(آل عمران:26)
بقلم: د. زغلول النجار
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
هذه الآية الكريمة جاءت فى أوائل سورة «آل عمران» , وهى سورة مدنية , وآياتها مئتان بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم تشريفا للسيدة مريم ابنة عمران أم نبى الله عيسى – على نبينا وعليه وعلى أنبياء الله جميعا من الله السلام – والتى تروى السورة المباركة جانبا من قصتها .
هذا, وقد سبق لنا استعراض هذه السورة, وما جاء فيها من ركائز كل من العقيدة, والتشريع, والإشارات الكونية, ونتعامل هنا مع وجه الإعجاز التشريعى فى الآية التى اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعى فى الآية الكريمة
يشهد الكون بكل ما فيه ومن فيه بأنه مخلوق لخالق عظيم له من صفات الكمال, وطلاقة القدرة, وعظيم الحكمة ما يتضح فى كل شيء خلقه. وحداثة المخلوقين وديمومة الله - تعالي - تؤكد حقيقة الربوبية, والألوهية, والوحدانية, والخالقية, والسلطة المطلقة فى هذا الكون الذى لا يملكه إلا خالقه, وحافظه ومدبر أمره. وهذا الخالق العظيم يعطى من ملكه ما يشاء لمن يشاء من عباده - على سبيل العارية - لفترة محددة من الزمن, وينزع هذا الملك ممن يشاء , وقتما يشاء لحكمة يعلمها - سبحانه وتعالي - وقد لا يعلمها كثير من الناس .
فالشيفرة الوراثية فى الكائنات الحية تقرر وحدانية الخالق - سبحانه وتعالي- كما تؤكد طلاقة قدرته المبدعة فى الخلق.
فهذه الشيفرة تحملها جسيمات لا ترى بالعين المجردة فى داخل نواة الخلية الحية, تعرف باسم الصبغيات, وهى مبنية بدقة فائقة على نفس النظام, وعددها محدد لكل نوع من أنواع الحياة .
فالخلية العادية فى جسم الإنسان , والتى لا يتعدى قطرها - فى المتوسط ـ (0.03مم) بداخلها شيفرة وراثية يحملها (46) صبغيا فى (23) زوجا , أحدها مخصص للقيام بمهمة التكاثر, والباقى مخصص بمهمات النمو الجسدى . وهذه الصبغيات تشغل حيزا فى داخل نواة الخلية فى حدود واحد من نصف مليون من الملليمتر المكعب , ولكنها إذا فردت فإن طولها يصل إلى قرابة المترين الذين يحملان (18.6بليون ) جزيئا من الجزيئات الكيميائية المعقدة , المرتبة ترتيبا فائق الدقة والانتظام والإحكام. وإذا علمنا أن جسد الإنسان البالغ يضم تريليونات الخلايا فإن بسطت صبغياتها فإن طولها يزيد بآلاف الأضعاف عن طول المسافة بين الأرض والشمس والمقدرة بحوالى (150) مليون كم فى المتوسط.
وإذا سلمنا بحقيقة هذا المخزون الهائل من المعلومات فائقة الدقة , والتى تعطى كل فرد من الكائنات الحية بصمة وراثية خاصة به تميزه عن غيره من بلايين الأفراد من جنسه, مع تشابه التركيب الكيميائى للحمض النووى الذى تكتب به هذه الشيفرة الوراثية, فإن السؤال الذى يفرض نفسه هنا : من صانع ذلك غير الله الخالق الذى تتراءى وحدانيته فى وحدة بناء الخلية الحية وفى تعقيد بناء الحمض النووى الذى تكتب به الشيفرة الوراثية لكل كائن حى .
والخلية الحية فى جسد الإنسان أعطاها الله - تعالي- القدرة على إنتاج مائتى ألف نوع من البروتين. وهذه الخلايا ذات البناء الواحد لها وظائف متخصصة , وتنتظمها أنسجة, وأجهزة, ونظم متخصصة تعمل فى توافق عجيب, وتكامل مذهل .
وإذا انطلقنا من دائرة الأحياء إلى الجمادات, وجدنا أن الكون المادى من حولنا يرد إلى مكونات أربعة هى : المادة , والطافة , والمكان , والزمان .
