الإصلاح والثورة
بقلم: د.عبد المنعم سعيد


طلب مني الزميل العزيز محمد فايز فرحات رئيس تحرير مطبوعة كراسات إستراتيجية التي يصدرها مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية أن أعد كراسة تجيب علي السؤال لماذا فشل التيار الإصلاحي في الحزب الوطني الديمقراطي‏,‏ والإصلاحيون في مصر عامة سواء انتموا إلي الحزب أم لم ينتموا أن يحققوا الإصلاح في مصر‏

 

ومن ثم وجبت الثورة كما رأيناها, وكما سوف نراها في المستقبل. ومهما كانت الأحداث كثيرة ومبعثرة فإن المقولة الوحيدة التي لن يختلف عليها اثنان هو أن مصر بعد الخامس والعشرين من يناير2011 لن تكون كما كانت قبلها. ولعل ذلك في حد ذاته تعريف بسيط للثورة, وهو أنها حدث هائل يجعل الدولة والمجتمع يتغيران كيفيا بحيث يبدأ ليس تاريخا جديدا بقدر ما هي نقطة جديدة في التاريخ.
السؤال هكذا عن فشل الإصلاحيين جاء مبكرا للغاية, وعنفوان الثورة لا يزال باقيا بحيث بات هناك تيار يرفض كل تفكير هادئ أو ناصح أو ناقد غير مناسب لمقتضي الحال. وفي ظل هذه الأجواء فإن الأفكار البسيطة دائما ذائعة, والخلط بين الإصلاح والانتهازية سهل, وطالما أن تاريخ مصر بدأ في التو واللحظة ـ كما قيل عن كل الثورات من قبل ـ فإن بحث ظواهر ما قبلها بعيدا عن التفسيرات السياسية المتفق عليها يبدو خروجا علي الجماعة بالمعني الديني والسياسي للكلمات.
ومع ذلك فإن فشل الإصلاحيين قبل قيام ثورة كان دائما موضع نقاش وحوار بين المؤرخين والمفكرين الذين تداولوا في التاريخ المصري وحاولوا البحث في قوانين حركته. فالشائع الآن بين العامة هو أن مصر طوال تاريخها كانت دولة ديمقراطية وغنية وتحترم فيها حقوق الإنسان حتي جاءتها جماعة الحزب الوطني الديمقراطي وقيادته وغيرت ذلك كله إلي الدكتاتورية والفقر وغياب حقوق الإنسان حتي باتت العقود الثلاثة الأخيرة فارقا بين الضياء الباهر والظلام الدامس. وبالطبع فإن الأمر لم يكن أبدا كذلك, وطوال آلاف الأعوام التي عاشتها الدولة المصرية فإنها لم تكن ديمقراطية, وبعد نهاية الفترة الوسطي من العصور الفرعونية فإن تدهور الثروة استمر علي حاله طوال القرون والألفيات التالية فيما ما عدا سنوات قليلة مبعثرة في التاريخ المصري, ومعها توالي المستعمرون والفاتحون والغزاة.
وبالطبع لا توجد نية هنا لمراجعة التاريخ المصري كله; ولكن ما يهمنا أن التاريخ الحديث عرف هذه الجدلية بين الثورة والإصلاح. وربما كانت نقطة البداية في دولة مصر الحديثة هي ثورة الشعب المصري علي الاحتلال الفرنسي لمصر والذي ظلت مشتعلة حتي تم وضع محمد علي الكبير علي رأس الولاية المصرية عام1805, لاحظ هنا أن الثورة كانت مصرية خالصة قادها الأزهر ونخبة من المتنورين اللذين باتوا يطلبون الخلاص من العصور العثمانية المعتمة, ولكنهم في النهاية أعطوا الولاء للوالي العثماني الذي كان لديه ما يكفي من الطموح لكي لا يبدأ عملية استقلال مصر فقط, وإنما يبدأ عملية خروجها من العصور الوسطي العثمانية إلي العصر الحديث.
وما بين تولي محمد علي السلطة وحتي الثورة العرابية, وهي ثورة قام بها الجيش وأيدها الشعب, كانت جهود الإصلاح هائلة بمعايير العصر. لم يكن إصلاح الزراعة والري واستصلاح الأراضي خطوط السكك الحديدية ودخول البرق والتلغراف والصحافة والكتب والمسارح, وتغيير قواعد الملكية الزراعية, إلا تمكينا للإنسان المصري, أو بعضا منه علي الأقل, بحيث بات مختلفا ثقافة وفكرا واستعدادا للنظر في السياسة والحكم وأصوله. صحيح أن كتاب التاريخ ركزوا كثيرا علي فتوحات محمد علي وصراعه مع الدول الأجنبية, وما فعله نجله إبراهيم في السودان والشام والجزيرة العربية, وما ذهب إليه الخديوي عباس من إقامة القانون والنظام وأسس الدولة في مصر, وما تبعه من عهود سعيد وإسماعيل من فتوحات أفريقية وإصلاحات عظمي كان أهمها حفر قناة السويس وإدخال المصريين لأول مرة منذ ثلاثة آلاف عام في سلك الجندية, والوظائف العامة, والصناعات المعروفة في ذلك العصر, فضلا عن التقدم الكبير فيما عرفوه منذ قديم الزمان في الفنون الزراعية.
كل ذلك حدث بفعل إصلاحيين شتي, نعرف أسماءهم من وقت لآخر في مجالات التعليم والتنظيم والصناعة والزراعة وغيرها; ولكن النتيجة السياسية لما قاموا به كان تناقضا حادا بين ما آل إليه الشعب المصري نتيجة هذه الإصلاحات وطبيعة النظام السياسي التي ظل لا يعترف إلا بالحكم المطلق للوالي أو الخديو الذين لا يرون في الشعب المصري رعية وفقط لا غير. ولم تكن المواجهة التي جرت بين أحمد عرابي والخديو توفيق أمام قصر عابدين إلا ترجمة لهذه الحقيقة ما بين نتاج نظام سياسي مغلق وضيق وعاجز عن استيعاب نخبة واسعة من المصريين لم يعودوا علي حالهم الذي كانوا عليه خلال العصور العثمانية المختلفة, أو حتي العصور السابقة في التاريخ كلها, وهذه النخبة وقد تجسدت في إنسان مصري لم يعد يقبل ما عليه النظام السياسي كله ويحلم معه بدستور يماثل ذلك الموجود في الدول المتقدمة.
انكسرت الثورة العرابية علي أية حال بفعل التدخل الأجنبي والاحتلال الإنجليزي وذهب عرابي إلي المنفي. ولكن واحدا من أهم نتائج الثورة هو ظهور ذلك التناقض ما بين الإصلاحيين المصريين سواء كانوا من أصول مصرية خالصة أو حتي أجنبية تمصرت بالتاريخ والوجود; والثوار علي الجانب الآخر. وبينما ذهب الأولون إلي أن الثورة العرابية كانت جملة اعتراضية علي جهود التقدم المصري, وكانت هوجة اعتمدت علي العامة وجلبت في النهاية الاحتلال الانجليزي للبلاد; فإن الآخرين لم يجدوا في هؤلاء إلا من خانوا الثورة وتركوا فرصة لعودة مصر للمصريين في دولة مستقلة. والحقيقة أن الإصلاحيين لم يجعلوا الثوريين يفتون في عضدهم واستأنفوا جهودهم الإصلاحية حتي أن عرابي نفسه عندما عاد من المنفي بات معجبا بالدرجة من التطور والرقي التي وصلت إليها مصر خلال غيابه.
القصة نفسها تكررت وربما باتت معروفة, ومع مطلع القرن العشرين تحركت الموجة الثانية من الإصلاحات في مصر, والتي دخلت هذه المرة في تحرير المرأة والتعليم والجامعات علي نمط البلدان المتقدمة. وبينما كل ذلك يعطي مزيدا من التمكين للمواطن المصري, كان هذا الأخير يعاني من قيد الاحتلال الإنجليزي الذي يخنق الروح الوطنية, والحكم الخديوي ثم السلطاني الذي لم يكن يدرك بعد أن مصر قد دخلت القرن العشرين أرادت أم لم ترد فولد تناقض الإصلاح والاستبداد ـ الأجنبي والمحلي ثورة1919.
