العمل وعلاقته بالأخلاق
د. طه حبيشي
أستاذ العقيدة والفلسفة -كلية أصول الدين -القاهرة
إن المرء حين يتأمل في قيم الشريعة الإسلامية يغرقه التأمل في الدهش إلي الأذقان» فما من مسألة يبحثها المرء في نطاق معالجات الشريعة الإسلامية إلا ويجد لها أساساً في منظومة القيم وفي نظام الأخلاق. ومن بين هذه الأشياء التي نتأملها فنندهش من اعتبار الإسلام لها مسألة العمل.
ولو أننا جمعنا أوصاف العمل في الإسلام لوجدناها تمت بأسباب إلي الأخلاق. كل وصف منها يرتبط مع الأخلاق بسبب يناسبه.
والأوصاف التي ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا ارتباطها بالعمل هي الحق والواجب والشرف إذ بإمكاننا أن نقول: إن العمل حق. وإن العمل شرف. وإن العمل واجب وهذا كلام مجمل يحتاج إلي تفصيل.
وتفصيله هنا علي قدر المتاح أن نقول: إن المرء باعتباره فرداً في جماعة قد خلقه الله عز وجل لوظيفة يؤديها. وأضفي عليه من فضله كرامته حيث قال: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلاً".
إن الإنسان الفرد الذي هذه شمائله لا يجوز أن يهبط بمكانته أو يفرط في كرامته. ومن حقه علي الجماعة التي يعيش فيها أن تمنحه فرصة العمل كي لا يصير عاطلاً. لأن العاطل يرمي بنفسه في بحار البطالة. وما البطالة إلا وسيلة لسوء الطباع والفعال. وما البطالة إلا الطريق المهاد إلي تعطل الأعضاء وانتشار الأمراض
إننا نري ذلك في كل عضو نعطله. وفي كل عاطل يستمريء البطالة ويركن إليها.
فنحن نري الواحد من أفراد الكلاب حين لا يخف إلي تحصيل رزقه بالحركة والنشاط يُصاب ب "الحصاص" وما الحصاص إلا هذا المرض الذي يشبه الجرب فيتساقط معه الشعر من فوق الجلد فيبدو منظره كئيباً مقززاً.
وعلماء وظائف الأعضاء يؤكدون أن العضو في جسم الكائن الحي لو عزل عن وظيفته فترة. سحب الله عز وجل منه قدرته علي أداء تلك الوظيفة.
ومجمل القول هنا أن الإنسان الفرد يجب عليه أن يحافظ علي مكانته من خلال العمل. ويجب علي الجماعة أن تمنحه هذه الفرصة كي لا ينضم إلي قائمة غير العاملين فترتفع بانضمامه نسبة البطالة في المجتمع وتنسحب منه ميزة طهارة اليد. وبركة الحركة. فقديماً قالوا: اليد العاطلة نجسة.
والعمل واجب إذا نظرنا إليه من زاوية أخري. وهي زاوية وجوب رد الجميل للجماعة التي يعيش الفرد فيها. وهي تهييء له كل ما يحتاج إليه من عناصر الحياة.
إن الجماعة تحتاج إلي حركة أفرادها الذين سبق للجماعة أن هيأت لهم جميع الفرص ومنحتهم ما يحتاجون إليه.
وحركة الأفراد المتوجهة إلي الجماعة متعددة الجوانب. فمنها ما يتصل بالإنتاج الذي هو أحد ركائز الاقتصاد. ومنها ما يتصل بإمداد الجماعة بالأفراد من خلال الزواج ورعاية الأسرة. ومنها ما يتصل بالحفاظ علي بيئة الجماعة من خلال تحسينها. وتجميلها. وإثرائها بكل خير. إلي غير ذلك من الجوانب المتعددة.
وليس الفرد من الأفراد مختاراً فيما يؤديه تجاه الجماعة. إن شاء عمل وإن لم يشأ لم يعمل. وإنما هو عزيمة مقررة وواجب محتوم.
ووجوب العمل علي الأفراد تتسع دائرته إلي حد يشمل العبادة والقيام بالتكليف علي الوجه الذي أراده ربه منه وأحبه له.
ومجمل القول: إن العمل كما هو حق يستحقه كل فرد علي الجماعة. فهو كذلك واجب محتوم يقوم الفرد بأدائه علي وجه من العزيمة لا يحتمل الترخيص في أدائه إلا لأصحاب الأعذار.
والعمل شرف يعتبره الإسلام كذلك لأن الذي يأكل من عمل يده. وقد كسب ذاته يرتفع بنفسه فوق أمرين: أحدهما: أن يعرض نفسه إلي ذل السؤال فيسأل غيره في طعام نفسه وحاجة أولاده. وكل واحد من الناس علي رأس أمره. إن شاء أعطاه. وإن شاء منعه. وثانيا أن يعتبر نفسه طفيلياً يعيش علي كسب الناس يتحصل عليه من حلال أو حرام. والحلال منه يحذرنا الشرع من سلوك الطريق إليه. لأن الطريق إليه إما الإلحاح علي الآخرين كي يعطوه. وإما الحصول عليه بسيف الحياء.
والحرام منه طرقه متعددة من نحو: الغش والسرقة. والغصب والغبن.. إلي ذلك من النظائر والأشباه.
وهذه المسالك كلها تجعل سالكيها في محل الازدراء من الجماعة. والبغض من الناس.
والبديل المحقق لكرامة الإنسان هو: العمل.
فالعمل إذاً شرف.
