بقلم: د. طه عبد العليم
لقد صنع المصريون محمد علي, تماما كما كان صانع مصر الحديثة.. هذه نقطة البداية الصحيحة في أصول إعادة زيارة تاريخ مصر العلوية, وهو ما سجلته عفاف لطفي السيد مارسو في كتابها الفريد' مصر في عهد محمد علي'.
لكن مصر لم تكن بلدا بلا سيد, كما يقول عنوان الفصل الثالث بالكتاب, فقد كان موجودا السيد.. عمر مكرم, زعيم المصريين في ثوراتهم ضد الحملة الفرنسية وهباتهم ضد المماليك, والأهم أنه زعيم ثورتهم, التي فرضت محمد علي واليا علي مصر. والتفسير باختصار, انه لم يكن قد آن الأوان بعد لميلاد الوعي بالهوية الوطنية, والذي تجلي برفع شعار مصر للمصريين خفاقا في زمن الثورة العرابية!
وقد أسهم محمد علي في بعث هذا الوعي بالهوية الوطنية المصرية, وإن بغير وعي منه وعلي غير إرادته, وخاصة بتجنيدهم في الجيش والأسطول وإيفاد نجباء منهم مع بعثاته العلمية, كما يتضح من إعادة زيارة تاريخ مصر العلوية, التي أبدأها هنا بعرض قصة صناعة مصر والمصريين لمحمد علي, بدءا بفرضه واليا. وببساطة, فان المصريين, بعد قرون طوال من الإنضواء تحت لواء الخلافة الإسلامية, رأوا في محمد علي مسلما مثلهم, وإن كان أجنبيا, بديلا جاهزا يحررهم من البكوات المماليك, الذين قادوا وطنهم الي فوضي عارمة وخراب كامل. ولا جدال أن مسحة شبه وطنية قد غلفت ثورات المصريين ضد المماليك, الذين بقوا طبقة حاكمة أجنبية. لكن القطيعة الكاملة بين الحكام والمحكومين لم يكن قد آن أوانها بعد, حتي جاء الاحتلال الفرنسي مع حملة نابليون, فكان فشل المماليك في أداء واجبهم بحماية البلاد من الغزو, وهو مبرر وجودهم الوحيد, أخر مسمار في نعشهم!
ونقرأ في كتاب مارسو أن السلطات العثمانية أمرت مدينة' قوله' الألبانية بإمدادها بثلاثمائة رجل لينضموا إلي الكتيبة الألبانية, التي كانت تشكل جزءا من القوات العثمانية المبحرة إلي مصر, لطرد الفرنسيين. وقد عين محمد علي معاونا لقائد القوة الوافدة من' قوله', ومعها نزل محمد علي الي بر مصر حيث رست في8 مارس1801, وسرعان ما ناور بمواهبه ليصل إلي مركز في قمة قيادة قوته. وكان عام1803/1802 سيئا بالنسبة للمصريين, حيث تبددت آمالهم في الأمن بوصول الجنود العثمانيون, قطاع الطرق الجدد, الذين اعتبروا مصر بلدا لا سيد له, ومهيأ للاستلاب. وبعد أن رحب المصريون بهم في أول الأمر باعتبارهم محررين! بلغ الشعور بالمرارة تجاه المحتلين الجدد أن المصريين, الذين خاضوا ثورتين وطنيتين باسلتين لتحرير البلاد من الفرنسيين' الكفرة', أبدوا أسفهم علنا علي أيام الاحتلال الفرنسي!
وفي هذه الظروف رفعت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية بمحمد علي إلي موقع السلطة, ومكنته مواهبه الذاتية من إنجاز باقي المهمة! ولنتذكر أن عدد المصريين كان قد تقلص الي نقطة الإنحطاط الأدني, بسبب الفوضي والجوع والظلم والمرض والموت, حتي انخفض من نحو عشرة ملايين نسمة الي نحو مليونين ونصف مليون نسمة! وكان والي مصر' خسرو باشا' جشعا ودمويا وفاشلا, فرض ضرائب متعسفة وغير معقولة علي شعب أوشك علي الهلاك, ودفع الي العصيان الجنود الألبان, الذين كانوا يشكلون الحجم الأكبر من الجيش العثماني, بأن تأخر شهورا في دفع مرتباتهم, وهو العصيان الذي يرجح أن يكون محمد علي قد شجع عليه. وقام' طاهر باشا', قائد القوات الألبانية, بالاستيلاء علي مقر الحكم في القلعة ووجه المدافع إلي قصر الوالي, ووصل فرمان سلطاني بتعيينه واليا جديدا, وكان بدوره قاطع طريق مولعا بالقتل, حتي أنه قتل لفظاعته علي يد اثنين من' الإنكشارية' بعد أسابيع ثلاثة من ولايته!
وكان محمد علي قد أصبح قائدا للقوات الألبانية, ودخل طرفا في سلسلة تحالفات مؤقتة وصراعات طائفية, أدت في النهاية للارتفاع به إلي مرتبة المتنافس علي ولاية مصر. وكانت القاهرة في عسر شديد تتهددها المجاعة, حيث احتكر المماليك سوق الحبوب وقاموا بتخزين المواد التموينية, وقد اعترض' البرديسي' بك علي هذه الإجراءات وأصدر أمره إلي محمد علي بأن يقتحم مخازن الحبوب ويوزعها علي الأهالي, ونال محمد علي فضل القيام بهذه الخطوة! وفي27 فبراير1804, انفجرت حركة تمرد عسكرية مرة أخري بين صفوف الجنود الذين طالبوا بمرتباتهم المتأخرة, ففرضت ضريبة باهظة علي الأهالي, الذين ثاروا وانطلقوا إلي الشوارع مرددين شعارهم الشهير:' إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي!' وأرسل محمد علي رجاله ليمنعوا الجنود من أعمال السلب والنهب, وأخذ نجمه يسطع خاصة حينما أجبر' البرديسي' علي إلغاء الضريبة. وفي خطوة تكتيكية بارعة أعلن محمد علي' إن رواتبنا علي الميري وليس علي الناس', وقال بمكر' ادفعوا للجنود من خزانتكم ولا تضغطوا علي رعاياكم. وبموقفه هذا أظهر للعلماء والأعيان, زعماء المصريين, أنه لا يخشي أن يعلن تضامنه مع الشعب وأنه معاد للمماليك! وبدا لهم البديل في رجل قوي, مثل' علي بك الكبير' لديه قوات تدعمه, ينهي الفوضي التي عمت البلاد, وكان هذا الرجل هو محمد علي! وقد قامت قواته الألبانية بطرد المماليك من القاهرة, ونسب اليه فضل الخلاص منهم. وسعي محمد علي بدوره إلي المزيد من التقرب إلي زعماء المصريين, وبصفة خاصة إلي السيد عمر مكرم نقيب الأشراف, بما انفرد به من صفات قيادية قوية وعدم الرهبة من تحمل المسئولية.
وخلف محمد علي ضد الذين يملكون, اصطف الصناع الحرفيون, الذين فقدوا أعمالهم نتيجة لنقص المواد الأولية المستوردة, واستلب منهم الجنود الأتراك أرزاقهم! كما اصطف الأعيان والعلماء والتجار بقيادة السيد' عمر مكرم' في مواجهة ما أحسوا أنه خطر مشترك: انهيار الأمن العام, وفوضي الحكم الشاملة, وانهيار التجارة بعد أربع سنوات من الحرب الأهلية وثلاث سنوات من الاحتلال الأجنبي. وكان الابتزاز المالي والقروض القهرية قد ألقت عليهم, وعلي الأهالي معهم, عبئا ثقيلا ناءوا بحمله! وأما محمد علي فقد كان يريد منصب والي مصر, بقبول شعبي وبتأييد النخبة, لإجبار الباب العالي علي ابتلاع ما ليس سائغا له, ولأنه كان يعلم أن أمامه أياما صعبة تجعله بحاجة إلي تعاون الأعيان.
ولم يكن محمد علي بحاجة لأن ينثر بذور الثورة لأن الأتراك قد تكفلوا بذلك بأنفسهم, وكان, ببساطة, يستفيد من أخطائهم. وكانت حماقة الوالي, وعجزه عن توفير النظام والأمن وابتزازه للأموال, قد أجبرت أعيان القاهرة تسليمه إنذارا كانوا يعلمون أنه لن يقبله. وأخيرا, وفي يوم12 مايو1805, ودون إطلاق رصاصة واحدة, قامت ثورة حقيقة حين أجمع المصريون شعبا وقيادة علي إقصاء خورشيد باشا, والمناداة بمحمد علي واليا علي مصر. ويسرد' الجبرتي' بكلماته ما قاله العلماء للأخير: لا نرضي إلا بك واليا علينا.. بشروطنا.. لما نتوسمه فيك من العدالة والخير! وامتنع أولا, ثم رضي, فألبسه الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر قفطانا كإجراء رسمي بتقلده الولاية! وحين تم إبلاغ الوالي العثماني المحاصر في القلعة, رد' إنني مولي من قبل السلطان فلا أعزل بأمر الفلاحين', فكتب العلماء إلي الباب العالي يلتمسون تعيين محمد علي واليا علي مصر نزولا علي إرادة الشعب, ولم يكن لدي العثمانيين الكثير ليفعلوه, فصدق الباب العالي علي اختياره اعتبارا من18 يونيو. وتبدأ الخطوة الأولي نحو بناء مصر الحديثة تحت حكم الأسرة العلوية.
وللحديث بقية.
[email protected]
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش