بقلم: د. طه عبد العليم
توافق مع فلسفة رجل مغامر استولي علي السلطة, وكان عليه أن يسيطر علي البلاد لكي يبقي في السلطة, أن يأخذ بمذهب الميركانتيلية, كما تقول وتبرهن عفاف مارسو في بحثها الرصين مصر في عهد محمد علي,
الذي نقله الي اللغة العربية الأستاذ عبد السميع عمر زين الدين, ونشره المجلس الأعلي للثقافة في عام.2004 أن محمد علي قد تبني مذهب الميركانتيلية. وقد آمن أتباع مذهب الميركانتيلية بوجوب تحقيق فائض تجاري, لأن الدول تصبح غنية إذا كانت تصدر أكثر مما تستورده, وإذا أصبحت مكتفية ذاتيا, ودعوا الي سيطرة الدولة علي مصادر ثروتها.
ولكن بقي التصنيع ناقصا في إنقلاب محمد علي الاقتصادي, ووفق إيمانه بمذهب الميركانتيلية, وهو نقص سعي مسرعا إلي علاجه. وفي سياق استراتيجيته للتصنيع, أنشأ محمد علي مجموعة متكاملة من الصناعات الجديدة المرتبطة بالجيش والأسطول, شكلت مجمعا صناعيا حربيا, ضم ترسانات وأحواضا لبناء السفن, ومصانع للأسلحة والذخيرة والمهمات ومستشفيات ومدارس..إلخ. وقبيل عام1481, كان لدي مصر جيش يزيد تعداده علي مائة ألف رجل. وتشير أرقام أخري, مثل تلك التي أوردها في اتقويم النيلب أمين سامي, إلي ضعف هذا العدد. وقد استهلك هذا الجيش الكبير إنتاج المصانع الجديدة في مجالات الأقمشة لإعداد الملابس الرسمية, والجلد لصنع الأحذية والسروج والمهمات, والأسلحة والبارود, والمدافع والسفن, وكل منتجات الترسانات وأحواض بناء السفن بالنسبة للوازمها من الأشرعة والحبال وألواح النحاس والمهمات المعدنية... الخ.
ونظرا لنشأته في إحدي الموانئ واشتغاله بالتجارة عشر سنوات, كان محمد علي عارفا بالحاجة إلي نقل البضائع بالبحر وتسليح السفن واستباق السفن الأخري إلي الموانئ, وكان يأمل أن يجعل منه أقوي أسطول في شرق البحر المتوسط, وأن ينتزع نصيب الأسد من التجارة. ومنذ بداية عهده كان بحاجة إلي سفن لنقل الجنود إلي الوجه القبلي لمحاربة المماليك, وسفن لنقل الحبوب إلي موانئ المتوسط من المناطق الداخلية. ودفعه الغزو البريطاني لمصر في عام1807 وحرب بالوكالة عن الخلافة العثمانبة في الحجاز إلي تطوير سلاح بحري وتوسيع أسطوله الحربي. كما دفعته التجارة الخارجية المتنامية الي التوسع في البحرية التجارية, متبعا السياسة الميركانتيلية التي دعت لأن يكون الشحن علي سفن محلية.
وكانت أوروبا, عشية ولاية محمد علي, تمر بثورة تكنولوجية بلغت ذروتها بالثورة الصناعية, وتحسنت تقنيات الإنتاج خاصة في مجال إنتاج النسيج. وفي ذلك الحين كان إنتاج الصناع الحرفيين المحليين قد تخلف كثيرا في سباقه للحصول علي أسواق له مع ظهور التكنولوجيا الغربية الجديدة, خاصة في مجال المنسوجات. وفي البداية كانت صادرات الحبوب المصرية تكفل أرصدة وفيرة تكفي لدفع قيمة أي واردات, وعندما تضاءلت مبيعات الحبوب صار من الضروري إيجاد سلع تجارية جديدة. وكان التجار البريطانيون, الذين يشترون الحبوب من مصر, قد قاموا بمضاعفة صادراتهم إليها ليدفعوا ثمن الحبوب, فأغرقوا البلد بالمنسوجات القطنية الرخيصة المعروفة باسم الموسلين الهندي. وتسبب تدفق هذه الأقمشة في انهيار الصناعات اليدوية المصرية, وهو ما أظهر لمحمد علي ضرورة إعادة تنظيم إنتاج صناعة المنسوجات.
وعلي نقيض دعاة مذهب التجارة الحرة, الذي ارتبط بالثورة الصناعية الظافرة في أوروبا, واستهدف توسيع السوق أمام منتجاتها, واتساقا مع مذهب الميركانتيلية, فرض محمد علي حظرا علي استيراد المنسوجات لمنع إغراق السوق المحلية بالأقمشة الأوروبية الرخيصة. وعندما قام محمد علي بابتزاز المزيد من الأموال, فانه خلافا لأسلافه من الحكام المماليك, وجه استثمارها إلي الصناعة, واستثمرها بداية في الصناعات الحربية, ثم اتجه إلي المنسوجات وغيرها من السلع المصنعة. وإذا كانت مصر قد عرفت الصناعات النسجية من الصوف والكتان منذ أقدم العصور الفرعونية, والصناعات النسجية من الحرير في العصور الوسطي, فقد بدأ محمد علي بتصنيع القطن أولا, وتلاه الحرير, بينما تأخر الصوف والكتان.
ورغم أن المنسوجات الصوفية لم تكن علي درجة عالية من الجودة, إلا أنها كانت متينة وجيدة الصنع ومناسبة للملابس العسكرية. وقد سلمت قطعان من الخراف إلي البدو لتربيتها من أجل صوفها, وفي عام1825, تم استيراد قطعان من ماعز كشمير ومعها رعايتها لتحسين إنتاج الأقمشة الصوفية. وبدأ إنتاج الحرير وكان الناتج قماشا من نوعية جيدة, وزرعت منطقة وادي الطليمات ومساحات في الفيوم وأسيوط بمليون شجرة من أشجار التوت لإنتاج الحرير. وكانت نتائج إنتاج الحرير مخيبة للآمال, علي الرغم من اجتلاب عائلات من الدروز من لبنان لتربية دود الحرير.
وكان إنتاج الكتان صناعة مصرية منذ عهد الفراعنة, واستمر العمال قائمين بالعمل في مجال الصناعات الريفية مع قيام النساء بعملية غزل خيوط الكتان في منازلهن, وفي عام1830, جري تنظيم الصناعة فأعدت سجلات لكل غازلي الكتان, الذين كان عليهم أن يسلموا كمية محددة في كل يوم. ثم يتم نسج الخيوط بعد ذلك في القاهرة. وكان يسمح للأفراد بالنسج في منازلهم مقابل دفع رسم عن كل نول. وكانت الصناعة توفر قماش أشرعة السفن والحبال والأقمشة الكتانية. وزعم كلوت بك أن القماش المطبوع في المبيضة ينافس المستورد من إنجلترا وألمانيا, بحيث أصبح الانخفاض في الواردات من هذه الأقمشة محسوسا. وهذا ما أكده ماكجرجور, الذي أورد قائمة بصادرات من الكتان.
وجاء التوسع في المنسوجات القطنية في وقت حدوث توسع مشابه في انجلترا, حيث تفجرت الثورة الصناعية علي أساس هذه السلعة ذاتها. ولم تأت القوة الدافعة لتصنيع القطن عقب اكتشاف القطن طويل التيلة كما كان يظن, وإنما قبل ذلك. ففيما بين عام1817 وعام1821 أقيم33% من وحدات آلات التمشيط, و70% من الأنوال و24% من المغازل. وأنشئت المؤسسات الصناعية الأولي في الدلتا حيث كان يزرع القطن, ولكن ابتداء من عام1827 أنشئت9 مصانع في مصر الوسطي ومصر السفلي. وقد أشار الجبرتي إلي أرباب الصنايع الواصلين من بلاد الإفرنج, وذكر بالاسم أنواع الآلات المختلفة التي وجدت في المصانع, مشيرا إلي أنها تتضمن آلات لم ير أبدا مثيلا لها أو سمع بها من قبل تقوم بنسج القطن والحرير. وربما كانت الآلات التي تدار بالبخار جزءا من الآلات التي ذكرها الجبرتي, إذ أن روسل قد أبدي ملاحظة في عام1818 حول مجئ مهندس للقوي المائية.
وأكد هيكيكيان في أربعينيات القرن التاسع عشر وجود31 مصنعا للقطن كانت تستهلك700 قنطار من القطن منخفض الجودة, ويعمل بها20000 عامل. وكانت تقديرات مصطفي فهمي أن المصانع استهلكت13.163 قنطارا من القطن حوالي عام1830, وهو ما يمثل ربع محصول القطن, وبنهاية العقد كانت المصانع تستهلك50.000 قنطار. ويمكننا بذلك أن نستنتج أن مشروعات الري المختلفة التي نفذت في البلاد كانت موجهة أساسا علي التوسع في مساحة الأراضي المزروعة بالقطن قصير التيلة. وعندما جاء الوقت الذي اكتشف فيه القطن طويل التيلة جوميل, كانت شبكة الري قد نظمت بالفعل, وسمحت بتوسع سريع نوعا ما في المحصول الجديد.
واستورد محمد علي التكنولوجيا الجديدة للمغازل التي تدار بالطاقة, ووفقا لفهمي لهيطة أقام مهندس بريطاني في عام1830 آلات بخارية لمصنع نسيج في شبرا ضم150 نولا, ومصنع أخر في قلعة الكبش ضم200 نول. كذلك استخدمت آلات بخارية لتقشير الأرز في رشيد, وفي مسبك بولاق. وفي عام1847 تحول مصنع الورق ليدار بطاقة البخار. وفي عام1841 كتب الوالي إلي مفتشه العام المختص بالمصانع يأمره أن يكثف الإنتاج بهدف إشباع مطالب الشعب بالكامل, وتجنب أي صادرات من الخارج, مع ما يستتبع ذلك من خروج رأس المال. ولم تعد مصر تستورد إلا المنسوجات القطنية والمنسوجات الحريرية والصوفية الفاخرة, وسرعان ما اكتسحت المنسوجات القطنية المصرية السوق المحلية, وصدرت الي البحر الأحمر والسودان وسوريا والأناضول, حينما أصبحت هذه المناطق جزءا من الامبراطورية المصرية!
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم
ساحة النقاش