التوافق الثقافي
بقلم: د.حلمى محمد القاعود 91 

عاد الأديب الكبير الرائد أحمد حسن الزيات من العراق عام‏3391‏ م‏,‏ بعد انتهاء عمله في مدرسة المعلمين العليا‏,‏ وبمدخراته أنشأ مجلة الرسالة التي استمرت قرابة عشرين عاما‏,‏ وأغلقت مع بدايات عهد‏2591‏ م‏.

 

. كان الزيات يحمل تصورا إسلاميا ناضجا, غذته ثقافة فرنسية عميقة, فقد درس في فرنسا, وعلم طه حسين الفرنسية, ورافقه في بعثته مع صديق ثالث هو عبدالحميد العبادي ـ رحمهم الله جميعا.
وبروح التسامح والأصالة استطاع الزيات أن يجمع علي صفحات الرسالة ألوان الطيف الثقافي في تناغم منتج وتوافق مبدع بحق, مع مستوي جيد وجاد.
والأهم من ذلك كله أن الرسالة ـ ولها من اسمها نصيب كبير ـ استطاعت أن تكون سفيرا مصريا فوق العادة لمصر, ليس في البلاد العربية فحسب, بل في أرجاء العالم الإسلامي, حيث كانت صفحاتها تعرف كتابا من العواصم والبلاد الاسلامية جميعا, وكانت هذه العواصم تسمي يوم وصول الرسالة إليها بيوم الرسالة بدلا من يوم الثلاثاء أو الأربعاء أوالخميس.
كانت وزارة الثقافة التي يفترض أن تعلي من قدر الثقافة القومية وتجليها وتعظم من قيمتها, في الخندق المضاد للأمة, وعلي مدي ربع قرن من الزمان أهدرت أموال الشعب البائس المقهور علي المهارج والمؤتمرات الجوفاء والجوائز التي تعطي لمن لا يستحقون, والتكايا التي يغترف منها الأنصار والأتباع ما لا يحل لهم ولا يجوز!!
كانت وزارة الثقافة تعتمد سياسة الإقصاء وتتحدث عن التعددية, وتتكلم عن الحرية وتمارس الاستبداد, وتدعي الديمقراطية وتطبق الديكتاتورية, وتشير إلي الانجازات وتحقق الخسائر.
وفي الوقت ذاته كانت الأغلبية الجادة من المثقفين تحترم نفسها, وتنأي نتيجة الإقصاء عن الوزارة ونشاطاتها, بدءا من رفض الوزير الذي جاء قبل ربع قرن علي غير رغبة جموع المثقفين إلي مقاطعة مهارجه ومؤتمراته.. ونتج عن ذلك انقسام واضح في جماعة المثقفين, فقد انحاز إلي ثقافة السلطة نفر ممن سعوا وراء مصالحهم الخاصة, ورأوا في الولاء للسلطة المستبدة فرصة ذهبية لإقصاء مخالفيهم في الفكر والتصور, ولتخلو الساحة لهم وحدهم يغترفون من الأموال والمنافع المادية والمعنوية ما يشاءون, الفريق الآخر ويمثل الأغلبية انحاز إلي الهوية الثقافية للأمة وفكرها وتراثها ومستقبلها, وإن ظل بعيدا عن وسائط التعبير والتوصيل..
كان الفريق الأول الذي يمثل الأقلية, يغترف من المكافآت والبدلات بغير حدود كانت هناك لجان في مجالس لا يعدو تأثيرها ما يكتب علي الورق, وكانت هناك جوائز في الأدب والفكر تمنح لمن لا يحسنون الإملاء ولا يتقنون النحو والصرف, ولا علاقة لهم بالبحث العلمي, فضلا عن الأمانة العلمية, وكانت مجلات فاشلة لم تعمر ولم تستمر يتقاضي مصدروها مكافآت ومرتبات, وكانت هناك تكية شهيرة اسمها التفرغ تخصص مرتبات لمن يجلسون علي المقاهي في الغالب ولا ينتجون شيئا ذا قيمة, وبعضهم تخصص له مرتبات مميزة لا يستحقها, وكانت هناك مهارج ينفق عليها الملايين وحصادها صفر, أو إهانة الإسلام تأمل مثلا مؤتمر تغيير الخطاب الديني وأعماله وتوصياته!, وكانت هناك احتفاليات لإهانة الشعور الوطني ينفق عليها الملايين تأمل الاحتفال بحملة نابليون علي مصر تحت سفح الهرم!, وكانت هناك مهارج للسينما, وكانت هناك جريدة أسبوعية تنطق باسم الوزير وتدافع عنه, ولا تتوقف عن هجاء الإسلام.
وكان الحصاد النهائي أن مصر تخلفت ثقافيا تخلفا مريعا, ووجدنا بعض الدول العربية تحقق تفوقا ملحوظا في المجال الثقافي, وهو تفوق يسهم فيه المصريون المطرودون من جنة وزارة الثقافة بنصيب كبير!
المفارقة أن الوزير صانع الفساد الثقافي دعا ورجاله في أواخر العهد الاستبدادي البائد إلي مؤتمر لوضع إستراتيجية ثقافية تنقذ الثقافة المصرية.. أي بعد ربع قرن من الممارسة والتطبيق والإفساد يأتي الفاسدون بمشروع مؤتمر لإصلاح ما أفسدوه؟! وهي مفارقة مضحكة مبكية علي كل حال.
بيد أن المفارقة المهمة تشير إلي أن الثقافة في بلادنا قبل حركة الجيش عام2591 م كانت مزدهرة في شتي المجالات, فقد أتاح مناخ الحرية السائد آنئذ أن تزدهر المواهب الأدبية والفكرية والفنية, فرأينا حركة نشر غنية, وكتابا ممتازين من جيل عظيم, ومؤلفات قيمة, ومسرحا مهما, وسينما ذات أهداف وغايات راقية, وقبل ذلك وبعده توافقا ثقافيا يسمح لجميع القوي والاتجاهات والتيارات أن تعمل متجاورة متناغمة دون إقصاء أوتشهير أو مغالبة أو تعتيم أو تجاهل( تأمل: وجود سيد قطب ووديع فلسطين ومحمد مندور ونجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وسلامة موسي وعبدالرحمن الشرقاوي وعلي أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان ومحمود البدوي وعبدالحميد جودة السحار وأمين يوسف غراب وغيرهم.. وكل منهم يمثل اتجاها ما أو فكرا ما أو تيارا ما.
كل هذا التنوع المفيد كان يعمل في إطار التوافق الخلاق, كما كان يعمل وفق الجهد الخاص, أو العمل التعاوني المشترك بين المثقفين أنفسهم, حيث لم تكن هناك وزارة ثقافة تملك مئات الملايين تغدقها علي من تحب, وتحجبها عمن تكره.
لقد حققت وزارة الثقافة في ربع القرن الأخير نجاحا مذهلا في خدمة الاستبداد البوليسي الفاشي وتمزيق المثقفين, وتقسيمهم إلي فسطاطين اثنين, فسطاط المستنيرين التقدميين وغالبهم ينضون تحت راية ما يسمي العلمانية بألوانها المتعددة, وهذا الفسطاط يرفض الثقافة الإسلامية رفضا كاملا, ويحارب الهوية القومية لحساب الثقافة الغربية بخيرها وشرها, وفسطاط الظلاميين المتخلفين, وهم وفقا لمفاهيم وزارة الثقافة من يؤمنون بالإسلام ويعتقدون بجدوي الثقافة القومية وضرورة الحفاظ علي الهوية الحضارية للأمة التي تتفاعل مع الحضارات الأخري ولا تنسحق أمامها.
الفسطاط الأول بمفاهيم وزارة الثقافة وأموال الأمة هو صاحب الصدارة وحق الوجود وحده, والفسطاط الثاني الذي يمثل الأغلبية ليس له إلا الاستئصال والتغييب التام, مع أنه الذي يدعم ميزانية الثقافة التي تدلل سدنتها بالعطايا والغنائم.
الآن فإن التوافق الثقافي في العهد الجديد, يقتضي إسقاط فكر الاستئصال والإقصاء, ويفرض الديمقراطية والحوار وحق الوجود لكل التيارات والاتجاهات والآراء, وللناس أن تنحاز إلي ما تراه مناسبا لها.
لكي يتم ذلك لابد من إلغاء وزارة الثقافة وتحويل ميزانيتها لخدمة الناس في مجالات أخري, بعد أن أثبتت فشلها الذريع في تحقيق أي حصاد مفيد, وستحقق الفشل ذاته لأن سياستها ثابتة.
يبقي أن يتحول مركز الترجمة وهيئات النشر والمتاحف ومصلحة الآثار إلي وزارة جديدة تسمي الآثار والتراث, تعني بالاهتمام بطبع التراث العربي الإسلامي بعد تحقيقه علميا, والتراث العلمي الإنساني بعد ترجمته ترجمة جيدة, ثم يتم تحويل موظفي الثقافة إلي جهات ومؤسسات تحتاجهم, وينتجون من خلالها.

 

المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 96 مشاهدة
نشرت فى 19 يونيو 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,747,652