روعة القرآن ٥ بقلم د. أيمن الجندى ٤/ ٦/ ٢٠١١ |
البحث عن الجمال الفنى الأصيل فى القرآن هو موضوع هذا الكتاب (التصوير الفنى فى القرآن) الذى يحاول الوصول إلى مرحلة إدراك الخصائص العامة أو الأسلوب المُوحّد لهذا الجمال. ■ ■ ■ قلنا إن التصوير هو الأداة المفضلة فى القرآن الكريم، فهو يحوّل المعنى إلى صورة فإذا بها تُصبح واقعاً أمامك! فمثلا حينما يكون المعنى المُراد التعبير عنه هو (حيرة غير المؤمنين) تأتى الآية هكذا: «قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا، وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ، كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الْأَرْضِ، حَيْرَانَ، لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا». فليته كان صاحب قصد مُوحّد ولو فى طريق الضلال!! ولكن هناك على الجانب الآخر من يدعوه إلى الهدى، وهو بين الغواية والدعاء حيرانٌ مُتلفت. وحينما يُعبّر عن حالة نفسية مثل (تزعزع العقيدة) تأتى الآية هكذا: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ». وهى صورة ترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه لفظ (التزعزع) لأنها تنطبع فى الحس فى صورة محسوسة (رجل على حافة منحدر يوشك أن يسقط). ■ ■ ■ أما مشاهد القيامة وصور العذاب والنعيم فقد كان لها من التصوير الفنى أوفى نصيب، فهذا مشهد من مشاهد الحشر: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ» وكذلك: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ». مشهد حافل يموج بالهول، لا يُقاس بالحجم والضخامة فقط، وإنما بوقعه فى النفوس. ■ ■ ■ وقليل من صور القرآن هو الذى يعرض صامتا ساكنا أما أغلب الصور ففيها حركة، وتخلع على الجماد حياة مثل: «والصبح إذا تنفس». يتنفس فتتنفس معه الحياة ويدب النشاط فى الأحياء. والأرض والسماء عاقلتان يُوجّه إليهما الخطاب: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ». وهذه جهنم النَهِمة المُتغيظة التى لا يفلت منها أحد ولا تشبع بأحد: «إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا». ■ ■ ■ وهناك وحدة الرسم التى تُحتّم التناسق بين أجزاء السورة فإذا قرأت سورة الفلق: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» وجدت أن الجو المُراد إطلاقه هو جو التعويذة بما فيه من هيمنة وخفاء، لذلك ناسبه جو الشر، والليل يتغلغل ظلامه، ونفث الساحرات فى العقد، والحسد الباطنى المطمور فى ظلام النفس. فالجو كله ظلام وغموض ناسبه استخدام لفظ (الفلق) وهو مرحلة تجمع بين النور والظلمة ولها جوها الغامض المسحور. وإلى الأسبوع المقبل إن شاء الله.
|
ساحة النقاش