{ ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}
(فصلت:33)
بقلم: د. زغلول النجار
1860
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة فصلت, وهي سورة مكية, وآياتها أربع وخمسون (54) بعد البسملة. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول القرآن الكريم الذي جعله الله- تعالي- هدي وشفاء للمؤمنين, علي الرغم من صد كل من الكفار والمشركين عنه, وعن دعوته إلي الإيمان بالله, وتوحيده, والاستقامة علي هديه.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة فصلت, وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة
(الإسلام) لفظة عربية مستمدة من الأصلين (السلام) و(التسليم), ومعناه الاعتراف باللسان, والاعتقاد بالقلب, والوفاء بالفعل لكل ما أنزل الله من الحق. ويتم ذلك مع الإذعان الكامل والاستسلام الاختياري لله في جميع ما قضي وقدر, طلبا لمرضاته.
وعلي ذلك فالإسلام هو دين الفطرة التي فطر الله جميع خلقه عليها, ومنهم غير المكلف الذي ينصاع انصياعا تسخيريا لطاعة الله, وعبادته, وحمده, وتسبيحه, ومنهم المكلف الذي أعلم بالإسلام, وترك له اختياره بإرادته الحرة حتي يؤجر علي ذلك, أو تركه باختياره فيعاقب علي معصيته لأوامر خالقه.
ومن رحمة الله- تعالي- بخلقه المكلف أنه لم يتركهم للفطرة الإيمانية التي غرسها في جبلة كل فرد منهم, وأشهدهم علي أنفسهم وهم في صلب أبويهم آدم وحواء علي حقيقة أنه لا إله إلا الله وفي ذلك يقول عز من قائل:, وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين] (الأعراف: 271), بل عرض عليهم الأمانة وخيرهم في حملها فاختاروا ذلك بإرادتهم كما يقرر ربنا- تبارك وتعالي في محكم كتابة بقوله العزيز:, إنا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا] (الأحزاب:27).
وزادت رحمة الله بعباده المكلفين بأن علم أباهم آدم- عليه السلام- دين الإسلام, لحظة خلقه فيما علمه من الأسماء كلها فقال- تعالي:, وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم علي الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين] (البقرة:13), وعاشت البشرية علي شريعة الحق عشرة قرون بين آدم ونوح عليهما السلام (حديث رسول الله-e- الذي أخرجه الحاكم في المستدرك).
وتفسيرا لهذا الحديث روي ابن عباس- رضي الله عنهما أن رجالا صالحين من قوم نوح هلكوا, فوسوس الشيطان إلي قومهم أن انصبوا إلي مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد, حتي إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت (البخاري). وكانت هذه أول صورة من صور الشرك في تاريخ البشرية.
وتفشت الوثنية في قوم نوح, فبعثه الله- تعالي- ليردهم إلي الإسلام من جديد, فلم يستجب لدعوته إلا أقل القليل من قومه. ولما يئس نوح من هدايتهم دعا الله- تعالي- عليهم فجاء الطوفان الذي أبادهم, ونجي الله- سبحانه وتعالي- عبده نوحا والذين آمنوا معه (العنكبوت: 41,51, نوح:12-52).
لجأ نوح والذين آمنوا معه إلي مكة المكرمة, وعاشوا علي الإسلام حتي جاء من نسلهم قوم عاد الذين سكنوا الأحقاف في أقصي الجنوب الشرقي من منطقة الربع الخالي, فأشركوا بالله انصياعا لوسوسة الشيطان. أرسل الله- تعالي- عبده ونبيه هودا- عليه السلام- لهداية قومه عادا الأولي وردهم إلي الإسلام, فما آمن معه إلا القليل. ولما يئس من هدايتهم دعا الله- تعالي- عليهم فجاءت الريح العقيم التي أهلكتهم, وطمرت ديارهم بالرمال السافية, ونجي الله- تعالي- عبده ونبيه هودا والذين آمنوا معه فلجأوا إلي مكة المكرمة.
جاء من نسل هود والذين آمنوا معه قوم ثمود أو عاد الثانية الذين سكنوا منطقة الحجر (وادي القري), واجتالتهم الشياطين فأشركوا بالله. بعث الله عبده ونبيه صالحا إلي قومه ثمود يدعوهم إلي الإسلام من جديد فعارضته غالبيتهم ورفضوا دعوته, ولما يئس من هدايتهم دعا الله- تعالي- عليهم فأهلكهم بصيحة صاعقة طاغية فأصبحوا في ديارهم جاثمين, ونجي الله عبده ونبيه صالحا والذين آمنوا معه فلجأوا إلي مكة المكرمة, وجاء من نسلهم قبيلة ثقيف الذين سكنوا الطائف واجتالتهم الشياطين فاشركوا بالله.
واستمرت البشرية تتردد بين الإيمان والكفر, وبين التوحيد والشرك, وبين الاستقامة علي منهج الله والخروج عليه حتي شاع الكفر بين غالبية أهل الأرض, وانتشرت الوثنيات والخرافات والأساطير, وفسدت العقائد, وحرفت العبادات, وساءت الأخلاق, وتدنت المعاملات, وتفشت المظالم, وأرسل الله- تعالي- النبي تلو النبي, والرسول تلو الرسول, إلي مختلف بقاع الأرض من أجل إنقاذ الناس, من هذه الضلالات, وهدايتهم إلي دين الله, وأكمل الله دينه- الذي لا يرتضي من عباده دينا سواه- في بعثة الرسول الخاتم وحفظه في القرآن الكريم وفي سنة خاتم النبيين. وفي ذلك يروي الإمام أحمد عن أبي ذر الغفاري أنه قال: أتيت رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ــ قلت: يا رسول الله! أي الأنبياء كان أول ؟ قال: آدم; قلت: ونبي كان؟ قال نعم, نبي مكلم, قلت كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا. وفي رواية لأبي أمامة عن أبي ذر قال:... قلت يا رسول الله: كم وفي عدة الأنيباء ؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا, الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا.
وقد أخبرنا القرآن الكريم عن خمسة وعشرين من هؤلاء الأنبياء والمرسلين وأكد أنهم جميعا كانوا قد بعثوا بالإسلام العظيم. فالمسلم مفروض فيه أن يكون صالحا في ذاته, هاديا لغيره إلي هذا الدين العظيم, ولا يمكنه أن يحقق ذلك إلا إذا أعلن عن هويته الإسلامية دون لبس أو مواربة. والآية الكريمة موجهة إلي عدد من أبناء المسلمين الذين جهلوا حقيقة الإسلام, فانخدعوا بعدد من الشعارات المزيفة التي طرحت في الغرب في محاولة للانعتاق من ربقة الكنيسة التي كانت قد هيمنت علي مقدرات الحياة هناك. وهذا الواقع الغربي لم يكن له نظير في بلاد المسلمين, ومن هنا تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في قول الحق تبارك وتعالي-), ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين] والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915" mce_href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" mce_src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" mce_style="border: 0" /></a> <mce:script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915" mce_src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></mce:script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش