حدوتة القلم.. هي حدوتة الحرية
تحقيــــق الســــبت بقلم : عـزت السـعدني
صوت القلم هو أعلي الأصوات لأنه صوت الحق. * القلم سلاحك الذي وهبك الإله إياه وخصك به وميز به مكانتك بين الناس فاحتفظ به نظيفا ولا تعره لعدوك ولا تدع يدا تحركه غير ضميرك.
حدوتة القلم في مصر... هي حدوتة الحرية.. وحدوتة الحرية في مصر هي حدوتة القلم.. فالقلم هو التعبير الحر عن إرادة الانسان وفكره وعقيدته.. مايريد وما لا يريد.. ما يحب وما يكره.. مايراه صوابا ومايراه انحرافا أو سقوطا في مستنقع الخطأ وانزلاقا إلي بئر الخطايا. وإذا كان سيدنا سليمان عليه السلام قد تلقي وصايا الله العشر من فوق جبال سيناء علي أرض مصرية قبل نحو ثلاثة الاف وخمسمائة عام.. فإن الانسان المصري قد قدم للدنيا كلها نفس هذه الوصايا وزيادة قبل أن يكلم الله سيدنا موسي ويتلقي منه الرسالة ويقول له سبحانه وتعالي: اخلع نعليك ياموسي انك بالوادي المقدس طوي.. والوصايا المصرية قدمها امينوبي واني وستب حتب واخناتون الذي أزعم ومن خلفي طابور طويل من عقلاء القوم فينا من مفكرين وباحثين ورجال دين ودعوة وأصحاب رسالة..انه نبي ورسول ورسالته تسبق وصايا سيدنا موسي عليه السلام بنحو الف عام.. ولو اننا بكل عقلانية وعقول مستنيرة قارنا بين كلمات توراة موسي ونصائح امينوبي العظيم لابنه التي تسبق وصايا موسي بنحو الفي عام نجد ان الكلمات تكاد تكون واحدة في كثير من الأسفار.. نفس الشيء بالنسبة لاخناتون وصلواته.. ودعواته ونجواه إلي ربه ومن المؤكد علميا ودينيا ان رسالة التوحيد والايمان بالله الواحد الاحد قد خرجت من هنا.. من أراض هذا البلد الذي علم الدنيا ما لم تعلم..
وباعتراف الباحثين المدققين الذين أفنوا زهرة عمرهم بحثا وراء حقيقة هذا الكون, وفي مقدمتهم المؤرخ بتري الذي قال بالحرف الواحد في كتابه: ضمير الحضارة ان شعب مصر كان أول شعب امن بالله.. وأول من آمن بان هناك الها واحدا للجميع, فكان أول من نادي برسالة التوحيد.. والايمان بالخالق هو الذي خلق حضارة مصر.. التي خلدت بخلود العقيدة وعبروا عن الاله اتون التي أرسي قواعدها اخناتون.. بالقوة الخفية الكامنة التي تهد الحياة وتسير دفة الكون.. عرف المصريون سر الوجود فامنوا بالحياة والروح والبعث والحساب والثواب والعقاب والعالم الاخر الذي يحيا فيه الانسان الي الأبد.
قد يسأل سائل: متي خرجت اذن رسالة التوحيد من ارض مصر؟
لقد أجمع العلماء ـ كما يقول سيد العارفين الدكتور سيد كريم عالم المصريات ـ علي أن أول رسالات الخلق والتوحيد التي عرفتها البشرية قد خرجت من مدينة أون ـ عين شمس حاليا ـ وان تلك الرسالة بما حوته من تعاليم وتشاريع وتفاصيل بناء المجتمع الانساني, لابد أن تكون رسالة سماوية.. سبقت العقل البشري كما وصفها المؤرخ المصري القديم مانيتون عام9500 من التقويم المصري الكهنوتي.. أي منذ12500 سنة.. يعني المصريين عرفوا الل قبل اثنتي عشر الف وخمسمائة سنة.. يعني في الوقت الذي كانت فيه شعوب الدنيا عارية تجري في البراري والقفار هربا من وحوش الغابات!
ويبقي السؤال محلقا فوق رؤسنا: وهل استمرت رسالة التوحيد أم سطا عليها من يريد ان ينهش لحمها ويكسر عظمها ويحيلها فتات لا تشبع ولا تسمن من جوع؟
الجواب لسيد العارفين د.سيد كريم عالم المصريات لقد مرت رسالة التوحيد في مصر بخمسة مراحل:
1ـ رسالة التوحيد التي خرجت من مدينة أون.. استمرت دعوتها نحو الفي عام.
2ـ ثم خضعت مصر لمختلف المذاهب وتعدد الالهة.. لتقوم ثورة التوحيد الثانية علي يد الملك مينا نارمر موحد القطرين ومؤسس الأسرة الأولي قبل نحو خمسة الاف عام والذي قام بحربه المقدسة لتوحيد البلاد بتوحيد الاله الواحد الذي رمز له بالصقر.
3ـ ثم عادت رسالة التوحيد مرة ثالثة في عصر الأهرامات ويرمز للاله الواحد بقرص الشمس رع.
4ـ ثم كانت اخر رسالات التوحيد التي نادي بها اخناتون في الاسرة الثانية عشر يعني منذ نحو3500 عام.
5ـ واخيرا خرج برسالة التوحيد سيدنا موسي عليه السلام حامل رسالة التوراه ومن أرض مصر أيضا!.
يعني بالقلم والورقة وبالحساب وبالمسطرة.. عرفت مصر التوحيد وعرفت الله الواحد الأحد.. قبل ان تنزل التوراه.. اربع مرات من مدينة اون التي تعلم فيها ارسطو وافلاطون.. الي عصر الملك مينا نارمر موحد القطرين مملكة واحدة ودين واحد هو دين التوحيد. ثم عصر الأهرامات ثم رسالة اخناتون حتي نزول التوراة رسالة التوحيد للمرة الخامسة بأرض مصر
انت ايتها البقعة الساحرة علي خريطة الدنيا.. التي اسمها مصر
نهر ينبع من الجنة اسمه حابي والذي نعرفه الان باسم نهر النيل..
انت يامن خرج فجر الضمير الانساني من عندك..
انت يامن حباك الله حبا وجمالا وفضيلة..
انت ياناموس الحق والخير والعدل.. انت يافجر الضمير الانساني
ستظلين حتي يرث الله الأرض ومن عليها.. مهبط الانبياء وأصل الرسالات وأولها رسالة التوحيد
.............
..............
والانسان المصري هو أول من أمسك بالقلم.. وهو أول من علم الدنيا ما لم تكن تعلم.. وهو الذي رفع غشاوة الجهل والجهالة من فوق العيون..
وهو الذي ملأ العقول فكرا وعلما ومعرفة.. وهو الذي أطلق طائر الحكمة من قفصه ليحلق فوق ربوع الأرض وفوق أعالي الجبال وفوق هامات الرجال وفوق شواشي الشجر..
وهو الذي أنار القلوب حبا وحنانا وألفة وودا ورحمة وسكينة.. وهو أول من عرف الله من بني البشر.. وأول من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه..وهو أول من سجد..وأول من ركع.. وأول من خاف عذاب يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون..
ولقد حمل الإنسان المصري أمانة الكلمة منذ بدء الخليقة..كل جيل يسلم الراية للجيل الذي بعده..وأمانة الكلمة التي حملها الله للإنسان.. هي حرية الاختيار بين الحق والباطل.. الخير والشر.. الصدق والكذب.. الجمال والقبح..الرذيلة والفضيلة.. الإيمان والكفر..الحكمة والكيد..الصبر والرعونة..الهداية والضلال..الصلاح والفساد..النور والكلمة.. المعرفة والجهل..الظلم والعدل.
ولأن الله عز وجل هو خالق الإنسان والنافخ فيه من روحه..فهو الذي يعرفه حق المعرفة ويعرف جموحه وطموحه,ويعرف حقيقة نواياه وقدراته..فقد قال في كتابه العزيز:' إنا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض فأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا'..الجبال الرواسي خفن من حمل أمانة الكلمة.. وتصدي لها الإنسان..ولكنه في كثير من الأحيان كان ظلوما مغرورا يملؤه الكبر والخيلاء ويمتطي صهوة جواد الظلم والجهل..وأدي أمانة الكلمة..وزهق الحق وانتصر الباطل..وملأ المعتقلات والسجون بالأحرار والمفكرين..وطارد إلي أقصي الأرض كل صاحب رأي حر..بل وركب جواد الحمق والرعونة وقاتل الأنبياء والرسل الذين نزلوا بكتب الله..وشردهم وسبا نساءهم وقتل أطفالهم وأسال دماءهم أنهارا.
ولكم عاني الإنسان في كل عصر وأوان وعبر تاريخه الطويل من أعداء الحرية.. ومن المتربصين بحرية الكلمة..وقائمة الأحرار الذين ضحوا بحياتهم من أجل عقيدة أو فكرة أو دين أو وطن أو حفنة من تراب طويلة لا تنتهي..
ولكم عاني الإنسان المصري فترات ظلام طالت أو قصرت, عبر تاريخه الطويل..ولكنه كان دائما يخرج في نهاية المشوار منتصرا رافعا الرأس عالي الهامة موفور الكرامة..
ولكم حاولت جيوش الظلام في بلدنا أن تحبس الكلمة وتدخلها الزنزانة..لتصبح خرساء بكماء صماء..القيد في يديها والضمادة فوق فمها والغشاوة فوق عينيها..
ولكن الله فوض لنا الرئيس حسني مبارك نصير الحرية.. ليكسر كل القيود ويفتح كل الأبواب..ويترك الكل يتكلم ويقول وينتقد مادام كلامه صحيحا ومادام الحق إلي جانبه..ولتشرق شمس حرية الكلمة كما لم تشرق من قبل علي سنابل القمح..وأشجار التوت والنخيل والزيتون.. وبيوت الناس البسطاء..وجداول الماء الرقراقة في حقول الفلاحين..والساقية العجوز التي تحكي للأجيال.. حدوتة الحرية في مصر..
.............
.............
في حديث تم تسجيله بالقمر الصناعي سألتني مذيعة تلفزيونية عربية: لو رجعنا إلي الوارء..هل كان الإنسان المصري عبر تاريخه الحضاري الطويل يتمتع بحرية القول والفعل والكتابة.. يعني هل كان من حقه أن يكتب ويقول وينتقد..وهل كان الكاتب المصري يتمتع بحرية تسمح له بأن يكتب ويكشف العيوب والأسرار وينقد المسئولين؟
قلت: صحيح أن المصريين الذين صنعوا أعظم حضارة عرفها الإنسان والتي مازالت لغزا يحير الكتاب والمفكرين والباحثين في تاريخ الإنسان.. لم يكونوا يعرفون مهنة الصحافة كما نعرفها اليوم..ولم تكن لديهم صحف أو مجلات يكتبون فيها..فالصحف تحتاج إلي ورق ومطابع تطبع آلاف النسخ في ساعات معدودات..أما أجدادنا العظام فقد كانوا يكتبون بالأقلام البسط المصنوعة من الغاب فوق صحائف من أوراق نبات البردي.. ولكن الكاتب في زمانهم كان يتمتع بحرية يحسده عليها أقرانه في هذا الزمان..وكانت له مكانته واسمه في المجتمع كواحد من صناع القرار..وكواحد من الذين يكتبون عن الناس ويدافعون عنهم ضد أي ظلم أو طغيان..
تسألني: إلي هذه الدرجة؟
قلت: وأكثر- وكما يقول الدكتور سيد كريم- إن الكاتب المصري كان أول من أمسك بالقلم..رأي مولد الزمان فسجله..وعاصر أول تجربة لبناء الحضارة فدونها, فكان أول من كتب التاريخ..وخلد بقلمه تراثه الفكري.
بدأه بأدب السماء التي وهبته نعمة الكتابة وعلمته كيف يمسك بالقلم, وتدرج منه إلي الحكمة وأدب التعاليم مرورا بأدب القصة وأدب الأساطير.
كان أول من كتب الشعر وغناه والأدب وصنفه والقصة ورواها.. كان أول من كتب للمسرح, وأول من إبتدع الأدب التصويري المصور, فجعل من الأدب فنا جميلا ومن فنون كتابته وأساليبها مادة لذلك الفن, فخاض بفنون آدابه جميع جوانب التجارب الإنسانية, وفتح آفاقا جديدة للفكر, فكان سخيا فيما قدمه عبر تاريخه الطويل وما خلف من تراث فكري خالد.
تسألني: وكيف كانت منزلة الكاتب المصري أيامها؟
قلت: سأحيلك إلي ما قاله الحكيم( ستب حتب) وهو في منزلة الأنبياء والرسل عند أجدادنا المصريين القدماء.. قال ينصح ابنه:
(( أعد نفسك لتكون كاتبا وحاملا قلم المعرفة.. إنها أشرف وظيفة تليق بك وتقربك من الإله وترفع شأنك..
فيوم أن تنادي شخصا واحدا يلبي نداءك ألف شخص..
فتعلوا بقلمك علي رءوس الآخرين..إن ما يخطه قلمك سيعيش أبد الدهر, وتكون أكثر خلودا مما ينقشه الآخرون علي الحجر الصلب, لأنه سيعيش في قلوب الناس ورءوسهم فلا تمتد إليه يد العبث أو التخريب))..
* تعلم كيف تحرك أصابعك القلم.. وكيف يحرك عقلك أصابعك فلا يخط قلمك إلا الحكمة والمعرفة وما ينفع الناس))..
* اجعل ملف البردي وأدوات الكتابة أصدقاءك, ستجد أنهم أوفي الأصدقاء وأخلص الندماء))..
* ستزينك الكتابة بما هو أجمل من ملابس الكتان وعطور اللوتس..إن ما يخطه قلمك هو أعظم ميراث لا تعبث به يد الطامعين وأثمن من إرث في أرض ناحية الشرق أو مقبرة ناحية الغرب))..
(إن الكتابة مهنة مقدسة تقربك إلي الله الذي منحك العقل والقلم وتقربك من فرعون والناس وتجعلك حبيبا للجميع وقريبا إلي قلوب الجميع فغذاء العقول الذي تقدمه للناس باق,أما غذاء البطون الذي يعطيه لهم الغير لا يدوم))..
ولقد وصل بعض العلماء إلي مرتبة التقديس من جانب أمراء الشعب- كما يقول د.زاهي حواس عالم المصريات- مثلما حدث لأمحتب الكاتب والطبيب والمهندس.. وكما حدث مع نفري وأختي وبتاح جوني وزدفرا وهو أحد أبناء الملك خوفو, وكان أديبا وشاعرا وقصاصا..
ولعل أجمل في سمو منزلة الكاتب ورفعة الكاتب قبل خمسة وثلاثين قرنا من الزمان..ما قاله الحكيم ستب حتب في وصفه للكتابة:
* الكتابة تجعل الكاتب أسعد من امرأة وضعت طفلا, كميلاد الطفل الذي يعوض الأم أضعاف ما تحملته من آلام في حمله وولادته, فلا تشعر بأي تعب وهي تقوم لترضعه وتضع ثديها في فمه كل يوم..
فرح هو قلب الكاتب الذي يزداد شبابا كل يوم.. فرح وهو يسترد أضعاف ما أعطي..من حبهم وتعظيمهم له))..
قالت: كلام جميل.
قلت: تعالي نقرأ معا ما جاء في بردية آمون من حافظ سجلات قصر فرعون.. قال:' كن كاتبا.. حتي يريح عقلك إجهاد جسمك'..
' كن كاتبا حتي تصبح سيد نفسك ولا تكن تحت إمرة أسياد كثيرين'..
'كن كاتبا فتنعم عليك الآلهة بحاسة جديدة مقدسة, حاسة تميزك عن الآخرين فتري ما لا يراه الآخرون وتسمع ما لا يسمعه الآخرون.. ستري وتسمع بعقلك وقلبك عالم ما وراء الطبيعة..
ستتمتع بحكمة عقلك فتسعد قلبك..
ومن كان قلبه سعيدا أسعد الآخرين.
ستعيش بمعرفتك وحكمتك التي سيوحي بها إليك الله ليدونها قلمك وترسمها ريشتك لتتناقلها الأجيال وتعيش معها' مخلدا'.
ولا ننسي هنا ما قاله الحكيم آني وهو مثل ستب حتب عند المصريين صناع الحضارة في منزلة الرسل والأنبياء.. وهو يدفع ابنه دفعا لكي يكون كاتبا:
' فلتكن أمنيتك أن تصبح كاتبا, فالكتابة أوسع الأبواب رزقا.. وأعظم هبة يهبها الإله لمن يسعي إليه..
إن الكتاب أعظم قيمة من مسكن الحياة حيث تشرق الشمس.
وأبقي خلودا من مقبرة حيث تغرب الشمس.
إنه أجمل وأمتع من قصر في البستان.
أو لوحة دعاء في هيكل معبد الإله.
هل بيننا من يضارع زدفرا ؟
هل بينكم من يتساوي مع أمحتب ؟
هل في عصرنا من هو مثل نفري وأختي أو بتاح جوني.. وهم أعظم العظماء الذين تتطلع إليهم الأنظار وتنخفض أمامهم الرءوس.. هل بينكم من يقول أنه مثل بتاح حتب أو كاترس؟
وتستمر الرسالة_ كما يقول الدكتور سيد كريم في كتابه الرائع:' الكاتب المصري'_ في سرد أسماء كثير من الأدباء وأعلام القلم في مختلف نواحي الأدب.. وجميع تلك الشخصيات التي ورد ذكرها في البردية ليست غريبة علي التاريخ فزدفرا هو أحد أبناء الملك خوفو ويحمل لقب كاتب من معبد منف وأمحتب مهندس الملك زوسر وكانت ألقابه تجمع بين الهندسة والطب والكتابة والأدب, وبتاح حتب كان من أعظم كتاب الحكمة في عصره.
ويعتبر التاريخ هذه المجموعة من الكتاب في مقدمة الأدباء العظام.. وكانت أعمالهم الأدبية موضع تقدير وتعظيم عند قدماء المصريين ابتداء من الأسرات الأولي والعصر العتيق مرورا بالدولة القديمة والدولة الحديثة..
ويعتبر بعض المؤرخين تلك البردية كلوحة من' لوحات الشرف أو لوحات الخلود' التي كانت ترفع في أعياد الأدب تخليدا لذكري الكتاب والأدباء حتي يستمر حضورهم وحياتهم..
تسألني: وهل وصل الكتاب في مصر القديمة إلي مناصب رفيعة في مجتمعهم ؟
قلت: لقد كان الملوك يقربونهم إليهم ويدفعونهم للكتابة والخلق والإبداع.. ووصل الكثير منهم إلي أرفع المناصب في الدولة.. وكانت أعمالهم وكتاباتهم_ كما يقول د. زاهي حواس_ تدرس في المدارس ويحفظها التلاميذ.. بل وتحفظ في الغرف المقدسة في المعابد بوصفها كتابات مقدسة.
...................
...................
تسألني: وهل كانت مهنة الكاتب من المهن التي تجعله يعيش عيشة طيبة ؟
قلت حتي لا يضطر إلي مدح حاكم أو كتابة قصيدة شعر في ملك أو مسئول حتي لا يجوع ويجوع معه عياله.. يا سيدتي كانت مهنة الكتابة أشرف المهن.. وكان الملوك يوفرون حياة طيبة للكتاب والأدباء والشعراء والعلماء والمهندسين والفنانين من نحاتين ورسامين..
بل أن الكتاب قبل أكثر من أربعين قرنا من الزمان كانوا لا يدفعون ضرائب علي رواتبهم أو دخولهم من مهنة الكتابة_ فقد جاء في إحدي برديات الأسرة التاسعة عشر_ أسرة سيتي الأول ورمسيس الثاني_ أنه وجد نصا ملكيا أصدره الملك سيتي الأول بإعفاء الكاتب والأديب من الضرائب والجزية.
كما وجدت بردية أخري من عهد الملك رمسيس الثالث آخر الفراعين, تضيف إلي إعفاء الكاتب من الضرائب بأنواعها.. صرف معاش للكاتب والأديب حتي يتفرغ لعمله ولا تشغله مطالب الحياة عن القيام بعمله المقدس..
وقد اشتمل النص في بعضها إلي اقطاع أرض مغلة أو مسكن خاص للكاتب.. كما نص بعضها علي تأمين تموينه بحصة ثابتة من مخازن الدولة..
ماذا تريدون تكريما للكاتب المصري أكثر من ذلك ؟
.................
.................
تسألني: أين يتعلم الكتاب.. ومن أين يتخرجون ؟
قلت: لقد كان الكاتب يدرس ويتعلم قبل أن يصبح كاتبا مصرحا له بالكتابة باعتبارها أشرف مهنة في الوجود.. وأن لقب الكاتب_ كما يقول د. سيد كريم_ من الألقاب العلمية التي يحصل عليها حاملها من' بيت الحياة' الملحق بالمعبد.. وهو بمثابة جامعات العلوم والآداب والفنون في العصر الحالي.. وفي تلك الجامعة يدرس الطالب ويتخصص في مختلف النواحي الأدبية وأعلي مراتبها المعرفة المقدسة وهو كتاب العقيدة والدين والعلوم الفلسفية التي أطلقوا عليها اسم' أسرار الوجود'..
ويليهم كتاب الوحي أو الحكماء وهم كتاب تعاليم الحكمة وما ارتبط بها من تدوين التشاريع والوثائق التاريخية.
ثم كتاب الأدب الاجتماعي وهم كتاب أدب القصة بأنواعها وتدوين الأخبار والأحداث ليتناقلها الشعب.
ثم كتاب الشعر والأغاني وكانوا يجمعون بين الكتابة والعزف علي الآلات الموسيقية.
ثم الكتاب العموميون أو الشعبيون الذين يعملون في الوظائف الحكومية أو في خدمة الشعب وتقتصر ثقافتهم علي القراءة والكتابة وتدوين المستندات ولا تدخل ثقافتهم ضمن المؤهلات الجامعية.
لقد عبر قدماء المصريين عن الكاتب وهو يجلس القرفصاء وقد نشر علي ساقيه ملفا من ملفات البردي وهو يمسك بطرفه باحدي يديه كي يطوي ما تم كتابته ويمسك بالأخري أدوات الكتابة من دواة الحبر الأسود والأحمر وأقلام البسط' الغاب'.
وكان الكاتب يظهر عاري الرأس دلالة علي انه كاتب عمومي أو شعبي ليقوم بتدوين المراسلات والوثائق والعقود ومن بينها عقود الزواج والطلاق والميراث وحساب المحاصيل والمنتجات العامة للشعب.
لقد عاش الكاتب المصري في ظل حرية لم يكن يحلم بها رفاقه في كثير من بلاد العالم الآن.
وها هو الحكيم آني يواصل حديثه إلي ابنه كما جاء في إحدي البرديات المحفوظة في المتحف البريطاني في لندن ونصها:
' عليك بالكتابة.. فالكتابة مهنة مقدسة.. يا بني ول وجهك نحو الكتابة.. ولا توليه نحو الحقل.. فمهنة الكتابة اشرف المهن وأعلاها.
تعلو بصاحبها فينال احترام الجميع.. ويتقرب إليه الجميع.. فالكاتب فوق كل شيء.
ومن يتخذ الكتابة صناعة لا تفرض عليه ضرائب ولا يدفع جزية ويؤمن الإله معاشه.
لا تنس أن قلمك هو سلاحك الذي يحميك من أعدائك فلا تعره لغيرك حتي تفقده أو يستعمل ضدك.
لتكن كاتبا.. فالكتابة ترفع رأسك فوق رءوس الناس وترفع رءوس الناس نحوك بالاحترام والتعظيم.
...................
...................
وهل هناك من حارب ودافع عن حرية الكلمة أكثر مما كتبه كتاب مصر العظام قبل الزمان بزمان..
وقبل أن يخترع عمنا جوتنبرج الطباعة وقبل أن تظهر الصحف في شكلها وانتشارها الحالي بأكثر من أربعين قرنا من الزمان. بل وقبل أن تظهر الكتب نفسها.
لقد قال المصريون وسجل التاريخ ما قالوه بأحرف من نور ليعرف العالم كله كم كنا أحرارا وكم كنا حماة لحرية الكلمة ولأمانة الكلمة.. برغم كيد الأعادي وحسد الحاسدين وحقد الحاقدين.. قالوا:
* لينطق قلمك بالحق ولا يخط إلا الصدق بما يفيد الناس ويرضي الآلهه.
*إن صوت الناس يفني ولكن صوت الكاتب يعيش أبد الدهر.
* القلم سلاحك الذي وهبك الإله إياه وخصك به وميز به مكانتك بين الناس فاحتفظ به نظيفا ولا تعره لعدوك ولا تدع يدا تحركه غير ضميرك.
* إن من يخرس صوت القلم يخرس صوته إلي الأبد.
* قلم الكاتب.. طائر يحلق في الآفاق العالية فيري ما لا يراه الغير ويصدح بما يراه وينقله إلي من في الأرض.
* صوت القلم هو أعلي الأصوات لأنه صوت الحق.
* الكتابة حاسة مقدسة يهبها الإله للكاتب لترفعه فوق الناس فيري ما لا يرون ويسمع ما لا يسمعون.
*إن من يغرق صوت القلم بقوة ساعده سرعان ما يغرق هو ويطفو صوت القلم علي السطح.
.....................
.....................
إن قصة الحرية في مصر هي قصة الحرية في الدنيا كلها.. والحرية تبدأ بحرية الكلمة التي عرفها الإنسان المصري منذ فجر الزمان حتي يومنا هذا ولكنها حكاية طويلة طويلة طويلة{
ساحة النقاش