وهكذا تكتمل هذه المقولة العامة ذات الثلاث شعب علي نحو ما كملتها الشريعة الإسلامية.
إن العمل حق وواجب وشرف.
ولما كان العمل مرتبطاً بالأخلاق علي هذا النحو. جاء موافقاً لطباع عظائم النفوس من الرجال.
ومن أوائلهم سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم : إذ هو أول العظماء بالاتفاق.
ولما كان النبي كذلك وجدنا الأخلاق لا تكاد تفارق بيته. فهي قد اجتمعت له. وتهيأت لاستقباله يعلو سنامها. علي نحو ما قاله الله: "وإنك لعلي خلق عظيم". ثم تفرقت بعد ذلك في أزمته. كل يأخذ منها ما يناسب طبعه.
اجتمعت الأخلاق له ووافقت طبعه. فوجدناه يصدر عنه كل شيء جميل وكل عمل جليل.
لقد أخذ النبي بمبدأ العمل حتي وهو يستقبل صباه الأول. لقد عمل في أول صباه يرعي الغنم لقريش علي قراريط بظاهر مكة.
وفي أول عهده بالصبا مارس التجارة. وخرج إلي بلاد الشام مع العير يحتضن مشقة العمل بلذة المتعشق للأخلاق. ولما قارب أن ينهي العقد الثاني من عمره المجيد عمل بالجهاد. واقترب من أدوات الحرب يقربها من المحاربين وهو في الخامسة عشرة من عمره إلي أن بلغ العشرين. فدخل في المفاوضات لإنهاء الحروب وعمل علي تحقيق كل غرض سلمي بسببه تحقن الدماء وترفع المظالم.
ثم ذهب إلي الشام في تجارة لخديجة بالأجر. يرقبه في حركته وسكناته غلام لها يسمي ميسرة.
إن النبي صلي الله عليه وسلم قد عشق العمل قبل النبوة. ولم يسجل التاريخ له يوماً أنه قد أسلم نفسه إلي الراحة يتمتع بالماء أو الخضرة أو الوجه الحسن. بحجة أنه ابن الأكرمين. ولكنه قد علم أن الشرف كل الشرف في العمل. العمل وكفي. ولا بأس بعد ذلك أن يكون العمل في رعي الغنم أو في التجارة أو في غير هذين.
وأي عمل يخالطه مجافاة للأخلاق يصرفه عنه طبعه. ويمنعه منه صوت داخلي يطالبه أن يصلح من شأنه.
في عادة القرشيين أنهم إذا قاموا بحمل شيء علي عاتقهم حلّوا أُزرهم والإزار هو القطعة السُفلي من الثياب تستر عورة الرجال كان القرشيون يضعونها علي أكتافهم تحول بينهم وبين قسوة الحجارة وهم يحملونها. فلما دخل النبي مع قريش يحمل الأحجار لبناء الكعبة. لم يوافقه طبعه أن يضع إزاره علي كتفه وينكشف منه ما لا يحب.
إن العمل الصادر عن النبي حتي قبل أن يوحي إليه مرتبط بالأخلاق.
فلما جاءه الوحي تأكد هذا المفهوم عنده. فوجدناه في بيته لا يأنف في أن يعمل عملاً يساعد به أهل البيت. وفي خارج بيته رأيناه يجلب إلي أهله حوائجهم ويحملها بنفسه.
وفي العمل العام وجدنا النبي مع الجماعة يده بأيديهم علي نحو ما ظهر أيام الخندق يوم الأحزاب. فقد شارك جماعته في حفر الخندق. وانفرد هو بالعمل في كل ما علي الجماعة أن يفعلوه.
وإذا رأي النبي عبداً رقيقاً كاتب سيده ليتخلص من الرق. أخذ النبي يعمل علي مساعدته من غير أنفه. إذ لا مجال إلي الأنفة طالما العمل شرف لقد ساعد سلمان حين كاتب سيده علي ثلاثمائة فسيلة من النخل يزرعها له فغرسها له النبي بيده. وعلي تدبير قدر معين من المال فدبره له النبي.
ومن المعروف أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يعلف البعير. ويعقله ويقم البيت. ويحلب الشاة. ويخصف النعل. ويرقع الثوب. ويساعد خادمه في طحن الحب. ويحمل الشيء الذي يشتريه من السوق.
وعلي الجملة لم يكن النبي صلي الله عليه وسلم يترفع عن عمل مشروع. ولم يكن النبي صلي الله عليه وسلم يتأخر عن عمل يسد به حاجة. أو يخفف به عن متعب. فإذا ما خلا إلي ربه ليلاً أو نهاراً بذل في العبادة أقصي الطاقة. قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. لكنه يري في العمل شكراً لله علي نعمته.
ومن هنا. ومن هنا فقط أقول لكل طفيلي يعجبه أن يعيش علي كد الناس وتعبهم. وأقول لكل صانع قرار يتقاعس عن بذل حق العمل لكل قادر ما لكم لا ترجون لله وقاراً. وما لكم لا تتأملون هذا القدوة الجالس علي القمة في يده سرج يضييء لكم بها الطريق.
ألا تخافون يوم اللقاء؟!
أما أنا فأقول لكل من رحل إلي أرض الحجاز
إذا زرت بعد البيت قبر محمد
وقبلت مثوي الأعظم العطرات
فقل لرسول الله يا خير مرسل
أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في طول البلاد وعرضها
كأصحاب كهف في عميق ثبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة
فما بالهم في حالك الظلمات
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 64/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 390 مشاهدة
نشرت فى 4 سبتمبر 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,579,456