authentication required

البحار المُغادرة ( قصة قصيرة) بقلم د. أيمن الجندى ٧/ ١/ ٢٠١١ كان يقود سيارته فى طريقه إلى الإسكندرية. اختلس النظر إلى السيدة الجالسة بجواره. واخترمه شعور داهم بعدم الارتياح. إنها زوجته وقد تم عقد القران اليوم، لكنها لاتزال غريبة عن عالمه. فليسرع.. الطريق يبدو طويلا كتلك القبة الزرقاء الداكنة من فوقه. والليل قد اشتد إظلامه. هو يمقت القيادة ليلا ولطالما حذرته زوجته ألّا يقود فى الليل. أفلتت آهة من داخله، وتساءلت السيدة الجالسة بجواره (يعنى زوجته) عما دهاه، فلم يرد وإنما شرع يُسرع. ها هو يعاود التفكير فيها. يجب ألّا يفكر فيها هذه الليلة بالذات. ليلة عرسه. ابتسم فى سخرية ثم راح يفكر فيما ينوى القيام به. فى البدء عليه أن يجد فندقا ملائما للمبيت. إن معه سيدة (يعنى زوجته) وبالتأكيد تصبو إلى قضاء شهر العسل بأحد الفنادق الفاخرة ذات النجوم الخمسة. زوجته لم تكن تبالى قط بأعداد النجوم، وكيف تبالى الشمس بالنجوم الشاحبة؟ سحقا. لماذا يعاود التفكير فيها؟ فليسرع.. ليسرع. والتفت إلى السيدة الجالسة جواره، محاولا أن يجد مدخلا للحديث دون جدوى. لم يكن الحديث ينقطع مع زوجته. كان صفحة مفتوحة أمامها. هى لم تقرأها فحسب وإنما خطت بقلمها الساذج أعذب الأشعار. هى لم تنجب حمادة فحسب وإنما أنجبته أيضا، ولذلك كانت تعنى به وتغفر له كما تفعل الأم بطفلها. ألن يكف عن الهذيان؟ ماذا لو اطلعت هذه السيدة الجالسة جواره على أفكاره؟! ألن تشعر بالإهانة؟! أغلب الظن أنها لن تبالى. لن تزعم حبه وهى التى لم تعرفه إلا من يوم واحد. لم يكن ليتزوجها، أو يتزوج غيرها لولا تلك المأساة التى عصفت بكيانه. الحب نسيج تغزله الأيادى المحبة. نسيج يتدثر به المرء فى ليالى الشتاء وخريف العمر. ثوب يمنحه لك الحب بلا مقابل ولكن لا يمكنك ابتياعه بذهب الأرض وكنوز البحار. لا حائك يُخيطه لك ولا متجر تبتاعه منه، وحينما يبلى يغدو الإنسان عاريا ولو تدثر بألف ثوب. ولكن تبا لها! لماذا تلتزم الصمت المطبق؟ إنها تخشى سرعة سيارته الفائقة فعيناها مسمرتان على مؤشر السرعة دون أن تجرؤ على الاعتراض. ابتسم ساخرا. يبدو أن الرعب قد عقد لسانها. وزاد من سرعته.... أتراها تفكر أنه ينوى اللحاق بزوجته الحبيبة؟ إنها مخطئة. لو كان ينوى الانتحار ما كان تزوجها. لا ينكر أنه يتمنى الموت بجماع نفسه. لو كان الموت امرأة لأغواها بالحُلىّ والثناء. ولو كان طفلا لأغرقه بالحلوى. لكنه لن ينتحر أبدا. إسلامه يمنعه. كل ما هنالك أنه سيصلى مبتهلا إلى الله أن يُعجّل بأجله. واختلس نظرة إليها. لم تفلح كل المساحيق أن تُخفى شحوبها. واعتصر قلبه الإشفاق عليها. يعترف بأنها ليست من طرازه، متبهرجة، كثيرة المساحيق مصبوغة الشعر لكن ذلك ليس ذنبها. وشرع يُهدئ من سرعة سيارته. على أى حال لقد اقتربت الإسكندرية. فليطهر ذاته برائحة البحر المشبع بالأعشاب. فليغسل أدرانه بزبد أبيض قادم من بحار الشمال. فليخف دموعه فى ملح البحر الأجاج. لطالما أمضى معها أجمل الأمسيات. كانت تصغى إلى تكسر الأمواج وتفهم لغته ولا تبوح بأسراره. هل يذكر- مثلا- أيام الزواج الأولى؟ لم تكن قد أنجبت حمادة بعد. كان هو طفلها الوحيد، طفلها المُدلل. أم يذكر مثلا عطلات نهاية الأسبوع التى كانوا يختلسونها رغم أعباء العمل المضنية؟ أم يذكر البحر الذى يمتد إلى آفاق البصر. البحر الذى كانت تزعم أنه دمعة واحدة فى عينيها. ها هى ذى الإسكندرية أخيرا. الإسكندرية التى تشهد بغرامه لها. ولكن أين هى؟ رحلت بعيدا. لم تنس أن تصطحب ولده الوحيد معها. أى نكبة مُروّعة ألمت به على غرّة؟ أسوأ كوابيسه تحققت حينما ماتت مع حمادة فى حادث مشؤوم. وفى غضون أسبوع واحد كان قد تزوج. كانت مراسم الدفن المشؤومة تطارده. أمضى ثلاث ليالٍ متعاقبة بلا نوم. فى الليلة الرابعة أيقن أنه على وشك الانتحار. يخشى أن تنتابه لحظة ضعف يفقد معها دنياه وآخرته. فليحاذر الانفراد بنفسه وليتشاغل بشىء لا يدرى ما هو. بعد ليلة مسهدة ذهب إلى المتجر ليبتاع رابطة عنق سوداء، وهناك مازحته البائعة فوجد نفسه يعرض الزواج عليها. لم يترو للحظة، بل خُيّل إليه أن رجلا آخر يتكلم، وأنه يسمع عرض الزواج فى الوقت نفسه معها. تصورت أنه يمزح لكنه كان مُصمما. لم يتردد أهلها فى الموافقة. كان فرصة لا تتاح لمثيلاتها. وأطلقت أمها زغرودة كالنواح. وها هو ذا يصطحبها للإسكندرية. لم يخطر بباله أن تكون زوجته عاتبة عليه لزواجه المُتسرّع. إنه يلعق الترياق كى لا يموت، عالما أنه أمرّ من السم ذاته. إنه يتخبط فى اليمّ كى لا يغرق. إنه يُذبح بسكين صدئ ويتمنى لو كان أكثر حدة. إنها تفهمه، وترثى له. اقتربت السيارة من الفندق يا للشقاء! أحقا قد تغيرت الحياة تماما فى أيام معدودات؟ أحقا تلوّنت إلى الأبد بهذا باللون الأسود؟ ليتها أبقت شيئا واحدا من الماضى الجميل يلوذ به. أجل. البحر. إنه موجود وينتظره. تنهد تنهيدة الخلاص وانحرف بالسيارة مسرعا صوب الكورنيش. مضى يسترق النظر صوب البحر فلم يره. لا غرابة فى الأمر فلعل كثافة الظلام تحجبه. ولكن لماذا لا يسمع صوته؟ فليصغ جيدا. ففى البحر خلاصه، إنه كل ما تبقى من ذكرى زوجته. والذى حدث بعدها لا يُعقل. يقول شهود العيان إنه أوقف سيارته فجأة. يقولون إنه لم يعبأ بالرد على السيدة الجالسة جواره. يقولون إنه فتح باب سيارته بعنف وتركه مفتوحا، ومضى يعبر طريق الكورنيش دون أن يلقى نظرة. يقولون إن السيارات توقفت بفرامل مفاجئة، وبعضها اصطدم ببعضها، وتعالى السباب والفوضى الشنيعة. ويقولون أيضا إنه توقف عند سور الكورنيش الحجرى، وراح يصرخ بأعلى صوته. ويقول للعابرين- الذين ملؤهم الذعر- إن البحر غير موجود، وأنه رحل!. وإنه حين ينظر إلى البحر لا يرى مكانه إلا هُوّة، ملؤها الظلام والضباب والأحزان الكبيرة!

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 112 مشاهدة
نشرت فى 7 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,637,138