بقلم: د. علاء عبدالهادى
ربما كانت الممارسة النقدية هي السبيل الوحيد الي نقض اليقين الجمالي, وزعزعة الركود الثقافي الذي يتستر تحت مايسمي المحافظة علي التراث, وحماية التقاليد الأدبية والأصول الفنية العتيقة, وكأنها مقدسات لايجوز الاقتراب منها,
أو مخالفتها, الأمر الذي جعلها عبئا علي سياقنا الثقافي بدلا من أن تكون من أسباب تطوره, هذا علي الرغم من أن تراثنا العظيم الممتد يحمل في طياته الثمين الذي يجب المحافظة عليه ومساءلته وتمثله, كما يحمل في أثنائه الغث الذي يمكننا غض الطرف عنه, وإهماله وتجاهله.
لاتكون أية ممارسة نقدية فاعلة إلا إذا تمسكت بحقها في البحث عن ممكنات جمالية جديدة, وبحقها الآخر في مساءلة مايعتقده نقاد وشعراء تقليديون في أهمية بقاء القوانين الإبداعية الموروثة سائدة, لا يصح الاقتراب منها, أو تغييرها, علي الرغم من كونها مجرد تقاليد إبداعية تاريخية يمكن مجاوزتها, ومن المحال ان تظل صالحة علي ماهي عليه, لكل مكان وزمان. وقد دعم من رسوخ هذه المعتقدات الفنية, والتقاليد الأدبية التاريخية, التي قيدت الإبداع طويلا, طبيعة التلقي الأدبي الذي اعتاده جمهور القراء, بسبب ما خلقته الألفة فيهم, بالمكرور والمعروف, من اطمئنان وثقة, ويظل علي أية حال الوعي النقدي, مشكلة اجتماعية في الاساس, وهو وعي لايمكن دعمه علي أي مستوي, دون فتح الانساق المعرفية كافة, للبحث والمساءلة.
وكان من تجليات هذا السلوك النقدي السلفي وقوف فريق اكاديمي, ومعه فريق ابداعي تقليدي, لكنه مؤثر ليس بما يطرحه من ابداع, ولكن بما يحمله من مساحات صحفية, ونفوذ ادبي, موقف العداء من الاجتهادات الأدبية والنقدية الجديدة التي خاصمت آليات الاحتذاء, وطريق الكتابة المعتادة, الأمر الذي ساعد علي إقصاء كل مالا ينتمي الي شكول الأدب الابداعي التقليدي, شكلا وموضوعا, عن حياتنا الأكاديمية, لصالح أدب واهن متهافت علي المستوي الجمالي, قامت عليه( للأسف الشديد) دراسات أكاديمية كثيرة, حجبت الإبداعات الأدبية الجديدة, او الاجتهادات النقدية الجادة, في محيطنا الثقافي, فظل الإبداع الشعري والقصصي والدرامي الجديد في مصر بخاصة, والعالم العربي بعامة محلقا بعيدا عن خطابيه الاكاديمي والإعلامي اللازمين لإنعاشه.
وتجدر الإشارة هنا إلي أن كتلة كبيرة من النقود المنشورة في صحافتنا الأدبية, لا تزيد علي كونها متابعات متهافتة, ونقود مدرسية ركيكة, شارحة في أفضل أحوالها, لاتخلو من أحكام قيمة تأتي من خارج مايمليه النص, وقد تعتمد في أحيان كثيرة علي العلاقات الشخصية بين الناقد, والمبدع, بل تجاوز ذلك الي المدح المتبادل بين مبدعين مثلا, فنادرا ما تقع العين الآن علي نقود لا علاقة فيها بين الناقد والمؤلف سوي النص, كما كان سائدا في الماضي القريب. ويصعب علي الجانب المقابل أن نغض الطرف عن أن هناك الكثير من الدراسات النقدية التطبيقية الأكاديمية التي قامت علي اهمية المبدع الاعلامية, او الصحفية, بصرف النظر عن اهمية العمل الإبداعي ذاته, وهذا ما وسم مثل هذه الاعمال النقدية بسلوك انتهازي مشين, حمل فيه النجم ناقده, وقدمه الي جمهوره! هكذا اصبح جزءا من النقد الأكاديمي في جامعاتنا مهتما بالمبدع ومكانه, اكثر من اهتمامه بالإبداع ومكانته.أما علي مستوي الأداء النقدي في علاقته بالمنقول من النظرية النقدية المعاصرة, يلاحظ المتأمل لمشهدنا النقدي غفلة عدد كبير ممن يطلق عليهم نقاد الحداثة عن أطوار التخلق والتحول التي خضع إليها عدد من هذه المناهج, والنظريات, هذا فضلا عن جهل عدد منهم, وذلك من واقع كتاباتهم النقدية, وأمثلة هذه الكتابات أشهر من أن تعرف, بالتسلسل التاريخي للنظرية الواحدة, بالإضافة الي غفلة أكثرهم عن الأسس المعرفية, والفلسفة والسياقات الإبداعية التي صدرت عنها هذه النظريات المعاصرة, باستثناء قلة ممن تعلموا في الخارج, وهذا ماكان سببا في قطع الصلة بين النظرية النقدية في إطارها التجريدي والإجرائي, وجذورها الفكرية, في واقعنا الأكاديمي بخاصة, فإذا أضفنا الي ذلك وجود تشابكات داخلية عميقة علي مستوي المدرسة الواحدة, او علي مستوي المدارس النقدية المختلفة, في علاقات النظريات النقدية ـ تأثيرا وتأثرا ـ بعضها ببعض, والي ارتباطها بالخطاب الفلسفي الغربي الحديث, الذي أصبح مطلبا لا غني عنه لدارس النظرية النقدية المعاصرة امكننا ان نضع ايدينا علي سبب رئيس من أسباب هذا التخبط المعرفي في واقعنا النقدي, الذي أنتج سياقا ثقافيا أضعف الحوار العلمي الجاد بين نقاد القديم ونقاد الحديث من جهة وبين الخطابين. النقدي المعاصر والإبداعي المحلي من جهة اخري.
كما تجدر الإشارة الي أن جزءا من مشكلات واقعنا العربي النقدي, كان سببه كثافة المنقول عبر الترجمة, وسرعة تداوله في محيطنا النقدي دون تمثل أو درس, فقد زاد هذا الخطاب النقدي النظري الذي يدرسه في جامعاتنا عدد ممن يطلق عليهم نقاد الحداثة لطلابهم, دون ان يختبروه علي واقعنا الإبداعي من حدة مشكلاتنا الثقافية بدلا من ان يسهم في علاجها. وقد تعلمنا من أساتذة عظماء مصريين وغربيين أن الناقد الأكاديمي الحق يجب ان يحتك طويلا بمنهج يتمثله, تنظيرا ووعيا بأسسه الفلسفية والنقدية, وتطبيقا بعد ذلك, كي يتسني له الانتقال الي نظرية او منهج آخر, وهكذا, ذلك لأن الناقد لايزيد علي كونه طالب علم لايتوقف, ولا يكتمل أبدا, لأنه يراكم علي نحو مستمر, وعلمي, ودقيق, نظرية بعد أخري, واتجاها فكريا بعد آخر, تنظيرا وتطبيقا, بناء ونقضا, وهو سلوك قلما نجده الآن, في مشهدنا النقدي المصري المعاصر.
وفي هذا السياق, يطل علينا وجه آخر للمشكلة وهو الوجه المرتبط ببحوث النقاد الأكاديميين حديثي العهد بالعلم والتخصص, الذين قلدوا أساتذتهم في التعامل مع نظريات نقدية ومناهج لم يتمثلوها علي نحو صحيح, إما بسبب ضعف قراءاتهم الفلسفية, ووهن درايتهم بالأسس المعرفية والفكرية التي قام عليها عدد من هذه المناهج والنظريات, أو بسبب اعتمادهم مراجع ثانوية مترجمة في الحقل الذي يدرسون فيه, في ظل غياب لغة ثانية يطالعون بها هذه الاصول, فشهدنا عددا كبيرا من الدراسات الأكاديمية, في جامعاتنا المصرية, تدعي الطابع العلمي دون إجراءاته, وذلك من خلال رسائل علمية لاتجاوز في حقيقتها النقد الشارح القديم مكتوبا بلغة جديدة لاتخلو من خلل علي مستوي المصطلح, وخلط علي مستوي الاجراء والمنهج, وهذا ما أسفر عن عدد كبير من الدراسات المضحكةالتي أسهمت في ذيوع نقد متهافت لا قيمة له, وحجبت في الآن ذاته نقدا منهجيا وعلميا جادا, لم يحتل مكانه في الوسط الثقافي علي نحو قوي, بسبب ذيوع الأول وانتشاره, ربما كان القانون الاقتصادي الذي يقول ان العملة السيئة تطرد العملة الجيدة صحيح هنا ايضا, ولا يمكن حقا ان نغض الطرف عن التأثير السلبي للأمية الثقافية التي يعاني منها مجتمعنا, علي مكانة النقد وأهميته في مشهدنا الثقافي الراهن, وهذا مايفرض علي الدولة ان تضع علي سلم الأولويات سياسات ثقافية جديدة علي نحو استراتيجي تكاملي, بوصفها قضية مجتمع برمته, لا مهمة وزير أو وزارة.. وللكتابة بقية.
المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش