بقلم: د. محمد السعيد إدريس
لم تكد تمر غير أيام قليلة علي نشر الصحف المصرية بعض نصوص اعترافات المتهم الأول في قضية التجسس للدولة الإسرائيلية أمام نيابة أمن الدولة العليا وهي القضية التي باتت تحمل رقم650 لسنة2010 حصر أمن دولة.
حتي فاجأنا جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيليكس الالكتروني في أحد مقابلاته التليفزيونية أنه سوف ينشر آلاف الوثائق التي تخص إسرائيل وعلاقاتها المتشعبة وأنشطتها, لكن المفاجأة الأهم هي إعلانه أنه يمتلك وثائق خطيرة ضد مسئولين وموظفين كبار في الدول العربية, كانوا يقومون بخيانة أوطانهم من خلال تسريب معلومات خطيرة عن بلادهم وأنه سوف ينشر علي موقعه بعض هذه الوثائق التي تنبأ لأهميتها الفائقة, أنها سوف تحدث انقلابا في العالم العربي خاصة أن مسئولين عربا أصحاب مناصب كبيرة في حكوماتهم كانوا يتبرعون بالذهاب إلي أمريكا بصفة دورية من أجل الإدلاء بمعلومات خطيرة وكتابة تقارير مستمرة كانت تكشف عما يجري في بلادهم.
أعتقد أن هذه المعلومات لو كانت صحيحة فإنها ستكون عند نشرها بمثابة صيد سمين لأجهزة الأمن القومي في مصر والدول العربية إذا ماقورنت بما حصلت عليه أجهزتنا من اعترافات الجاسوس طارق عبدالرازق المتهم الأول في قضية التجسس لدولة الكيان الصهيوني, خصوصا إذا تزامن نشر موقع ويكيليكس لتلك الوثائق مع نشر ما وعد به جوليان أسانج من نشر للوثائق الخاصة بإسرائيل وبالذات إذا تضمنت هذه الوثائق معلومات شبيهة بتلك التي وعد بنشرها عن المعلومات التي سربها بعض كبار المسئولين العرب من أسرار بلادهم للأمريكيين, عندها لن تكون هناك أي إمكانية للمقارنة بين ماقدمه الجاسوس طارق عبدالرازق من معلومات للاسرائيلين ربما يدفع حياته ثمنا لها بما قدمه هؤلاء المسئولون الكبار.
عند هذه النقطة بالذات يجب أن نتوقف كثيرا لنعيد البحث والتفكير في معني ومفهوم التجسس والتخابر والخيانة, وهي مصطلحات تمتليء بها أوراق قضايا التجسس التقليدية علي ضوء مجمل ماترتب علي توقيع مصر لاتفاقية السلام مع اسرائيل عام1979 وبالذات مايتعلق بالنواحي والمجالات المختلفة لتطبيع العلاقات المصرية ـ الاسرائيلية, سواء كانت أنشطة سياسية أو سياحية أو اقتصادية وتجارية أو علمية وثقافية, فمنذ عام1979 وحتي الآن وعلي الرغم من تعثر عملية التطبيع علي المستوي الشعبي بصفة خاصة, فإن التواصل بين مصريين واسرائيليين من مستويات وظيفية واقتصادية وعلمية متعددة لم ينقطع, فقد التقوا وتحادثوا وتاجروا وأسسوا شركات وحضروا ندوات ومؤتمرات وربما تصادقوا, فماذا حدث خلال كل هذه الأنشطة وعلي مدي كل تلك السنوات وهل يمكن تجاهل مايحتمل أن يكون قد حصل عليه الاسرائيليون من معلومات يرونها خطيرة ومهمة لهم عن مصر, من خلال تلك العلاقات والأنشطة المشتركة والمباشرة والعلنية أو حتي غير العلنية؟ وكيف سيتم تصنيف هذا كله من منظور ومعايير الأمن القومي التي ستتم ـ وفقا لها ـ محاكمة الجاسوس طارق عبدالرازق؟ الأمر يزداد تعقيدا إذا أخذنا في اعتبارنا أمرين شديدي الأهمية أولهما يتعلق بالحرص والدأب الاسرائيلي للتجسس والتخابر علي مصر والاستمرار في جمع المعلومات الدقيقة عن كل كبيرة وصغيرة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو علمية تحدث داخل مصر رغم توقيع اتفاقية السلام
ربما يكون السؤال المهم بهذا الخصوص هو ماالذي يدفع الاسرائيليين للتجسس علي مصر والتدبير لها والتربص بها؟ والاجابة المباشرة هي الشك في جدية المراهنة علي التزام المصريين باتفاقية السلام في ظل حالة الخوف المستحكمة في إسرائيل رغم تحولها الي ترسانة عسكرية ونووية علي نحو غير مسبوق تاريخيا في المنطقة وهو الخوف الناشيء عن إدراك حقيقي بالخطر الذي يتهدد هذا الكيان من جراء قيامه علي أكبر جريمة نصب واعتداء في التاريخ حيث تم اقتلاع شعب من أرضه والسيطرة عليها, وهكذا فإنهم حريصون, بشتي السبل علي ألا تتحول مصر ثانية الي قوة قادرة علي أن تكون مصدرا للتهديد بالنسبة لاسرائيل لذلك فإنهم حريصون علي القيام بكل مايمكنهم القيام به من تخريب داخل مصر بقدر حرصهم علي محاصرة مصر من كل حدودها وعزلها عن أمتها العربية للتفرد بها.
هذا الحرص علي منع مصر أن تتحول إلي مصدر للتهديد هدف إسرائيلي أول لكن هناك هدفا آخر هو هدف التوسع الاسرائيلي علي حساب الأراضي المصرية بدليل اعترافات مناحم بيجين رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق الذي وقع اتفاق السلام مع الرئيس السادات في دفاعه عن قرار الانسحاب من سيناء, فقد برر بيجن قبوله هذا الانسحاب ثمنا لتوقيع مصر اتفاقية السلام بالشروط التي نص عليها في الاتفاقية بقوله: سنضطر إلي الانسحاب من سيناء لعدم توافر طاقة بشرية قادرة علي الاحتفاظ بهذه المساحة المترامية الأطراف: سيناء تحتاج إلي ثلاثة ملايين يهودي علي الأقل لاستيطانها والدفاع عنها وعندما يهاجر مثل هذا العدد من الاتحاد السوفيتي والأمريكتين إلي إسرائيل سنعود إليها وستجدونها في حوزتنا.
لهذه الأسباب فإنهم يتجسسون ويتآمرون ويتربصون بمصر ويحرصون علي اختراقها لكن ماهو أسوأ من كل هذه الجرائم أنه ـ وعلي لسان كبار مسئوليهم خاصة الأمنيين منهم ـ يتباهون ويتفاخرون بما يحققونه من نجاحات في هذه الجرائم, فما ورد من اعترافات بهذا الخصوص علي لسان عاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية السابق ماهو إلا تأكيد لما جاء علي لسان آفي ديختر رئيس الأمن السياسي الشاباك الأسبق.
ففي معرض افتخاره بما حققوه في مصر التي وصفها بـ االملعب الأكبر لنشاطاتناب قال: إن العمل تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام.1979 فقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في اكثر من موقع ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متوترة متصارعة دائما ومنقسمة إلي أكثر من شطر من أجل تعميق حالة التمزق داخل بنية المجتمع والدولة المصرية لكي يعجز أي نظام يأتي لاحقا في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر.
هذا هو المطلوب: انقسام وتخلف ووهن وهم, يتباهون بما حققوه في هذه الميادين ـ ولعل هذا ماحفز آفي ديختر الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك ليقول في محاضرة عام2008 بمناسبة تركه الخدمة أن وجود إسرائيل في مصر قوي وأن هذا الوجود القوي يعتمد علي علاقاتنا المميزة مع شركائنا من رجال الأعمال وأصدقائنا من الاعلاميين المصريين.
هل يمكن أن يقال شيء آخر لنتأكد أنهم غير ملتزمين باتفاقية السلام.
الأسئلة المهمة والخطيرة كثيرة لكن أبرزها: هو كيف حققوا ذلك إن كانوا فعلا نجحوا في تحقيقه؟ هل من خلال التجسس التقليدي المتخلف علي شاكلة قضية الجاسوس طارق عبدالرازق, التي يسمونها في إسرائيل بقضية الفخ الهندي أم أن هناك أنواعا أخري عصرية من التجسس غير هذا التجسس التقليدي والمتخلف, أكثر فعالية وتأثيرا حسب اعترافات آفي ديختر عن مراكز قوة النفوذ الإسرائيلي في مصر؟
مفاجآت جوليان أسانج المنتظرة ربما تكون بمثابة بلاغات اتهام مباشرة ضد كل الذين خانوا مصر وتجسسوا عليها.
المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش