بقلم: د. حسن أبو طالب
اننا نعرف اكثر من ذلك بكثير, لاتحتوي هذه الوثائق علي اي جديد بالنسبة للعراقيين الذين يعرفون الحقائق كلها. هذه جملة أحد العراقيين البسطاء علق بها علي ما احتوته الوثائق الامريكية التي نشرها موقع ويكيليكس,
وبلغ عددها04 الف وثيقة تسرد وتصف وقائع وجرائم يندي لها الجبين مارسها الجيش الامريكي بحق الشعب العراقي, كما تحكي وقائع وحدات الموت العراقية التي تشكلت في عهد حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي, والتي كان لها سجون خاصة تلقي فيها معارضيها من السنة وتعذبهم بلا رحمة, والتي تقول الوثائق أيضا أن هذه الوحدات طالما أؤتمرت بأوامر مباشرة من نوري المالكي نفسه, وأن الغالبية العظمي من ضحاياها كانوا من السنة العراقيين, وان عمل هذه الفرق تأسس علي مبادئ وأسس طائفية لنصرة الشيعة عامة وتثبيت القيادة لحزب الدعوة الذي يرأسه المالكي ومناصريه خاصة.
وتتضمن الوثائق الكثير مما يدخل في باب جرائم الحرب بامتياز, وتكشف حقيقة العلاقة الثلاثية بين الاحتلال الامريكي والنفوذ الدموي الايراني والقوي السياسية العراقية الجديدة الحاكمة, وهي علاقة تأسست علي نهب العراق ونشر الفوضي والخراب فيه, وتصفية الحسابات بالطرق الوحشية والاجرامية بحق الابرياء العراقيين.
ولذا فمهما يقال إن الوثائق لا تكشف جديدا أكثر مما يعرفه العراقيون وغير العراقيين أيضا, فهي في الحقيقة تقدم جديدا يجب التعامل معه بكل احترام, فهي توثق الجرائم وتعطي تفاصيل مختلفة ـ صحيح من وجهة نظر امريكية ـ لكنها تثبت حكايات مروية وشفهية لم يكن عليها دليل مادي, كما أنها توفر قرائن إدانة قوية بحق من استباحوا العراق وشعبه لاغراض خبيثة. والمسألة هنا ليست ما يعرفه العراقيون الذين عاشوا الرعب والصدمة والاحتلال والطائفية البغيضة والقيادات المريضة والنفوذ الايراني المذهبي والاستخباري العنيف والميليشيات المجرمة, بل ما تسطره هذه الوثائق من دروس للتاريخ الانساني كله.
التجربة العراقية مريرة لا شك في هذا, والعراق الذي يوصف بانه جديد يعد في ذاته دليل إدانة تاريخي لكل من أسهم في أنه يجعل هذا البلد المعطاء مجرد خراب وأطلال ومنطلقا للفوضي عربيا وإقليميا. إننا أمام أكبر عملية نهب استعماري تتم بتواطؤ قيادات محلية وقوة اقليمية كل يوم يتكشف وجهها الحقيقي الملطخ بدماء العراقيين العرب الشرفاء. ولا شك أن ضعف العرب وتشرذمهم وعدم قدرتهم علي لجم نظام صدام حسين, لما كان العراق شهد هذا المصير البائس.
نحن هنا امام دروس كبري, نجملها في ثلاثة اساسية لعلها تفيد كل هؤلاء العرب الذين يفوت عليهم الكثير من دروس التاريخ الحديث والواقع المعاصر.
الدرس الاول وهو ان الاحتلال في كل عصر وآوان هو احتلال لا يهمه مصلحة الشعوب المحتلة, ولا تهمه الشعارات البراقة التي يرفعها, والتي لا يصدقها الا السذج أو العملاء أو الجهال والمنافقون. الاستعمار تاريخيا استعمل نفس الاساليب وادعي الادعاءات نفسها, والتي حكم عليها التاريخ البشري بالفشل الذريع مهما طالت مدة الاحتلال, ومهما استهان بالشعوب المحتلة. الامريكيون كحالة احتلال في العراق ليسوا استثناء, ستنطبق عليهم حكمة التاريخ الانساني ولن تخيب. وما نراه اليوم من استعجال للانسحاب او في إعادة القوات التي هي الآن في حدود05 الف جندي هو مجرد بداية لحكم التاريخ بفشل الاحتلال حتي ولو كان من قبل أكبر قوة عسكرية في التاريخ الانساني كله.
الاحتلال الامريكي في العراق وكما هو مسطور في وثائق امريكية رسمية بالاساس, ومن قبل وزارة الدفاع التي تحرص علي توثيق كل كبيرة وصغيرة في مسارح العمليات أيا كان اتساعها, هو احتلال بغيض لا تهمه اراوح الناس ولا مقدرات بلدهم ووطنهم, ولا يعبأ بحمايتهم, ولا يصد عنهم غاز آخر دخل سرا أو علنا وعاث فسادا في الارض, ولا يحمي لأحد حرية أو حقوقا, ولا يمل من رفع شعارات كاذبة سواء عن الديمقراطية او الامن او اسلحة الدمار الشامل, ولا يهمه سوي زرع الفوضي والخراب واستمالة العملاء سواء كانوا افرادا عاديين او قيادات كبيرة. انه في الاول والأخير لا يأتي لحماية شعب ولا زرع حرية ولا يدافع عن مضطهد ولا يبني وطنا.
درس العراق, او بالاحري درس الاحتلال الأمريكي للعراق لابد ان يكون ماثلا امام أعين كل العرب وكل المصريين, لاسيما هؤلاء الذين يتصورون ان مشاكل وطنهم قد يحلها ضغط امريكي او انقاص من معونة او حملة إعلامية او تلويح باستجلاب تدخل خارجي.
الدرس الثاني يتعلق بالدور الايراني في العراق. وهو دور مؤلم ومحزن ودموي بكل المقاييس, ليس فقط لاستناده الي الطائفية كمعيار للتعامل مع العراقيين, بل لانه قدم نموذجا سلبيا بكل المقاييس لشعارات الاخوة الاسلامية والدفاع عن المظلومين ومواجهة الشيطان الأكبر. لم يعد هناك ما يمكن أن تخدع به إيران أي عربي شريف وواع بعروبته وإسلامه. لقد اتيح لإيران فرصة أن تقف مع المظلومين من العراقيين, ولكنها وظفت هذه الفرصة في ممارسة ابشع انواع التدخل الاسود, وفي تصفية حسابات تاريخية مع الشعب العراقي لاسيما سنته. لقد نظرت إيران للعراق كأرض مستباحة تفعل فيها ما تريد, ساعدها علي ذلك زمرة من القيادات التي جلبت الاحتلال الامريكي, وفتحت أبواب العراق علي مصراعيها لأكبر عملية قتل منهجي لشعب عربي في أقل مدي زمني ممكن. لقد انصاعت إيران لشهوة الانتقام الطائفي, ومولت كل الميليشيات وسلحتها جميعا, سواء ما انتظم من اجل الكفاح ضد الاحتلال الامريكي أو تشكل من اجل زرع الفتنة في نفوس الناس جميعا. مدت أيديها إلي كل العناصر, ولكنها يد انغمست بالدم والدمار.
لقد خدع بعض العرب ومازالوا مخدوعين بما يمكن أن تقدمه إيران للأمة العربية ولقضاياها. البعض رأي ان مناصرة إيران للقوي الثورية أو الجهادية الفلسطينية يكفي لتأييدها والصفح عنها. هؤلاء قايضوا مواقف إيرانية مرتبكة ومثيرة للانقسام بالدم العراقي الشريف. وكأن العراقيين ليسوا بشرا يحق لهم أن نقف معهم وننصرهم علي من يعيث فيهم فسادا وقتلا.
تقول إيران عن نفسها انها قوة ثورية ضد الاستكبار وضد الطغيان, وفي أول فرصة تثبت العكس, فهي نفسها قوة استكبار وفوضي ونهب لبلد جار. زرعت الاستخبارات في كل مكان كما زرعت الموت, وصفت كل من وقف ضد نفوذها, ومارست عملية انهاك منهجي للشعب العراقي ولثروته البشرية, اغتالت كثيرا من نخبته العلمية والعسكرية والثقافية والفنية, ومكنت الطائفية البغيضة من نفوس العراقيين, اشترت ذمما كثيرة لا تعد, وربطت مصالح الكثيرين بمواقفها وسياساتها. كل ذلك هدفه واحد أن يظل العراق اسيرا لنفوذها واستخباراتها, لعله يقع في النهاية أسيرا أبديا لنظام ولاية الفقيه.
اثبتت إيران انها دولة توظف كل الحيل والسياسات والادوات من أجل ان يبقي العراق في حال فوضي وتضارب في المصالح وبعيدا عن بيئته العربية الاصيلة. وما التأخير في تشكيل حكومة عراقية رغم مرور سبعة اشهر كاملة علي صدور نتائج الانتخابات, ومساندتها لنوري المالكي ضد علاوي, الا أحد تجليات النفوذ الايراني الدموي, ورغم وساطة الحليف السوري لكي ترفع طهران تحفظاتها عن علاوي لتستقيم الامور في البلاد, الا انها ترفض ان يكون هناك بديل للمالكي, الذي فتح أبواب البلاد جنوبا ووسطا لكل انواع النفوذ والتأثير الايراني.
وهنا نصل إلي الدرس الثالث, درس القادة المحليين الذين يرون انه يمكنهم إحداث التغيير الشامل في بلادهم من خلال التحالف مع الشيطان, متصورين أن هذا الشيطان ساذج ولا عقل له, وانهم سوف يستغلونه في ضرب خصومهم, وبعد ذلك سيترك لهم البلد بما حمل. هؤلاء القادة العراقيون المحليون هم جزء من مشكلة العراق من الآن وإلي خمسين عاما مقبلة. فهم بوابة الاحتلال ومنفذ الخراب الايراني وموئل التواطؤ علي الناس وعلي الموارد وعلي الحاضر وعلي المستقبل معا.
هؤلاءء القادة المحليون الذين باعوا انفسهم لقوة الاحتلال سواء في صورة قوة عظمي أو جار إقليمي طامع ومتحفز, يمثلون اكثر الامثلة سوءا علي نوعية القيادات التي يجب ان تلفظها المجتمعات العربية دون استثناء وفورا, انهم لا يتورعون كما في حالة العراق علي تعطيل المؤسسات ووقف تنفيذ اختيارات الشعب, ويناورون من اجل مصالح ذاتية وشخصية ضيقة ومصالح طائفية مدمرة, وكل همهم أن يبقوا في الحكم الذي حصلوا عليه بالعمالة للاجنبي.
الدروس الثلاثة لا تنطبق وحسب علي حالة العراق, بل تنطبق علي كل حالة احتلال وخذلان وتراجع عن التماس الحق مصحوبا بالكرامة. لقد قدمت وثائق ويكليكس فرصة كبري لكي يعتبر الجميع من دناءة الاستعمار ودناءة من يقبلون به ويناصرونه حتي علي دينهم ووطنهم وشعبهم.
المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش