بقلم: د. فريد محمد بدران... أستاذ بكلية الهندسة جامعة القاهرة
المصريون شعب حضاري, صنع الحضارة منذ فجر التاريخ من آلاف السنين, وذلك بتراكم الخبرات والقدرات, مما أدي إلي تأسيس العلوم والطب والعمارة علي مر القرون.
وللمصريين قدرة فائقة علي استيعاب وتمصير الحضارات الوافدة علي مر الزمن, ومواصلة التقدم الحضاري والمساهمة الفعالة في تقدم الإنسانية. وفي عصرنا الحديث اعتراف بقدرات المصريين وإسهاماتهم في التقدم في أوروبا وأمريكا. فهل الجامعات في مصر تحقق طموحاتنا نحو مستقبل أفضل؟
وفي بلدان العالم يجري تقدير الجامعات طبقا لقدرات أساتذتها وإسهاماتهم العلمية. وهذا لا يحققه قانون للجامعات في مصر, الذي يحدد مسارا مغلقا لتكوين أعضاء هيئة التدريس. فالجامعات المصرية تستقطب الطلبة الممتازين والمتفوقين من الثانوية العامة, وبعد انتهاء الدراسة يجري تعيين الأوائل معيدين. وبعد تأهيلهم في جامعاتهم بدراسة الماجستير, يجري لحاقهم في بعثات علمية في جامعات أوروبا وأمريكا للدراسة وأبحاث الدكتوراه للتخصص في العلوم الحديثة. فكيف يكون مصير هذه النخبة بعد العودة للوطن؟
هنا تبدأ المشكلة. فأول خطأ هو أن الدكتور العائد يجري تعيينه فورا مدرسا بالجامعة, دون ممارسة المهنة التي ينتمي إليها عمليا خارج الجامعة. والخطأ الثاني أنه بناء علي قانون الجامعات لا يوجد كيان علمي متخصص ينتمي إليه المدرسون الجدد في منظومة للإنتاج العلمي. فالأستاذ والأستاذ المساعد والمدرس كل له في وظيفته كيان مستقل في واجبات التدريس. ولا توجد خطة للأبحاث أو مجالات علمية بتميز الأقسام المتخصصة بالكليات, أو علاقات علمية تربط أعضاء هيئة التدريس بجهات الإنتاج والخدمات بمصر. والخطأ الثالث هو تراكم أعضاء هيئة التدريس بالأقسام بأضعاف احتياجات التدريس بالأقسام, بحيث يبقي فائض كبير من هيئة التدريس دون أعباء تدريس لهم, أو واجبات علمية يقومون بها في الجامعة.
والخطأ الرابع أنه مع تدني دخل الأستاذ الجامعي مما يؤثر سلبا علي وضعه الاجتماعي, أصبح من الضروري إيجاد مصدر دخل اضافي له في أعمال خارج الجامعة, دون التفرغ العلمي في جامعته للمساهمة في تقدم العلم وخدمة المجتمع.
والخطأ الخامس يرجع إلي وزارة التعليم العالي بإلزام الأساتذة بالوجود بجامعاتهم, وذلك لمجرد الوجود وليس للبحث والإنتاج العلمي بخطة عمل وأهداف محددة, ذات عائد فعال علي المجتمع.
وبالواقع الحالي وتراكم السلبيات المذكورة نهدر أكبر قيمة علمية من المتفوقين أبناء مصر, بعد التعب والجد والاجتهاد والإنفاق الزائد لإعداد هذه النخبة التي يشهد لها العالم بالتفوق ونحولها إلي ثروة ضائعة, ونفشل في الاحتفاظ بها والاستفادة منها في تقدم البلاد وتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة. والأسوأ من ذلك هو مع الإحباط المتزايد تأقلم أعضاء هيئة التدريس بالجامعات علي هذه الأوضاع السلبية علي مدي عشرات السنين. وقد أصبح التدريس والمحاضرات بالكليات عملية روتينية تسير علي نسق التعليم الثانوي, وأصبحت البحوث العلمية فقط تكميلية للترقيات الفردية لأعضاء هيئة التدريس, ولا علاقة لهذه البحوث بتطور وتقدم البلاد, ودون تمويل من الجامعة. والآن قد آن الأوان لتغيير هذا الوضع السلبي والاستفادة من خبرات أساتذة الجامعات في تطوير مستقبل مصر, حيث إن الكليات بالجامعات هي قمة التخصص في المهن العالية التي ينبني عليها المجتمع ومؤسسات الدولة الحديثة مثل الهندسة والطب والاقتصاد والقانون وغيرها.
ولتحقيق هذا الهدف يمكن إنشاء كلية جديدة للدراسات العليا والبحوث في نطاق جامعة القاهرة, تختص برعاية البحوث الممولة, تكون ممولة من الجامعة أو من جهات حكومية, أو من المساهمة الاجتماعية للشركات, مع وضع برنامج سنوي للبحوث التي تخدم خطة التنمية للدولة, ولتوظيف كفاءات هيئة التدريس بالكليات في المشروعات الإنتاجية للدولة والقطاع الخاص, وكذلك وضع الخطط الفعالة لتنمية الخبرات العلمية لأعضاء هيئة التدريس, وهي أمور لا يشملها قانون تنظيم الجامعات في مصر. وبذلك تتكون لدينا قاعدة علمية من الباحثين في مجالات تنموية متعددة, سوف تضيف بعدا جديدا لجهود التنمية في مصر.
ساحة النقاش