|
|
المبنى القديم لأمن الدولة |
لم يكن البوليس السياسى يعمل فى الداخل فقط بل كان نشاطه يمتد خارج مصر، وقد أرسى قواعد هذا التقليد حسن نشأت باشا سنة ١٩٢٤، عندما كان رئيساً للديوان الملكى وكان عرش الملك فؤاد مهدداً بمؤامرات الخديو «المخلوع» عباس، الذى كان يحاول العودة إلى مصر.
وكان حسن نشأت يملك شبكة واسعة ونشطة من العملاء فى أوروبا وتركيا، يتلقى منهم تقارير بصفة دورية عن نشاط الخديو السابق وتحركاته واتصالاته، وكان من مهام العملاء أيضا تقصى أخبار الطلبة اليساريين والوفديين.
بدأت سلسلة العمليات ضد أفراد الجيش البريطانى ١٩٤١، وواكبت هذه الحوادث ظروف الحرب العالمية الثانية، التى ألقت على عاتق البوليس عبء مراقبة رعايا دول المحور فى مصر وتحرى نشاطهم. وتطور جهاز الأمن السياسى خلال تلك الفترة، فعلى المستوى المركزى ظل «القسم المخصوص» يقوم بدوره فى تحريك أجهزة الأمن السياسى الفرعية والإشراف على نشاطها، وعلى المستوى المحلى تولى «قلم الضبط فرع ب» القيام بعمليات اعتقال الألمان.
ويبدو أن ضغط العمل على (قلم الضبط فرع ب) كان متزايدا، فأُنشئ «القسم المخصوص» فى بوليس القاهرة لإجراء التحريات الخاصة عن الإيطاليين والألمان. وبعد حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ أُطلقت يد البوليس السياسى فى أبناء البلد، وكانت التهمة المستعملة والمتداولة الشيوعية، وأن «له ميول نحو المحور»، أى ميول ألمانية، أو معاد للحلفاء، وكان اكتشاف الأشخاص الذين يمكن أن يطلق عليهم هذا الوصف، أو ذاك، ليس مهمة البوليس السياسى فقط، بل مهمة المخابرات البريطانية.
وعلى ضوء اختصاص (القسم المخصوص) المحلى، اختص (قلم الضبط فرع ب) بالمسائل السياسية المحلية ومكافحة الشيوعية والنشاط العمالى، وخلال وزارة النحاس السادسة ١٩٤٢، أُنشئ مكتب للبوليس السياسى برئاسة مجلس الوزراء، وظل قائما حتى جاءت حكومة أحمد ماهر باشا عام ١٩٤٤، ودمرت المكتب ونكّلت برجاله فى إجراء معتاد للحكومات التى سقطت.
وتشابكت اهتمامات جهاز الأمن السياسى وتعقدت بسبب تعدد الأنشطة والتيارات السياسية فى الشارع المصرى، خاصة فى الفترة من ١٩٤٦ – ١٩٥٢، حيث انتشرت أفكار جماعة الإخوان المسلمين انتشارا ضخما، والتى اعتبرتها أجهزة الأمن آنذاك «خطرا على الأمن السياسى، بوجودها العنيف، وأفكارها الغامضة»، وتزامن ذلك مع ظهور التنظيمات الشيوعية والصهيونية، وامتدت الإضرابات والاعتصامات.
وتفاقم الوضع حين أضرب رجال البوليس اأنفسهم عن العمل بسبب السخط لأسباب اقتصادية فئوية، فى أكتوبر ١٩٤٧ ومارس ١٩٤٨، وحاصرتهم قوات الجيش، ليهدم هذا الإضراب القلعة الحصينة التى كان يتحصن بها النظام، ولم يبق من الهيكل كله إلا جهاز الأمن السياسى، الذى بقى على ولائه لحماية النظام السياسى المنهار.
كانت هذه أخطر مراحل العنف السياسى فى مصر، فقد أنشئ مكتب جديد فى بوليس القاهرة ضمن تخصصات (القسم المخصوص) فى ١٩٤٧، أطلق عليه اسم «مكتب الشؤون العربية»، كان من أهدافه الحفاظ على أرواح الزعماء واللاجئين العرب، كما أقيم «مكتب مكافحة الشيوعية» تابع للقسم، وأنشئت فروع للقسم المخصوص فى المحافظات، وانبثق عنه فرع لمراقبة النشاط الصهيونى وصلته باليهود المقيمين فى مصر.
واستيقظ البوليس السياسى أخيراً فى هذا العام على رصد تحركات اليهود الصهيونيين، ولم يكن ذلك بدافع المحافظة على الأمن العام، وإنما كان استجابة كاذبة لضغط الرأى العام، وتحول هذا الاهتمام من البوليس السياسى إلى عملية متاجرة مربحة، فقد كان يقبض على الصهيونيين ثم يفرج عنهم مقابل دفع الثمن، مما جعل الكثيرين ينظرون إلى البوليس السياسى باعتباره لم يكن يخدم المصلحة العامة أو الأمن العام، وإنما كان يخدم أشخاصا ومراكز قوى، ويشترك فى عمليات قذرة، لا ضد الوطنيين فقط، ولكن أيضاً ضد الوطن. وكانت هذه المرحلة هى تاريخ الميلاد الحقيقى لجهاز الأمن السياسى البوليسى، بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى. وفى النصف الثانى من الأربعينيات تبدأ العلاقة الخاصة بين نظام الحكم وجهاز الأمن السياسى... «جهاز أمن الدولة».