كتب التاريخ ممتلئة بما جري للثورة وفي الثورة, ولا توجد نية هنا لإعادة التأريخ لما جري, ولكن ومرة أخري كان التناقض ما بين الثوريين والإصلاحيين حاضرا في الخلاف بين الحزب الوطني وحزب الأمة, وبعد ذلك بين حزب الوفد والأحرار الدستوريين. كان الخلاف دائما عما إذا كانت الأمة مستعدة للاستقلال والحرية والدستور والتخلص من النير العثماني والإنجليزي معا; وهل هناك ما يكفي من البنية الأساسية للإصلاح التي تخلق نخبة لديها من القيم والمعتقدات ما يناسب الدول المتقدمة أم أن التغيير لن يكون سوي إعادة إنتاج أفكار العصر العثماني بتخلفه وأمراضه, فضلا عن إنكاره لميلاد الأمة المصرية.
نجح الثوريون علي أي الأحوال وحصلت مصر علي استقلالها حتي ولو كان الإصلاحيون الأشقياء هم الذين وضعوا دستورها. ومن اللحظة الأولي لنجاح الثورة كان الخلاف بين سعد زغلول وعدلي يكن يدور حول أمور كثيرة ولكن جوهرها كان عما إذا كان ضروريا استمرار الثورة حتي يكون التخلص من الإنجليز أو استمرار الإصلاح حتي تكون الأمة جاهزة ليس للاستقلال فقط وإنما لكي يكون لمصر مكانتها بين الأمم. وعلي أي الأحوال كان سعد زغلول ومصطفي النحاس من بعده علي استعداد للقبول والذود عما فعلته لجنة الأشقياء بالدفاع عن دستور1923.
ولكن مرة أخري, وسواء كان الملك فؤاد أو فاروق, فإن النظام السياسي كله كان في اتجاه القيد علي القوي السياسية المختلفة حتي أن حزب الوفد الذي كان يحصل علي الأغلبية دائما لم يحكم إلا لأكثر قليلا من سبع سنوات فقط من بين ثلاثين عاما عرفت بالحقبة الليبرالية. العجيب هنا أن القوي الإصلاحية لم تتوقف قط عن العمل وبدأت الرأسمالية المصرية في الظهور من خلال بنك مصر والمؤسسات الاقتصادية المختلفة التي تناثرت في البلاد تصاحبها جامعات ومدارس. وانفتحت مصر كلها علي العالم خلال الحرب العالمية الثانية وأعطتها اتفاقية1936 طاقة واسعة للتطور من أول بناء جيش وطني وحتي التفاعل مع العالم أجمع سواء كان ذلك من خلال عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة وحتي الحرب العالمية الثانية ذاتها. وباختصار كانت مصر تتغير, ومع تغيرها ظهرت مطالب أخري تتعدي الاستقلال الوطني وجلاء الاحتلال إلي أمور لها علاقة بالتعليم والإصلاح الزراعي. وببساطة كان القانون الأساسي للسياسة المصرية قد أخذ في التطبيق: اتساع في القدرات والطاقات السياسية المصرية يظهر في شكل أحزاب ومجتمع مدني وتنظيمات اجتماعية واقتصادية واتصال متسارع مع الخارج; ويقابله في نفس الوقت نظام سياسي لا يزال يقوم علي سلطة ملك فشل في استيعاب كل هذه القوي داخل النظام السياسي الذي بات معتمدا علي الأقلية طوال الوقت.
هذا التناقض ما بين التطور الكبير الذي يجري في البلاد والعجز السياسي كان لا بد وأن يولد ثورة23 يوليو1952 التي تعاملت مع التناقض بطريقتها الخاصة ولكنها لم تستطع الهروب منه. والحديث متصل!.

[email protected]
 

 

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 102 مشاهدة
نشرت فى 18 إبريل 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,794,533