بقلم: د. طه عبد العليم
ارتكزت إعادة تقدير المواقف وتغيير اتجاهات الحركة خلال السنوات الفاصلة بين انكسار يونيو وانتصار أكتوبر الي رفض الشعب المصري والشعوب العربية الاستسلام لأهداف العدوان الإسرائيلي.
ويكشف تحليل اتجاهات مراجعة السياسات المصرية, أن ما كان تغييرا تكتيكيا ومؤقتا عند عبد الناصر كان تحولا استراتيجيا واختيارا للسادات, والعكس صحيح, لأن ما كان استراتيجيا للأول صار تكتيكيا للأخير! وفي الحالتين, تبين القراءة الموضوعية أن التغيير ثم التحول في السياسات هو ما قاد مصر للتحول من الهزيمة المريرة الي حرب الإستنزاف في عهد عبد الناصر, ثم مكنها من خوض حرب أكتوبر واستثمار سياسيا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لسيناء في عهد السادات.
وأعترف بأنني لم أستوعب اعتراف عبد الناصر بمسئوليته الكاملة عن هزيمة يونيو1967 إلا بعد قراءة كتاب الإنفجار الموثق للأستاذ محمد حسنين هيكل, وهو آخر من يمكن اتهامه بعدم إنصاف عبد الناصر. وتكفي الإشارة هنا الي أن الطريق قد صار مفتوحا لتنفيذ مؤامرة' اصطياد الديك الرومي', بشن العدوان المبيت علي مصر في5 يونيو1967, حين أصدر عبد الناصر قراراته غير المحسوبة والمغامرة بطرد قوات الطواريء الدولية وإغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. ويتبين من الكتاب ووثائقه أن مراجعة عبد الناصر لسياساته, الداخلية والعربية والدولية, ورغم كل الروح العملية والمرونة التي تحلت بها حركته, فإن استراتيجيته لم تتحرر من قيودها التاريخية والأيديولوجية والذاتية.
وهكذا, في السياسة الداخلية, كان إعداد الدولة للحرب, بإعادة بناء ثقة القوات المسلحة في ذاتها, وإعادة بناء الثقة بين الجيش والشعب, وتغيير قيادات القوات المسلحة وفق معايير الكفاءة والوطنية والاحتراف العسكري والقدرة القيادية والقتالية, وإعادة بناء القوات المسلحة بإعادة تنظيمها وتسليحها وتدريبها, وتمكين المخابرات العامة والحربية من ممارسة دورها الوطني الأصيل والمشهود في المعركة. وهكذا, برغم مرارة الهزيمة وتحت نيران حرب الاستنزاف وعلي طريق أكتوبر, وتحت شعار' أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة', تحقق وعد ثورة يوليو ببناء جيش وطني قوي, وهو ما جسده شن حرب الاستنزاف الباسلة بعد شهور من الهزيمة. كما مثلت حلقات حاسمة, علي طريق إعداد الجبهة الداخلية لخوض حرب تحرير التراب الوطني المصري, سياسات تعبئة القدرة الاقتصادية الوطنية اللازمة للدفاع والتحرير, ومواصلة التنمية والتصنيع تحت شعار' يد تبني ويد تحمل السلاح', والعمل علي استقرار أسعار السلع الأساسية, وتعزيز القطاع العام مع حفز القطاع الخاص, وإصدار بيان30 مارس استجابة للمطالب الجماهيرية بالمكاشفة والمشاركة والحريات وإن بقيت قيود الشعار الوطني' لا صوت يعلو فوق صوت المعركة'.
وبرغم تراجع هيبة عبد الناصر ومكانة مصر بسبب الهزيمة, فقد وقف شركاء مصر, عالميا وعربيا, متضامنين معها ومقدمين ما في قدراتهم ومصالحهم لما طلبته من سلاح ومال وغير ذلك من عون.
وعربيا, أعطي استقبال الشعب السوداني التاريخي للرئيس عبد الناصر في الخرطوم دعما سياسيا مكنه من الدفاع عن مواقف مرنة تمكنت من رأب الصدع في الصف العربي بإنهاء الحرب الباردة العربية- العربية, بين ما سمي' النظم التقدمية' و'النظم الرجعية'. وبرغم حرصه علي العمل المشترك مع' النظم الثورية', وقف عبد الناصر ضد الذين طالبوا بقطع البترول العربي وسحب الأرصدة العربية, مدركا إستحالة هذا عمليا خاصة بعد توقف القتال وأن إعادة التسليح وفقدان موارد نتيجة الإحتلال تتطلب توفير دعم اقتصادي لدول المواجهة. لكن مساندة عبد الناصر لثورة الفاتح الليبية بقيادة القذافي والإنقلاب العسكري السوداني بقيادة نميري, أكدت استمراره زعيما لحركة التحرر الوطني والقومية العربية, وأعاد إنبات بذور الشك من جانب' النظم التقليدية'.
وأما دوليا, فقد صدر قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار, ولأول مرة غير مرتبط بمطالبة القوات المتحاربة العودة الي مواقعها قبل الحرب. وقد تردد الاتحاد السوفييتي في تقديم العون بالحجم والنوع المنشود مصريا وفي التوقيت المطلوب, وكان تبريره أن أصدقاءه العرب لم يستخدموا ما وفره لهم من سلاح, وأن المواجهة النووية مع الولايات المتحدة خط أحمر لن يقترب منه, وقاده توازن القوي والمساومة العالمية بين القوتين الأعظم الي ضبط إمداداته بالسلاح. ولم يكن عبد الناصر مستعدا للتفاوض مع اسرائيل بحثا عن حل سلمي, ففضلا عن قناعاته الثابتة, كان أول من وقع علي لاءات قمة الخرطوم بأن' لا تفاوض, ولا اتفاق, ولا صلح, مع اسرائيل'.
وفي قبوله لمطالب الاتحاد السوفييتي باستشراف فرص الحل السياسي للأزمة مع الولايات المتحدة اشترط عبد الناصر عدم التفاوض مع اسرائيل طالما استمر الاحتلال, وعدم التنازل عن أرض عربية, مؤكدا أنه بغير هذا يستحيل علي أي طرف عربي أن يقبل تسوية يستطيع أن يدافع عنها أمام جماهيره. وقبل عبد الناصر مبادرة روجرز ووقف إطلاق النار, رغم اتهام الفصائل الفسطينية له بالانهزامية! وقد قبل عبد الناصر, وكان قبوله كسبا للوقت اللازم لبناء حائط الصواريخ علي الضفة الغربية من قناة السويس, ولتعزيز الدفاع الجوي ضد غارات اسرائيل علي العمق المصري, من ناحية, وتحركا يستهدف اختبار حدود التغير في مساندة أمريكا لإسرائيل بعد انتهاء ولاية جونسون- شريك اسرائيل في العدوان- وانتخاب نيكسون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية, وتقديم البرهان لقيادة الاتحاد السوفيتي والرأي العام العالمي علي استحالة الحل السلمي.
وكان الرئيس السادات صاحب القرار التاريخي الجسور بخوض حرب أكتوبر, وصاحب القرار المبادر والشجاع بالتفاوض وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. وكان قرار العبور شرطا حتميا لبلوغ السلام, وكان القراران عبورا شجاعا لما بدا مستحيلا في زمنه, وركيزة العمل السياسي ـ وفي قلبه خوض الحرب ـ لتحرير سيناء. ولكن لنتذكر هنا أن إنجاز الحرب والسلام كاد يضيع لولا صلابة الرئيس مبارك في التصدي لمحاولات إسرائيل التهرب من استحقاقات السلام, وإصراره علي استرداد آخر شبر من الأراضي المصرية المحتلة في طابا. وكانت قيادة عبد الناصر والسادات ومبارك لإزالة آثار العدوان استلهاما لكفاح مصر علي مدي التاريخ من أجل حماية حدودها الثابتة لآلاف السنين من رفح الي حلفا, وكان هذا أهم الثوابت الوطنية في مواجهة هزيمة1967 والإحتلال الإسرائيلي لسيناء. لكن مرجعيات وسياسات الكفاح الوطني المصري من أجل تحرير سيناء قد تغيرت بعد رحيل الرئيس عبد الناصر, وهذا ما تكشفه متغيرات الإعداد السياسي لحرب أكتوبر المجيدة في1973, داخليا وعربيا, ودوليا, تحت قيادة الرئيس السادات. وللحديــث بقيـــــة.
[email protected]
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش