بقلم: فاروق شوشة 140
هنري زغيب صوت شعري بارز في الحركة الشعرية اللبنانية, كما أنه أكاديمي مرموق يعمل رئيسا لمركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأمريكية, بالإضافة إلي رئاسته مجلس المؤلفين والملحنين في لبنان, والاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية.
وهو في كتابه الجديد لغات اللغة يقوم بإبحار جديد يتوقف فيه كثيرا عند نظام الشعر والنثر, بين الأصول والإبداع, وهو لا يبدأ إبحاره الإبداعي والنقدي من فراغ, فوراءه إبحار شعري يؤهله للقيام بهذه الرحلة الثرية يتمثل في دواوينه: إيقاعات, وسيمفونيا السقوط والغفران, ومن حوار البحر والريح, و أنت ولتنته الدنيا, و تقاسيم علي إيقاع وجهك, ومنصة, وربيع الصيف الهندي, بالإضافة إلي كتابات نثرية لها مذاقها وتميزها: لأنني المعبد والإلهة أنت, و حميميات, و نقطة علي الحروف, و سعيد عقل إن حكي, وأقرأ من لبنان, و الضيعة اللبنانية بأقلام أدبائها, و الأخوين رحباني: طريق النحل.
من بين تجلياته في بعض محطات هذا الإبحار الجديد عن نظام الشعر والنثر يقول: لايعطي لكل شاعر متمكن أن يكتب نثره بالتمكن ذاته, ولا لكل ناثر خلاق أن يبدع في الشعر إبداعه في النثر, وفي الأدب العربي شعراء مجيدون خرجوا من حالة القصيدة فكتبوا نثرا عاديا تقريبيا لا لمعة فيه, وناثرون مجيدون قاربوا الشعر فظلوا نثريين في قصائد لهم لم ترتفع لمعة واحدة عن النظم, علامة الشاعر الشاعر أن ينسيك النظم في قصيدته, وعلامة الناثر المبدع أن يأخذ نثره بسحر الصياغة, من هنا جاء الكتاب لينظر في نظم الشعر والنشر بين الإبداع والأصول, لا ليقول ما هو الشعر و ما هو النثر, فالـ ما هنا, كالعطر, كالنسمة, ليست إلي تحديد, بل ليقول كيف يكون الشعر شعرا والنثر نثرا, ضمن نظم واضحة تضبط شطحات الشاعر والناثر, وتحددها باتباع الأصول الصارمة, وانطلاقا منها, لا بالخروج عنها, وصولا إلي لحظة الإبداع.
يبدو أن فوضي المصطلح في الشعر, وما يمكن أن يدل عليه الآن من توجهات فنية وثقافية شتي, كانت وراء هنري زغيب, حافزا مهما لإنجاز هذا الكتاب الواضح النبرة, القاطع في رسم الحدود بين الأشياء حتي لا تختلط الأمور وتنبهم المفاهيم.
وهو يري أن جوهر الشعر لا تحدده الكلمات ولا المعايير النقدية ولا المقاييس الأكاديمية, بل تحدده حالة يخلقها الشاعر في قصيدته, تنتقل منها إلي القاريء قتنقله إلي حالة خاصة من التواصل مع حالة القصيدة وحالة الشعر معا, حتي تغدو القصيدة حالة الشاعر حين حبيبته هي الحدث, من هنا تأتي أهمية القصيدة في تصوير العبور من موقع الحدث إلي وقع الحالة.
كما يري أن جوهر الشعر أيضا أن يعرف الشاعر كيف يوصل حالته في القصيدة إلي قاريء يتفاعل معها, وهو ما لا يمكن أن يبلغه الشاعر إلا في حالة وحيدة: الصدق في حالته الحياتية, ومعرفته نقلها إلي حالة القصيدة, هنا علامة الشاعر الشاعر, وهنا هيبته في زمانه وسلطته في المكان.
وهو يستشهد بكلمات الشاعر الفرنسي فيكتور هوجو في قصيدته رسالة الشاعر التي يمجد فيها الشاعر فيجعله صاحب رسالة لشعبه وعصره والإنسانية في كل زمان, عندما يقول: دورك أن تنبه وأن تظل متقد الذهن والفكر, الشاعر, في الأيام الصعبة, يهييء أياما أفضل, هو رجل الطوباويات, قدماه بين الناس, لكن عينيه في البعيد, يتهمونه, يسيئون فهم دوره وصوته ورسالته, لا يهتم, يظل يفكر, روحه تفيض في صمت, فيسمع ما لا يسمعه الناس, كلماته تهدد الظلم وتلتمع في العتمة, ويداه تحملان المشعل في قتامة الليل, يحمل في يده المشعل ليضيء لشعبه طريق المستقبل.
كما يستشهد بكلمات نزار الشعر كهربة جميلة التي كتبها سنة1948 مقدمة لمجموعته الشعرية طفولة نهد يقول فيها: القصيدة برق وميض يترك فيك رعدا كثيرا, الشعر اختزال في التقاط هنيهة البرق, والشاعر من يعرف كيف يشعل فيك لحظة البرق, ويترك ذلك لحظات رعد تتردد في اندهاشك.
ويقول: الفرق بين الشعر واللاشعر: هذا يحتاج إلي كلام التنظير حوله ليكون, وذاك في ذاته الكلام عليه.
يقول الأخوان رحباني:
لملمت ذكري لقاء الأمس بالهدب
وروحت أحضنها بالخافق التعب
حيري أنا, يا أنا, أنهد متعبة
لف الستائر في إعياء مرتقب
أهواه؟ من قال إني ما ابتسمت له؟
دنا, فعانقني شوق إلي الهرب
نسيت من يده أن استرد يدي
طال السلام وطالت رفة الهدب
والحديث عن هذا الكتاب البديع موصول.
المزيد من مقالات فاروق شوشة
ساحة النقاش