تتضمن قائمة الأسماء اللامعة فى سماء الأمن السياسى: القائم قام محمد إبراهيم إمام، الصاغ محمد توفيق السعيد، الصاغ محمد الجزار، البكباشى سعد الدين السنباطى، اللواء أحمد طلعت. ويرجع تألقهم إلى أدوارهم فى الإيقاع بالمتهمين فى القضايا السياسية، واستخدام أساليب التعذيب.
وتشير الوثائق التاريخية إلى أن يد البوليس السياسى كانت تطلق على أبناء البلد، وكانت التهم الملفقة جاهزة، فلم يكن العمل وفقا لقانون معين أو لائحة محددة، حتى انتهى الأمر إلى انحراف جهاز الأمن عن مهمته بارتكاب جرائم القتل السياسى، عندما قتل حسن البنا، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، على يد مجموعة من رجال البوليس عام ١٩٤٩، وتوالت بعد ذلك سلسلة من الجرائم المشابهة.
وتذخر وثائق محاكمات رجال عهد ما قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ بحوادث التعذيب، التى ميزت عهد (إبراهيم عبدالهادى)، وجرت على يد جهاز الأمن السياسى، حتى ترتب على ذلك أن اقترن فى آذان الشعب المصرى لفترات طويلة مصطلحا «البوليس السياسى» و«التعذيب».
ولكن مع نهاية ١٩٤٩ شهد جهاز الأمن السياسى تطهيرا جزئيا بهدف امتصاص بعض السخط الذى أحدثته أعمال الجهاز خلال الفترة السابقة، ورغم هذا السلوك غير السوى لجهاز الأمن السياسى، لم تقل أهميته على الإطلاق، ولم يؤثر ذلك على منح الجهاز أفضليته على الأمن الجنائى، حتى احترقت القاهرة وأصيب جهاز البوليس بالشلل نتيجة لدور جهاز الأمن السياسى.
ومع اندلاع ثورة ٢٣ يوليو صدر قرار رئيس الوزراء بإلغاء القسم المخصوص وكل أجهزة البوليس وفروعه. وفى أغسطس ١٩٥٢ كلف زكريا محيى الدين بتشكيل الإدارة العامة للمباحث العامة، ولكن تكررت الكارثة حين استعانت السلطة بإخصائيى الإرهاب الأسود والتعذيب والتلفيق، الذين شوهوا ثورة ٢٣ يوليو، وكانوا من بقايا البوليس السياسى، ومنهم المدرسة التى دبرت اغتيال عدد كبير من الأبرياء، واستخدم السجن الحربى لأول مرة فى مصر للمدنيين، وأممت الحياة السياسية، حتى جاءت ثورة التصحيح عام ١٩٧١ على يد الرئيس الراحل انور السادات، فتم تغيير الاسم من «المباحث العامة» إلى «مباحث أمن الدولة»، ثم «جهاز أمن الدولة».
ومع اندلاع الحرب بين مصر وإسرائيل، بدأت تظهر أهمية الجهاز عندما بدأ يعمل فى ضبط الجواسيس، بالتعاون مع أجهزة المخابرات، وبدا واضحا أن المهام تتشعب وتتفرع وتتزايد مع سلطة الدولة البوليسية، حتى أصبح تعيين الموظفين والسفراء والترشيح للمناصب المهمة وما إلى ذلك من اختصاص الجهاز.
ويعقب المؤرخ الدكتور عبدالوهاب بكر على ذلك قائلا إن للجهاز ممارسات صارخة فى قضايا كثيرة، منها قضية المشير عبدالحكيم عامر، بسبب تضليل الناس بصورة تجعلهم يحتارون فى هوية الجانى، وقضية مقتل السادت التى تقاعس الجهاز فيها، لأنه كان المسؤول عن تقصى الحقائق فى القضية كدور مساعد للمخابرات العسكرية، التى تولت التحقيق والتحرى، بالإضافة إلى فشله فى كشف الجماعات الإسلامية، مما أدى إلى التغلغل داخل العمل السياسى، وتفوق هذه الجماعات على الجهاز، حتى انتهى المشهد بقتل السادات، فضلا عن علامات الاستفهام القائمة لدى البعض بشأن دور الجهاز فى قضية مقتل الفنانة سعاد حسنى، وأشرف مروان فى العاصمة البريطانية لندن، واختفاء الكاتب السياسى رضا هلال، وحادث كنيسة القديسين.
ويلفت «بكر» إلى ما أصبح تقليداً معتمداً فى الدولة يقضى بأن قيادات أمن الدولة عندما تنهى عملها بجهاز أمن الدولة تنتقل إلى تولى مناصب سياسية مهمة، كوزراء ومحافظين ورؤساء هيئات ومصالح حكومية.
وظل الأمر على هذا المنوال لعقود طويلة، حتى جاءت ثورة ٢٥ يناير لتصر على إلغاء هذا الجهاز، أو إعادة هيكلته ودمجه مع المخابرات العامة، فى وزارة واحدة للأمن القومى. ولن ينسى التاريخ يوم ٤ مارس ٢٠١١، حين تم اقتحام مقار أمن الدولة بالإسكندرية والقاهرة والمحافظات الأخرى، والعثور على وثائق ومستندات مفرومة ومحروقة، مع ترك البعض منها سليما، أو شبه سليم، لتوجيه الناس والرأى العام إلى أفكار أخرى، عبر وثائق يميل البعض إلى اعتبارها مزورة.
وفى ١٥ مارس ٢٠١١ أصدر اللواء منصور عيسوى، وزير الداخلية، قرارا بإلغاء جهاز مباحث أمن الدولة بكل إداراته وفروعه ومكاتبه فى جميع المحافظات، نزولا عند رغبة الشعب، وظهر «قطاع الأمن الوطنى» بديلاً عنه.
|
ساحة النقاش