والمادة –على تعدد صورها- ترد إلى أصل واحد هو غاز الأيدروجين , والطاقة - على تعدد أشكالها – ترد إلى شكل واحد هو الجاذبية العظمى . وبتفجير الذرة ثبت أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة , كما ثبت أن المكان والزمان أمران متواصلان . وبذلك تنحل مكونات الكون المنظور إلى شئ واحد يشير إلى الوحدة فى الكون كله , تلك الوحدة الناطقة بوحدانية الخالق - سبحانه وتعالي - كما أن وجود الخلق كله (من اللبنات الأولية للمادة إلى الإنسان) فى زوجية ظاهرة تشهد للخالق – جل جلاله- بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه .
وتدبر الكون- من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته - يثبت أن له خالقا واحدا أحدا, هو رب كل شيء ومليكه , وهنا تتجلى حقيقة الألوهية الواحدة القائمة على أمر هذا الكون. وهذا الإله الواحد المالك لكل شيء, يمنح من يشاء من عباده ما يشاء من ملكه, من المال والجاه والسلطان بالقدر الذى يشاء, وفى الزمن الذى يشاء. يملكه إياه تمليك العارية التى يجب أن ترد فى الوقت الذى يحدده الله – تعالي- . فليس لأحد من الخلق ملكية مطلقة لأى شيء فى هذا الوجود إنما هى ملكية مؤقتة بقدرها, وزمانها, لا بد أن ترد فى يوم من الأيام . وهى ملكية معارة من الخالق للمخلوق بشروط الواهب وتعليماته, فإذا تصرف المخلوق فيها تصرفات مخالفة لشروط الله كان هذا التصرف باطلا, وتحتم على المجتمع رده إلى الصواب الذى يرتضيه الله صاحب الملك والملكوت, وإلا وقع عليه وعليهم عذاب من الله فى الدنيا قبل الآخرة.
والله- رب هذا الكون ومليكه – يعز من يشاء ويذل من يشاء بعدله المطلق , الذى لا يظلم أحدا من عباده, وحكمه المنصف فى جميع خلقه, وهو- تعالي- إذا قضى أمرا فلا راد لقضائه, ولا معقب لحكمه, لأنه هو صاحب الأمر فى ملكه الذى أقامه بعلمه وحكمته وقدرته, وطالب المستخلفين فى الأرض أن يقيموا عدله وشرعه فى ربوعها .
وقوامة الله –تعالي- فى ملكه هى الخير كل الخير لجميع خلقه, لشمول علمه وطلاقة حكمته وعدله, فهو يؤتى الملك من يشاء من عباده إما ابتلاء وإما مكافأة, وينزعه ممن يشاء انتقاما ممن أساء التصرف فيما استخلفه فيه الله. كذلك فإن الله – تعالي- يعز من يشاء ويذل من يشاء, ويتم ذلك كله بالقسط والعدل، وبمشيئة الله المطلقة فى خلقه, وبقدرته على تحقيق أمره, ولذلك ختمت الآية الكريمة بهذا النص الذى أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بترديده, كما أمر كل متبع لهديه بقوله متوجها بالدعاء إلى الله- تعالي- بعد هذا النداء الخاشع والابتهال الخاضع قائلا : { ... بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} ونحن نرى فى كل يوم أن المالك لشيء من عاريات هذا الوجود من بنى آدم سرعان ما يفقده بالبيع, أو الاستبدال، أو بالهلاك والدمار بمختلف الكوارث، أو بالموت والميراث. وتظل المواريث تنتقل من يد إلى يد إلى قيام الساعة حين يعود كل شيء إلى مالكه الحقيقى وهو الله – سبحانه وتعالي- الذى له ميراث السموات والأرض .
وكم رأينا فى حياتنا من ملك زال ومن مال ذهب أدراج الرياح وضاع, ومن عافية قضت عليها الأمراض, ومن ذريات هلكت دون أن يتعظ أغلب أهل الأرض, ودون أن يتعلموا أن المال والجاه, والعز والسلطان, والعافية, والذرية ... كل ذلك هبة مؤقتة من الله – تعالي- وإقراض مرحلى منه, ووديعة يستودعها الله – سبحانه وتعالي- من يشاء من عباده, بالقدر الذى يشاء, ثم يستردها وقتما يشاء, بالكيفية التى يشاء, ومن ذلك تتضح لمحة الإعجاز التشريعى فى الآية الكريمة التى اخترناها عنوانا لهذا المقال.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
ساحة النقاش