنا علي وشك الحديقة, مثل حلم عابر
فاستيقظ الكابوس
واختلط اليتامي بالثكالي
دارت الفتوي, وحل النعش في عرش
بلاد لا أميزها, حياة أم تموت.
هي انتحار صارم
يا ليت لي
' هل كنت مقتولا ومت
أم كنت في سفر وعدت'
هذه الصحراء تفقدني,
وكل تراثي المنهوب يمحوني,
وصوتي وحده في هذه الأرجاء.
<<<
المغنون يبتكرون البحر
الآن أعرف البحر,
كائناته مخلوقات زرقته الغامضة ليس لبدوي مثلي أن يدرك ذلك قبل أن يضع كيانه في رحاب هذا الماء الهائل, ويؤرجح قدميه بين الرمل الناعم والنيلوفر البعيد
سرير القواقع ونزهة الحيتان
أعرف البحر,
رجاله الذين أنجبتهم ملكة الموج وربتهم النساء البحريات رجال هم إما مسافرون أو عائدون أو مستعدون للسفر رحيل في الزرقة غوصا حتي الجمان حيث يولد الحجر الكريم من حكمة اللحظة المريضة ساعة اصطفاق العذب بالمالح في بياض الصدفة المكنوزة في السحيق مكترثا بالهواء يغمسون أجسادهم النحيلة المعروقة في غفلة الوحش الحكيم, موثقين أجسادهم بالمثاقيل من أجل مباغتة القاع لإنقاذ الدر المكنون في زرد الأزل
البحر, النجارون, مهندسو المسافات, أساتذة الغياب, مروضو الخشب اليابس ليصير هوادج تجوب تجاعيد الأنواء مستجيبة لنداء الأقاصي حيث الصحراء وحيدة بسفرها الذي يبدأ ولا ينتهي مروضو الخشب الهارب من عتمة الغابات نحو مساقط الوهج الشاهق علي مصاب الأنهار وأرخبيل الليل خشب هو الآن سرير وشرفة ودرج تصعد إليه أبراج الموج وتيجانه الطائشة
الحدادون, مطوعو الفولاذ بولع الأفئدة طارقو الأشكال والمهاميز ملوحين بالمراسي لارتياد الأنواء واكتساب راحة السفن ونزهة البحار وخبرة المسافرين حديدهم أخف من الغبار وأكثر رشاقة من أصائل الخيل يخيطون صفائح الخشب بمغازل مثل أنامل النساء المنتظرات في وحشة السواحل
المغنون حداة البحر نواح الأكباد جوقة الحناجر يحتلون حواف السفن الطوافة يهدهدون بكلماتهم يقظة الغواصين في غفلة الماء والريح تتدلي أطرافهم المتعبة مغموسة في البحر دافقين أصواتهم حتي الأجرام الغاطسة وهي تتلمس حراشف المحار مرتعشة الفرائص في انتظار الشهقة العظيمة لحظة ينترون أعناقهم خارج الغمر مغنون يرتـلون الألم في سورة السفر في رعاية قمر شاحب فوق خشب مغسول في مراقد ضارية لفرط المحار فوق السطح الثمل.
البحر,
النوارس المحلقة, المنسابة, المتوترة, المنقضة, الأليفة, النافرة, الضائعة, الدليل, بريد السواحل, حارسة الموج, رعاة الزبد الطائش ببريق ريشها يتقن البحارة هندسة المكان والطقس وملامح الأفق.
شعوب ربـتها النساء البحريات, ونذرت لها الماء الهائل, وأطلقتها في هوادج تتأرجح في أردان الموج بمزاجه العاصف أعرف لهم أجنحة الفقد والفرح وأشداق الآفاق في انتظار صارم تتناوب علي رعايته النساء البحريات مع رجالهن في السفر والإقامة.
<<<
ما البحرين؟
حتي إذا سألته: ما البحرين؟, قال:
إذا كنت تقصد البحرين عندنا, فهي التي إن بدأت في رأس عمان فلن تنتهي عند نهر البصرة, وأن كل ما بينهما فضاء مزيج بين الوقت والمكان. وسوف يشمل أقاليم ساحل البحر وداخل الجبل. ويطال هجر والإحساء جميعها. غير أن هذا كله لم يكن ليعني شيئا عندما نهم نزوحا عن مكان أو نسعي رحيلا إلي مكان. فالبحرين عندنا هي الآفاق التي تستعصي علي التخوم وتفوق الوصف. فإذا انتهي بنا الزمان إلي هذا اليوم وسمعنا أن قوما, في جزيرة صغيرة إلي هذا الحد, قد طفقوا يزعمون نسبة شاعر لفسحة معلومة, ينسبون شاعرا إلي بلد محدود, من أجل اختزال حقبة شاسعة من التاريخ في فرسخ من الجغرافيا, ويقيمون السرادق والمهرجانات بوصفه شاعرهم فحسب. لعمري إنني لن أصادف خبرا أكذب من هذا. فكيف تسني لهم حبس حلم شاسع مشحون بالتجربة والروح, في وهم ضئيل الدلالة, بائس المعرفة, شاحب المعني.
فإذا سألوك عن البحرين, قل لهم, إذا هم رأوا ذلك المكان رحبا شاسعا مفتوحا متصلا متواصلا بالشكل الذي رأيناه, فسوف يصح لهم الظن بأن ثمة بلادا تتجاوز البحرين لتصير بحارا كثيرة, فيها من الشعر ما يكفيها, وتزداد بحرا كلما استيقظ في زرقتها شاعر جديد. وإذا كنت تعني أرضا مجزأة ممزقة أمضيت عمري القصير أرفوها بالشعر شلوا شلوا وأخيط فتوقا ساحقة فيها, أنشد في جبال عمان فيسمعني أهل البصرة. إن كنت تعني أقاليم مقسمة سهرت أزكيها بكلماتي, وأمشي في عطر لياليها بالنخل والورد واللؤلؤ.
إن كنت تعني حدود الأفق ذاك.. فذلك بيتي.
>>>
هذه مختارات من ديوان صدر مؤخرا للشاعر البحريني الكبير قاسم حداد بعنوان( طرفة بن الوردة)
ساحة النقاش