في أصـول تكوين الأمـة المصريـة
بقلم: د‏.‏ طه عبد العليم
تباهي قسم من المصريين في مصر الملكية العلوية بأصولهم التركية‏,‏ ويتباهي قسم من المصريين بأنسابهم العربية‏,‏ ويتنابذ الجاهلون مع بعضهم البعض بأنهم وافدون أو ضيوف‏.

 

ويحاول دعاة الفرقة الوطنية تكريس إدعاءات التمايز العرقي‏.‏ وتبقي حقيقة وحدة الأمة المصرية منذ تشكلت في أحضان مصر‏,‏ بحدودها الراسخة من عصر الدولة الفرعونية القديمة‏,‏ من رفح الي حلفا‏!‏ وتبقي الحقيقة التي صنعت الأمة المصرية‏:‏ إن المصريين هم كل أولئك الذين استقروا بمصر وذابوا فيها وأقاموا عليها بصفة دائمة‏.‏
والحقيقة أن وحدة الدم والأصل لا تعد شرطا أساسيا أو حتميا للوحدة السياسية للشعب أو الدولة‏,‏ فإن الفروق الحادة في العنصر داخل الدولة قد تسبب مشكلات سياسية أكثر حدة‏.‏ ورغم هذا‏,‏ فلا شك أن مصر تملك من وحدة الدم والأصل أقصي درجة يمكن أن تحوزها أو تحرزها دولة في مثل مساحتها وعددها‏,‏ كما سجل صاحب شخصية مصر‏.‏ وقد كانت مصر دائما‏,‏ ولا تزال‏,‏ مجتمعا سياسيا مفتوحا متفتحا‏,‏ لم يعرف كراهية الأجانب‏,‏ ولا عرف التعصب العرقي أو الحاجز اللوني‏.‏ وفي هذا السياق عرفت تخوم مصر‏-‏ عبر العصور وبلا انقطاع‏-‏ التسرب أو التسلل السلمي علي حدودها البرية الثلاثة‏:‏ ليبيا‏,‏ والسودان‏,‏ والجزيرة العربية والشام‏.‏
وقد كان الرقيق نوعا خاصا من التسرب‏.‏ ويقول ماسبرو في كتابه عن الحياة في مصر القديمة وآشور إن الآلاف من العبيد كانوا يجلبون إلي المدن المصرية الكبري كل عام‏,‏ مقتبسا ما سجله مارييت من مناظر الفراعنة المحاربين وهم يسحبون خلف عرباتهم الحربية أسري من جميع الأجناس التي عرفها ذلك الزمان‏.‏ وفي أخريات العصر الفرعوني‏,‏ حين أخذت بعض الأسرات تعتمد علي الجنود المرتزقة‏,‏ ازداد تدفق الأجانب من حوض البحر المتوسط الشرقي وجزره‏,‏ وبالأخص الإغريق‏.‏ ويقدر البعض عدد الإغريق البالغين الذين أقاموا بمصر في عصر البطالمة بنحو‏150‏ ألفا‏,‏ أي أقل من‏2%‏ من مجموع سكان مصر‏.‏ ولقد تراخت هذه الهجرة في أواخر العصر البطلمي‏,‏ لكن بعد أن كانت قد حققت حجما مؤثرا بالفعل وتحولت إلي استعمار استيطاني‏.‏ وبعد الإغريق‏,‏ كان الرومان مجرد غزو عسكري بحت لم تصحبه هجرة ما‏,‏ ولا كان له أثر جنسي يذكر‏.‏
وإذا كان الأثر الجنسي للغزوات الحربية محدودا للغاية فإن من المغالاة إغفاله‏.‏ فقد كان بعض الغزوات يتحول إلي استعمار طويل العمر نسبيا‏,‏ كما كانت حروب الماضي ترتب قدرا كبيرا من الأسر والسبي والاسترقاق‏,‏ وبالتالي اختلاط الدماء بقدر أو آخر‏,‏ وذلك في وقت كانت روح العصر لا تعرف الحواجز العنصرية أو اللونية ولا الوعي القومي الحاد بالمفهوم الحديث‏.‏ وقد ظلت تجارة الرقيق واستخدامه خلال أغلب مراحل مصر الإسلامية‏.‏ وساهم الرقيق في النمط الجنسي للمصريين‏,‏ بعد أن انصهر في بوتقة الأمة المصرية‏,‏ سواء قبل أو بعد تحرير الرقيق‏.‏ وكانت عناصر الرقيق الوافدة أو المجلوبة محدودة العدد نسبيا ومذكرة غالبا‏,‏ وتتركز في المدن أساسا‏,‏ وتمثل مستعمرات مغلقة تتزاوج داخليا في العادة‏.‏ لكنها كانت تفقد بالتدريج خصائصها ووظائفها الحربية‏,‏ وتتزاوج من الأهالي‏,‏ فتندمج في جسم السكان الرئيسي‏.‏
وكان الاستعمار الاستيطاني في مصر شذوذا‏,‏ ولا يكاد يستثني من ذلك إلا اتجاه محدود أيام الإغريق كما ذكرنا‏.‏ واما الهجرات الكبري الثلاث الي مصر فقد كانت الهكسوس واليهود والعرب‏,‏ وثلاثتها من الرعاة السامييين‏,‏ ودخلت كلها عن طريق سيناء‏!‏ وقد طردت الهجرتان الأوليان تماما بعد حين‏.‏ وعلي العكس كانت الهجرة العربية أول وآخر إضافة حقيقية وفعالة إلي تكوين مصر البشري منذ وضعت قاعدته الأساسية في عصر ما قبل الأسرات الفرعونية‏.‏ وفي الفترة التي تلت الفتح العربي وهجرته الكبري وطوال العصور الوسطي امتزج الغزو بالتسلل وربما بالهجرة‏.‏ وكان هذا نمط جديد غير مألوف ولا مسبوق بعد أن زال الحاجز الديني وانفتحت مصر علي العالم الإسلامي جميعا بلا عوائق‏.‏
ويصدق ما سبق علي أتراك الدولة الطولونية والدولة الأخشيدية‏,‏ وأكراد الدولة الأيوبية ومعهم الغز والديلم‏,‏ ثم علي أتراك وتركمان وشراكسة وقوقاز وقوزاق المماليك‏,‏ كما يصدق علي مغاربة وبربر الفاطمية ومعهم بعض الصقليين والصقالبة الأندلسيين‏,‏ وأتراك الخلافة العثمانية ومعهم بعض الألبان والبلقان‏.‏ أضف إلي هذا أن الغزوات المغولية والتترية التي اجتاحت وسط وغرب آسيا قد قذفت إلي مصر بسيول لاجئين اتخذوها ملجأ وملاذا ومقرا‏,‏ كما لم تكد تنقطع هجرة المغاربة المتسربة‏.‏ وفي أوجه‏,‏ بلغ عدد المستوطنين الأوروبيين في مصر الحديثه ربع المليون‏,‏ أو نحو‏2%‏ من مجموع السكان‏,‏ واكتسب الكثيرون منهم الجنسية المصرية بعد صدور قانونها‏.‏
ومن المستحيل علميا تقدير أرقام وأوزان العناصر البشرية التي وفدت علي مصر عبر التاريخ‏,‏ وإن قدرت البحوث الرصينة أن المؤثرات الخارجية الأجنبية الوافدة والداخلة علي مصر منذ أن تشكلت الأمة المصرية في عصر الأسرات الفرعونية وحتي الآن لم تتعد نحو‏10%‏ من مجموع سكان مصر‏,‏ في أي وقت منذ وضع الأساس الجنسي للمصريين فيما قبل التاريخ‏.‏ وباختصار‏,‏ كما يضعها جمال حمدان في شخصية مصر‏,‏ فقد عرفت مصر الاختلاط قطعا‏,‏ ولكن المصريين ليسوا شعبا مخلطا قط‏.‏ ورغم كل المؤثرات والتداخلات الأجنبية المتواترة فإن مصر أقدم الأمم‏,‏ ولكنها قط لم تكن عصبة أمم‏.‏ ولم يكن المصريون شعبا هجينا مخلطا‏,‏ يؤلفه البعض من شظايا شعوب انصهرت فيها‏!‏ وإنما العكس هو الصحيح‏:‏ كانت العناصر الوافدة هي الأقلية القليلة دوما‏,‏ وكان المصريون هم السواد الأعظم والأغلبية الساحقة دائما‏.‏
وأما عن الأمة المصرية فكما يقول جوستاف لي بون في كتابه الحضارات الأولي‏:‏ شعوب مختلفة غزت مصر‏,‏ لكن البلاد استطاعت مع ذلك أن تهضم هؤلاء الفاتحين جميعا‏..‏ فلم يتح لاولئك الغزاة أن يؤثروا فيها‏,‏ فيما عدا العرب الذين فرضوا عليها دينهم ولغتهم وفنونا أجنبية‏,‏ وحتي مع ذلك فقد ظلت مصر رغم هذا فرعونية الدم‏.‏ ويعلن شانتر في كتابه بحوث أنثروبولوجية في إفريقيا الشرقية‏:‏ لقد استطاعت تربة وادي النيل أن تمتص كل الأنواع أو العناصر الأجنبية تقريبا‏.‏
ويقول بيتري عن الأمة المصرية في كتابه عن الحياة الاجتماعية في مصر القديمة‏:‏ شعب مجد قوي‏,‏ يعتريه الضعف كل بضع مئات من السنين ـ طبيعة الأشياء ـ فتتعرض بلاده للغزاة‏..‏ لكنه ظل يحتفظ بطابعه وصفاته القومية وبشخصيته المتميزة البارزة المعالم‏.‏ ويكتب مارييت عن الأمة المصرية‏,‏ كما يقتبس حسين مؤنس في مصر ورسالتها‏:‏ مصر لا تشرق بضع لحظات ثم تغيب في ليل طويل‏,‏ مثلما حدث في بلاد أخري‏,‏ وإنما العكس هو الصحيح‏.‏ فلقد أراد لها طالعها العجيب أن تواصل عملها سبعين قرنا‏,‏ وأن تترك أثرها في كل ناحية من النواحي واضحا جليا‏.‏
وللحديث بقية‏.‏

 

المزيد من مقالات د‏.‏ طه عبد العليم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 41 مشاهدة
نشرت فى 31 أغسطس 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,798,796