دراسة في "ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد المعداوي
قراءة تحليلية للتطور التدريجي في الشعر الحديث
٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧بقلم أحمد اتزكنرمت
1 ـ المضمون الفكري لمدخل الفصل الأول: الشعر العربي بين التطور والتطور التدريجي:
يؤكد أحمد المعداوي أن حركة تطور الشعر العربي مرهونة بتوفر شرطين أساسيين هما:
1. الاحتكاك الفكري بالثقافات والآداب الأجنبية:
وقد تحقق شرط الاحتكاك الفكري في الشعر العربي منذ العصر العباسي والأندلسي فأثمر تجارب المتنبي وأبا نواس والمعري وبشار ابن برد المتميزة، كما تحقق هذا التطور فنيا في شعر الموشحات الأندلسية على مستوى الإيقاع العروضي، أما العصر الحديث فأثمر تيارات تتفق على الخروج بالشعر من إطار التقليد إلى حدود التجربة الذاتية.. وفي هذا الصدد يقول أحمد المجاطي:" غير أنه لابد من القول بأن الشاعر العربي لم يكن يتمتع من الحرية بالقدر المناسب، ذلك أن النقد العربي قد ولد بين يدي علماء اللغة، وأن هؤلاء كانوا أميل إلى تقديس الشعر الجاهلي، وأن المحاولات التجديدية التي اضطلع بها الشعراء في العصر العباسي، لم تسلم من التأثر بتشدد النقد المحافظ. لا، بل إن هذا النقد هو الذي حدد موضوع المعركة، واختار ميدانها، منذ نادى بالتقيد بنهج القصيدة القديمة، وبعدم الخروج عن عمود الشعر، فأصبح التجديد بذلك محصورا في التمرد على هذين الشرطين، وفي ذلك تضييق لمجال التطور والتجديد في الشعر العربي."
2. التوفر على قدر من الحرية كي يعبر الشعراء عن تجاربهم :
إلا أن غياب شرط الحرية ضيق مجال التطور في الشعر العربي خاصة عند هيمنة علماء اللغة على النقد الأدبي فقدسوا الشعر الجاهلي، وجعلوا من القصيدة الجاهلية المثال والنموذج المحتذى. مما فرض على تيارات التجديد التدرج في تطوير الشعر العربي. وقد عرف الشعر العربي الحديث حركات تجديدية كثيرة ارتبطت:بنكبة فلسطين وهزيمة 1967 التي زعزعت الوجود العربي التقليدي ، وفسحت مجالا واسعا للحرية ، مما فسح المجال لظهور حركتين تجديديتين في الشعر العربي الحديث:
حركة اعتمدت التطور التدريجي في مواجهة التقليد (التيار الذاتي: الديوان، الرابطة القلمية، جماعة أبولو).
حركت ظهرت بعد انهيار التقليد وكان التجديد عندها قويا وعنيفا يجمع بين التفتح على المفاهيم الشعرية الغربية ،والثورة على الأشكال الشعرية القديمة، بغرض التعبير عن مضامين نجمت عن معاناة الشاعر وواقعه الذي تشكل هزيمة 1967 ونكبة فلسطين 1947 سمته العامة إضافة إلى الشعور بالاغتراب في عالم بدون أخلاق (الشعر الحر).
2ـ المضمون الفكري للقسم الأول من الفصل الأول: نحو مضمون ذاتي
يرى المعداوي أن الاتجاه إلى الذاتية جاء بمثابة رد على الحركة الإحيائية، التي اتجهت نحو محاكاة الأقدمين دون أن تولي ذات الشاعر أهمية كبرى، ووقفت وراء هذا الاتجاه جملة من العوامل والأسباب:
عوامل تاريخية: امتداد الرغبة في التطوير عبر العصور. اتساع مجال التفتح على ثقافات الأمم الأخرى.
عوامل فكرية : التشبع بالمفاهيم الشعرية الغربية.(عمل مؤيد) هيمنة علماء اللغة على النقد العربي .(عامل معارض)
عوامل سياسية : ـ غياب الحرية فرض وثيرة التدرج في تطور الشعر العربي.(عامل معارض) ـ نكبة فلسطين شجعت على التحرر والثورة بكل قوة وعنف.(عمل مؤيد)
عوامل اجتماعية: التشبث بالوجود العربي التقليدي المحافظ.(عامل معارض)- انهيار عامل الثقة في الوجود العربي التقليدي. (عمل مؤيد)
1. التيـــــار الإحيـــــائي:
يقوم التيار الإحيائي في الشعر العربي الحديث على محاكاة الأقدمين وبعث التراث الشعري القديم وإحياء الشعر العباسي والشعر الأندلسي لنفض رواسب عصر الانحطاط ومخلفات كساد شعره عن طريق العودة إلى القصيد العربية في عصر ذروتها وازدهارها، فعارضوا لغة القدماء وأساليبهم البيانية واقتفوا آثارهم في المعاني والأفكار مهما اختلفت موضوعاتهم ومناسباتها.
ومن أهم الشعراء الذين تزعموا هذا التيار محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومحمد الحلوي ومحمد بن إبراهيم، فعاشوا على أنقاض الماضي والتوسل بالبيان الشعري القديم وبعث اللغة البدوية ؛ ومن ثم، كانت نقطة التحول / التجديد الأولى في الشعر العربي الحديث تقليدية التفتت إلى التراث أكثر مما التفتت إلى ذات الشاعر وواقعه.
غير أن شعار العودة إلى الماضي سرعان ما أزيح ليقوم مقامه شعار آخر، هو البحث عن الذات الفردية وتوكيدها، فترك الإحيائيون الباب مفتوحا في وجه التيار الجديد الذي ولد في أحضان هذه الدعوة وجعل الاستجابة لنوازع الذات شعاره الأول.
2. الـتيار الـــذاتــي:
بدأ الاتجاه على الذاتية مع جماعة الديوان عباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، وعبد القادر المازني)، لكنه لم يكتمل إلا مع جهود الرابطة القلمية في المهجر( إيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي…) وجماعة أبولو( أحمد زكي أبو شادي، وأحمد رامي،وأبو القاسم الشابي، ومحمود حسن إسماعيل، و عبد المعطي الهمشري، والصيرفي، وعلي محمود طه، وعلي الشرنوبي، ومحمود أبو الوفا، وعبد العزيز عتيق…) في أواخر العقد الأول من القرن العشرين لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
أ- جماعة الديوان:سميت بهذا الاسم نسبة إلى الكتاب الذي اشترك في تأليفه عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني عام 1921"الديوان في الأدب والنقد"، ولم يشارك فيه عبد الرحمان شكري لخصومة بينه وبين المازني. وقد حرصت هذه الجماعة في دعوتها على التجديد، من خلال استيفاء القصيدة الشروط التالية:
أن تكون معبرة عن وجدان الشاعر ومجسدة لصدقه ومعاناته.
أن تتسم بالوحدة العضوية وتنوع القوافي
أن تعتني بتصوير جواهر الأشياء، وسبر أغوار الطبيعة وتأمل فيما وراءها.
أن تتجنب التشبيهات الفارغة وأشعار المناسبات والمدائح الكاذبة ووصف الأشياء والمخترعات إمعانا في التقليد. وكان الشعر، في نظر رواد جماعة الديوان، وجدان وأضفى عليه كل واحد منهم معنى خاصا تجنبا لإنتاج شعر متشابه في وسائله وغاياته، وسعيا إلى التفرد والاختلاف:
العقاد: عد الوجدان مزيجا من الشعر، وهذا ما جعله يميل في شعره على التفكير.
شكري: اعتبر الوجدان تأملا في أعماق الذات إلى حد تجاوز حدود الواقع، وهو ما على تجنب العقل المحض، وتأمل ما يجول في أغوار ذاته الكسيرة، والبحث عن بواعث شقائه وألمه.
المازني: كان الوجدان عند كل ما تفيض به النفس من أحاسيس وعواطف، وهذا ما جعله يعبر عن انفعالاته بشكل عفوي وبصورة طبيعية، أي دون تدخل العقل أو توغل في أعماق النفس.
ب- جماعة الرابطة القلمية: هي إحدى الجمعيات الأدبية التي أسسها الأدباء العرب(جبران خليل جبران - ميخائيل نعيمة-ندرة حداد-إيليا أبو ماضي- نسيب عريضة… ) المهاجرون في أمريكا عام 1920، للتواصل فيما بينهم، ولتقديم رؤية جديدة للشعر العربي، استمر نشاط الرابطة عشرة أعوام، وكان أعضاؤها ينشرون نتاجهم الأدبي في مجلة "الفنون" التي أسسها "نسيب عريضة"، ثم في مجلة "السائح" لعبد المسيح حداد، وقد توقف نشاط الرابطة بوفاة مؤسسها وتفرق أعضائها.
سعت الرابطة القلمية إلى تحقيق ما يلي:
بث روح جديدة في الأدب العربي شعرا ونثرا.
محاربة الجمود والتقليد.
تعميق صلة الأدب بالحياة.
الانفتاح على الآداب العالمية.
كما وسَّعت الرابطة القلمية مفهوم الوجدان ليشمل كل ما ينبثق عن الذات من حياة وكون، وعلى هذا النحو اعتبروا الوجدان بأنه نفسٌ وحياة وكون.وعندما نتمعن في شعر الرابطة القلمية لا نجد شيئا من ذلك التلاؤم بين النفس والكون، بل نعاين مكانه هروبا من الوجود، اكتسى ألوان مختلفة عند كل شاعر على حدة:
جبران خليل جبران: هرب إلى عالم الغاب والطبيعة لتفادي كل ما يمكن أن يعكر صفو حياته، وآثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة.
ميخائيل نعيمة: انقطع إلى تأمل ذاته بطريقة صوفية.
إيليا أبو ماضي: لما فشل في تحقيق مبتغاه متوسلا الخيال تارة والقناعة تارة أخرى، اضطر إلى الفرار من الناس ومن الحضارة أسوة بجبران.
ج- جماعة أبولو: اتخذت هذه الجماعة من أبولو إله الفنون والعلوم والإلهام في الأساطير اليونانية اسما لها، وكانت لها مجلة تحمل الإسم نفسه، ورغم أن هذه الحركة (1932-1936) لم تعم طويلا، فقد تركت آثارا كثيرة. يرجع الفضل في تأسيسها إلى زكي أبو شادي ومطران خليل مطران و إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وزكي مبارك وأحمد محرم.
كانت أغراض هذه المدرسة هي:
السمو بالشعر العربي وتجديده.
مناصرة النهضات الفنية في عالم الشعر.
تحسين الوضع الاجتماعي والأدبي والمادي للشعراء والدفاع عن كرامتهم.
تعميق الاتجاه الوجداني والانفتاح على الغرب، واستلهام التراث بأسئلة جديدة وبطرائق خلاقة.
إن ما اعتنى به شعراء هذا التيار هو الشعر الذاتي الذي يدور حول المرأة وما يثيره الحديث عنها من معاني(الحنين والشوق، اليأس والأمل، الارتماء بين أحضان الطبيعة والزهد في الحياة، مواجهة الحياة والاستسلام للموت)، مما جعل الحياة عندهم تتراوح بين السعادة المطلقة والشقاء المطلق. ولكل شاعر من شعراء هذه الحركة طريقته الخاصة في الكشف عن مجهولات ذاته:
زكي أبو شادي: انكفأ على ذاته لتضميد جراحها والتغني بآمالها، إلى أن طغت ذاتيته على شعره، بل وطغيانها حياته كلها.
إبراهيم ناجي: يدور أجود شعر حول المرأة لحاجته إلى حب يملأ فراغ قلبه.
حسن كامل الصيرفي: فشل في الحب فيئس من الحياة وانكمش على الذات والتغني بأحزانها وآلامها.
أبو القاسم الشابي: هام بالجمال وعشق الحرية بسبب مرضه وإحساسه بانفراط عقد حياته.
عبد المعطي الهمشري: ولع بالطبيعة واستشرف ما وراء الحياة من خلال الموجودات.
علي محمود طه: تغنى بمظاهر البهجة والسرور منغمسا في متع الحياة.
وهذا ما دفع محمد النويهي ليقول فيهم:"لقد أغرقوا فيشعرهم العاطفي حتى أصيب بالكظة، وزالت جدته، وفقد بالتكرار معظم حلاوته وتحولت رقته إلى ميوعة، وإرهاف حساسيته إلى ضعف ومرض"
3- المفاهيم والمصطلحات النقدية للقسم الأول من الفصل الأول: نحو مضمون ذاتي:
المفاهيم والمصطلحات الإحيائية
لغة صلبة وصارمة
الحنين إلى الصحراء
تسمية اشياء الواقع
العاطفة المتأججة
زخارف
أصباغ
التدبيج
تقديس القديم
انتظام القافية الموحدة
البعث
المحافظة
المفاهيم والمصطلحات الذاتية
وجدان
تجربة جديدة
القصيدة الوجدانية
صورها البيانية
إيقاعاتها الموسيقية
السهولة
الليونة
حديث مألوف
قرب لغة الشعر من لغة الحديث
حديث مألوف
الوحدة العضوية
تنوع القوافي
اختلاف الأوزان
تغير العواطف والأفكار
التيار الذاتي
شعور
النفس
العواطف
خيبة الأمل
تتواتر المصطلحات الوجدانية بكثرة لكونها تشكل عماد الفصل وقوامه، وتدور حول موضوع الحركات التجديدية التي عرفتها حركة تطور الشعر العربي الحديث، وتشكل هذه المصطلحات القاعدة التي ارتكز عليها الوجدانيون لتطوير القصيدة الحديثة. وفي مقابل المصطلحات الوجدانية نجد تواترا أقل للمصطلحات الإحيائية بشكل يساعد على عقد مقارنة بين الشعر الإحيائي والوجداني بهدف إبراز تباينهما وتمايزهما من جهة، وبيان ما تحفل به القصيدة الوجدانية من سمات فنية جديدة لم تكن معهودة في القصيدة القديمة من جهة ثانية.
4 - القضايا النقدية :
التجربة الذاتية: تأسست التجربة الذاتية في الشعر العربي على رفض التقليد باعتباره نفيا للشاعرية، ونفيا لصدق الشاعر، إضافة إلى الدعوة إلى التجديد وإرساء دعائم توجه أدبي يقوم على الذات في أبعادها الوجدانية والنفسية، مما استدعى من الشاعر الرومانسي أن يجدد القصيدة شكلا ومضمونا باستلهام الأدوات المناسبة (الصور البيانية والإيقاعات الموسيقية)من التجربة نفسها، فاستعمل لغة سهلة بسيطة تقترب من لغة الحديث المألوف واستمد قاموسه من الطبيعة والوجدان، وغير من رتابة القافية المتكررة، وأدخل البناء القصصي الطافح بمشاعر الغربة والكآبة والحزن والإحساس بعواطف الحب والإنسانية .
التصوير البياني: يعمد الشاعر الوجداني إلى التصوير البياني للتعبير عما تعجز عنه الأساليب اللغوية المباشرة من أفكار وعواطف، فيستمد صوره من تجربته المعيشة، ومنسجمة مع رؤيته للوجود، خلافا للشاعر الإحيائي الذي يمتح صوره من معين الذاكرة وبهدف الزخرفة والحلية الشكلية.
تنوع القوافي واختلاف الأوزان: لقد حتمت الأفكار المتغيرة والعواطف المتموجة على الشعر الذاتي تنويع القوافي وتغييرها، لبواعث عاطفية وموضوعاتية، وهو بذلك يؤكد علاقة القافية بالمعاني والعواطف المتبدلة.
خيبة الأمل: على الرغم مما حققته القصيدة الحديثة من مكاسب تجديدية مع الشعراء الوجدانيين على مستوى الشكل، فإنها لم تسلم من النقد اللاذع للمحافظين الذين لم يستسيغوا أن يمس التجديد ما يعتبرونه مقدسا متوارثا خاصة اللغة وتشكلاتها الإيقاعية ، وهذا ما جعل الحرب مفتوحة على المجددين وعجلت بتراجع كثير منهم عن آرائهم التجديدية وشعورهم بخيبة أمل (أبو شادي - صالح جودة).
5- طرق العرض:
سعى أحمد المعداوي إلى إثبات نتيجة واضحة مفادها تغير شكل القصيدة العربية مع الاتجاه الوجداني معتمدا على بناء حجاجي نجمل ملامحه في ما يلي:
التدرج من العام إلى الخاص أو الاستنباط: فبعد أن صرح الكاتب بالنتيجة التي يود بلوغها، يضطلع بتفسيرها وتعليلها منتقلا من العام المرتبط بشكل القصيدة الوجدانية إلى الخاص متمثلا في ما يميز القصيدة الإحيائية مستعينا بالحجج والأمثلة المناسبة (أبيات شعرية_ أقوال النقاد_ المعطيات التاريخية والأدبية - مكامن القوة )
المقارنة: عمد المعداوي إلى مقارنات كثيرة بين المدرستين الإحيائية والوجدانية ، حتى يقف على ما بينهما من تمايز واختلاف، للتدليل على تفرد القصيدة الوجدانية وجدتها .
الشواهد والأمثلة: علل الناقد كثيرا من آراءه وأفكاره بأقوال نقدية وأبيات شعرية لإثبات قضية أو ظاهرة معينة، حرصا منه على الأمانة العلمية والموضوعية.
6- المنهج النقدي:
اعتمد المجاطي على المنهج الاجتماعي التاريخي، رصده جملة العوامل التاريخية التي أسهمت في تكون الاتجاه الرومانسي ونسج تصوره الشعري، إلى جانب رصده للظروف الاجتماعية التي أسهمت في تكون التيارات التجديدية، وحفزت الشعراء الوجدانيين على العودة إلى ذواتهم والتغني بأحزانها وآلامها، وفي هذا السياق ينعت المعداوي مضامين الشعر الوجداني بالضعف، لكونها لم ترق إلى مستوى تشخيص معركة الوجود التي تخوضها الجماهير الشعبية، مكتفية بالبكاء والنباح والشكوى.
ساحة النقاش